لما هزمناهم… غزوة بدر
تقديم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد :
ففي ظل هذه المرحلة العصيبة التي تمر منها أمة الإسلام وفي ظل هذه الحملة الشرسة التي تواجهها أمة الحبيب-صلوات الله وسلامه عليه-قصد القضاء عليها بالمرة بعد أن استطاعوا قطع أوصالها وقطع العلاقة بين ماضيها وحاضرها؛ ارتأيت أن أكتب هذه الكلمات لعلها تنسينا مرارة ما نعيشه في أيامنا هذه وتعود بنا شيئًا للماضي لنرتوي من نبع البطولات بعد أن أوشكنا أن نلقى حتفنا. ولنتسلق القمم التي رسمها أبطال أمتنا بعد أن سئمنا العيش بين الحفر وكلنا أمل أن نجد ذلك النبع الصافي الذي شرب منه عظماء أمتنا حتى نشرب منه ونغسل منه هذه الأدران.
وفي هذه السلسلة…. أصطحب القارئ الكريم في رحلة ممتعة نكسر فيها حاجز الزمان والمكان نسافر فيها عبر حقبات التاريخ الإسلامي لننتقل سوية إلى بقاع مختلفة من أراضي الأمة الإسلامية الشاسعة؛ لنسبر أغوار الغزوات والمعارك الإسلامية المجيدة التي حقق فيها المسلمين النصر وسنحاول إن شاء الله الوقوف على أسباب النصر في هذه المعارك وسنحاول جاهدين أن نستفيد منها باستخراج الدروس والعبر التي تحويها وليس هدفنا في هذه السلسلة سرد أحداث تلك المعارك بل كل ما يهمنا هو الوقوف على أسباب النصر لعلها تكون لنا زادًا في طريقنا نحو إعادة ما فقدناه منذ عشرات السنين.
والله نسأل التوفيق والسداد…
غزوة بدر الكبرى
في صباح يوم الجمعة السابع عشر من رمضان حدث ذلك الحدث الذي كان السبب في بداية الدولة الإسلامية الفتية العهد، بقيادة سيد الخلق محمد-صلى الله عليه وسلم-.
من المدينة خرجوا وهم لا يزيدون عن ثلاثة مئة وأربعة عشرة رجل وهم لم يخرجوا للحرب ولم يستعدوا لها وإنما كان هدفهم أن يسترجعوا أموالهم التي سلبتها قريش منهم وأن يعترضوا سبيل تلك القافلة القادمة نحو الشام و المحملة بأموالهم.
وكان هذا الأمر الذي أقدم عليه الحبيب المصطفى أمرًا إلهيًا حيث أذن له المولى عز وجل بهذا الأمر الذي صراحة يشكل مرحلة هامة في حياة هذه الدولة الفتية قال تعالى في محكم تنزيله :
(أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا ۚ وَإِنَّ اللَّهَ عَلَىٰ نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ)
وفرح أسد الله حمزة بن عبد المطلب بنزول هذه الآية فرحًا شديدًا فقد كان ينتظر هذه الفرصة منذ سنوات، وأذن في الناس يخبرهم بهذا الخبر الجلل واستبشرت تلك النخبة المؤمنة بهذا الأمر فقد منعوا من القتال لحوالي ثلاثة عشرة سنة و الآن أعطي لهم الضوء الأخضر لمقارعة الكفار.
و إلى هذه اللحظة الكل يظن أن الأمر هو مجرد اعتراض قافلة لا يتجاوز عدد أفرادها خمسين والاستيلاء عليها ثم ينتهي الأمر، غير أن ما وقع مخالف تماما لما يظنون.
فأبو سفيان بلغه خبر خروج النبي صلى الله عليه وسلم و أصحابه لاعتراض القافلة فبعث ضمضم بن عمرو يستنفر قريشًا لأجل أموالهم، ولما نجا أبو سفيان بالعير بعث إلى قريش إن الله نجى أموالكم فارجعوا.
فقال أبو جهل فرعون هذه الأمة والله لا نرجع حتى نرد بدرًا.
وهكذا وجد الرسول صلى الله عليه وسلم ومن معه من المؤمنين أنفسهم مدفوعين إلى حرب غير متكافئة لا من حيث العدد ولا من حيث العدة وما كان منه صلوات ربي وسلامه عليه إلا أن جمع أصحابه يستشيرهم، فالأمر خطير معركة مع قريش، وما أدراك ما قريش أصحاب الزعامة بكل المقاييس وفي كل الميادين، وبين دولة لم يمض على نشأتها سوى سنتين فأشار عليه الصحابة رضوان الله عليهم فقال أبو بكر فأحسن وقال عمر فأحسن وقال المقداد بنبرة يملؤها الإيمان كلمات تكتب بماء الذهب:
يا رسول الله امضِ لما أمرك الله فنحن معك. والله لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لموسى: اذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون. والذي بعثك بالحق لو سرت بنا إلى برك الغماد لجالدنا معك من دونه.
فقال الرسول صلى الله عليه وسلم أشيروا علي وكان يقصد الأنصار فلم يسمع منهم بعد.
وفطن سعد بن معاذ سيد الأوس و الخزرج لكلام رسول الله-صلى الله عليه وسلم-وقال-رضي الله عنه- :
امض لما أردت فو الذي بعثك بالحق لو خضت بنا هذا البحر لخضناه معك وإنا لصبر عند الحرب فسر بنا على بركة الله.
ثم سار حتى نزل قريبا من بدر فلما رأى صلى الله عليه وسلم قريش بأعدادهم الكبيرة استقبل القبلة ومد يديه و قال :
”اللهم إن تهلك هذه العصابة لا تعبد في الأرض ”
فاستجاب الله عز وجل لدعوات النبي المصطفى فأنزل
(إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُم بِأَلْفٍ مِّنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ) [الأنفال:9].
ودارت رحى الحرب بين المؤمنين و كفار قريش، أول اصطدام حقيقي بين الحق والباطل وكانت الغلبة للحق بعد أن قتل سبعون من صناديد قريش من بينهم أبو جهل طاغية هذه الأمة.
وكانت هذه الحرب معنوية أكثر مما كانت مادية-فصراحة-سيلت الدماء وقتل من قتل لكن لعب الجانب المعنوي دورًا لا يمكن أن يُتخيل فالمسلمون ثبتهم الله بأن أمر الملائكة بأن يقاتلوا معهم وألقى الرعب في قلوب الذين كفروا، فهُزم الكفار رغم كثرة العدد والعدة و نصر المؤمنين رغم قلتهم وبساطة عدتهم.
هنا نستنتج أن النصر والتمكين لا يعبر عنه بالعدد ولا بالعدة ولكن بصدق الإيمان مع الله عز وجل، وكانت هذه سنة الله في الأرض، فالمسلمين على مر التاريخ لم يُنصروا بسبب قوتهم ولكن بسبب صدق إيمانهم.
فمتى صدقوا مع الله وجعلوا الحاكمية لله وحده وتمسكوا بتعاليم الرسول-صلى الله عليه وسلم-نصرهم الله ولو كانوا قلة، وحين يستكينوا لأعداء الإسلام ويقدموا تنازلات على حساب الإسلام والمسلمين هزموا ولو كانت أعددهم لا تحصى والتاريخ على ذلك شهيد
فبعد معركة بدر ستأتي معركة أحد التي كاد أن يُهلك فيها المسلمون بسبب: أنهم خالفوا أمر الحبيب المصطفى، فسنن الله ثابتة لا تتغير؛ فمتى حققنا شروط النصر نصرنا الله ومتى تخاذلنا خذلنا الله، وسيظهر هذا جليًا في الغزوات و المعارك التي سنتطرق إليها في القادم من هذه السلسلة إن شاء الله .
وصدق الفاروق عمر رضي الله عنه لما قال :
” نحن قوم أعزنا الله بالإسلام فمهما ابتغينا العزة في غيره أذلنا الله ”
وسأتطرق هنا إلى بعض الدروس المستفادة من هذه المعركة الخالدة في تاريخ المسلمين
الدرس الأول المستفاد
صدق الصحابة رضوان الله عليهم في موالاتهم للمؤمنين ومعاداتهم للكافرين وقد ظهر هذا جليا في معركة بدر حيث أقدم الفاروق عمر رضي الله عنه بقتل خاله العاص بن هشام بن المغيرة وقتل حمزةُ وعليٌ وعبيدةُ بن الحارث أبناء عمهم عتبةَ وشيبةَ والوليدَ بن عتبة وذلك في المبارزة وأوشك أبو بكر الصديق أن يقتل ابنه عبد الرحمن قال تعالى :
(لَّا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ ۚ أُولَٰئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُم بِرُوحٍ مِّنْهُ ۖ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ۚ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ۚ أُولَٰئِكَ حِزْبُ اللَّهِ ۚ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) [المجادلة : 22].
الدرس الثاني المستفاد
تنبيه الله للمؤمنين إلى حقيقة هامة: وهي أن لا يجعلوا حب المال يسيطر عليهم في الأوقات الحرجة وعند النظر إلى قضاياهم الكبرى التي قامت على أساس النظرة الدينية وحدها ولذا عالج الله تعالى تجربة رؤية الغنائم مع الحاجة والفقر بشكل قمة في الحكمة قال الله تعالى:
(يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنفَالِ ۖ قُلِ الْأَنفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ ۖ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ ۖ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ) [الأنفال: 1].
وقال تعالى :
(مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الآخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) [الأنفال: 67].
الدرس الثالث المستفاد
إن الدعاء من أعظم أسباب النصر على الأعداء قال تعالى :
(إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُم بِأَلْفٍ مِّنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ) [الأنفال:9].
الدرس الرابع المستفاد
إن الإيمان والعمل الصالح هي من أعظم أسباب النصر والتمكين ولذلك وعد الله المؤمنين الصالحين في غير آية من القران قال تعالى:
(إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ) [ غافر : 51 ].
الدرس الخامس المستفاد
إن الجهاد من أفضل الأعمال، وهو ذروة سنام الإسلام، لما يترتب عليه من: إعلاء كلمة الله، ونصر دينه، وقمع الظالمين والمنافقين الذين يصدون الناس عن سبيله ويقفون في طريقه، ولما يترتب عليه من إخراج العباد من ظلمات الشرك إلى نور الوحي.
في الختام
إن غزوة بدر الكبرى ليست حدثًا تاريخيًا ولى زمانه، وإنما هي معلمة ومنار ينير للمسلمين في كل زمان معالم طريق العزة والحياة الطيبة الكريمة متى استوفوا شروط التمكين و النصر التي بها تأهل أهل بدر لتأيد الله تعالى.
و إلى معركة قادمة من معارك الإسلام المجيدة أستودعكم الله الذي لا تضيع ودائعه وكلي أمل أن ألتقي بحضاراتكم في الجزء الثاني م
للإشارة أُخذت هوامش السيرة في هذا الجزء من كتاب السيرة النبوية للشيخ الشعراوي رحمة الله عليه.
ن هذه السلسلة.