عندما حرمتني “الصحوة” من احتراف كرة القدم!
المرة الوحيدة التي ذهبت فيها لحضور مباراة كرة قدم في استاد رياضي؛ عندما حضر النادي الأهلي ليعلب مباراته في الدوري مع نادي مدينتنا. وكان ذلك مع والدي -رحمه الله- الذي كان يتابع مباريات النادي الأهلي كتقليد عائلي قديم! كان ذلك عندما كان عمري عشر سنوات، وكانت تجربة غير ممتعة أبدًا، بسبب الزحام والصخب؛ فكنت كالتائه لا يدري بما يجري من حولي.
المشهد الوحيد الذي علق بذهني يومها، هو الذي وقع أمامي مباشرة؛ ففي الشوط الثاني كان فريقنا استنفد التبديلات، لكن “نداء الطبيعة” هتف بكابتن الفريق، الذي لبَّاه سريعًا. فوقف عند راية الزاوية وأعطى ظهره للجمهور، ولبَّى النداء بلا تردد ولا حياء، وبطبيعة الحال حصل على بطاقة صفراء!
لكن كان لعب كرة القدم في شوارع الحي مع الأصدقاء متعة حقيقية، وكدت أن أحترف مع صديقي في المدرسة “لبلب” الذي كان “ماردونا الصغير”. ولأنني كنت “حريفًا”؛ فقد كنت ألعب مع فريق الحي الكبير وليس مع أقراني. لكن قدر الله وما شاء فعل، فقد جاءت “الصحوة” واختطفتني في سن السابعة عشرة، وقضت على حلم الاحتراف!
يومها ظننت أن الالتزام والدعوة أمر جاد للغاية، لا يحتمل اللعب؛ لكنني فوجئت بالمشايخ والدعاة ينظمون “ماتشات” كرة قدم بشكل منتظم يوم الجمعة، من بعد صلاة الفجر وحتى العاشرة صباحًا، ثم يذهبوا ليستعدوا لصلاة الجمعة. وكان “الشيخ حمودة” هو الأكثر مهارة بين الجميع، والأكثر إصابة بين المشايخ!
هذا النشاط كان مستمرًا، وتجدُ فيه خليطًا من الشباب الملتحين وغير الملتحين، ومن الجيران والمعارف والأصدقاء. وكان الأدب والاحترام بين الجميع هو السمة الأكثر لفتًا للانتباه، مقارنةً بما كنا نراه في أماكن أخرى يكثر فيها الخصام والسباب والعراك.
وقتها لم أشارك في هذا اللعب، لأني ربما اكتفيت بما لعبت، أو لظني أن الأمر “لهو”، وأنني بحاجة لجدية أكثر. وأخذتني الجدية لطريق جيد، حققت فيه إنجازات نافعة لي وللناس؛ لكنني في الوقت نفسه نسيت نصيبي من بعض مباحات الدنيا.
بعد وقت من النضوج العلمي والفكري، أدركت أن لعب كرة القدم كلَّ جمعة لم يكن عبثًا، بل كان يحمل مجموعة من الرسائل التربوية المهمة؛ فهو في الأساس تلبية لحاجة ضرورية للترويح عن النفس وتنشيطها أكثر للجدية التالية، كما كان تدريبًا على الأخلاق والتعامل المُهذِّب وسعة الصدر مع “الخصوم” في الفريق الآخر المختلف والغريب، والذي لم نشعر أنهم خصوم، وكان تدريبًا عمليًا على النهوض بعد السقوط، وعلى تحمل تلقي الصدمات وتفادي الصدامات.
وأدركت أنه ليس شرطًا أن يكون كل اللاعبين، أو المهتمين باللعب من اللَّاهين، فكان من الذي يعلموننا ديننا، وممن نأتمُّ بهم في الصلاة لاعبون بارعون. وقد وازنوا في حياتهم، وأعطوا كل شيء حقه الذي يستحقه، ولم يطغَ جانب على آخر في حياتهم.
وأدركت أن للواقع تأثيرًا كبيرًا في تشكيل تفكير الناس، وسلوكهم واهتماماتهم وحياتهم، وأن محاولة تجاهل اهتمام الناس الكبير بكرة القدم -مثلًا- وصرفهم عنها بالكلية، وانتزاعهم من هذه الاهتمامات أمر شاق للغاية، يضر ولا ينفع.
وأدركت أن هذا “اللهو” باب من أبواب كسب “القلوب اللاهية”، وأخذها برفق إلى الخير والحق، ما دُمتَ تستثمر رصيد الفطرة والخير في قلوب هؤلاء، رحمةً بهم وإرادةَ الخير لهم. مع التسليم بأن الجدية والاهتمام بمعالي الأمور والقضايا الكبرى للأمة، ودفع الناس للاهتمام والانشغال بها مطلبٌ حيوي لنهوض الأمة؛ يجب التسليم بأن قاعدة كبيرة من الناس لا تستطيع تحمل هذه الجدية وتبعاتها.
وأدركت أن محاولة جعل كل من حولك كما تريد أنت، وعلى صورة واحدة تراها الحق والصواب، هو مستحيلٌ رابعٌ يُضاف إلى الغول والعنقاء والخِل الوفي، وأن هذا مصادم لمراد الله الذي جعل الناس مختلفين، الذي لو شاء لجعلهم أمة واحدة، ولذلك فإن من الحكمة أن نجعل الناس حول الدين، كالدوائر حول النواة؛ فكلما اقتربت الدائرة من المركز كانت أكثر التصاقًا وعناية به. لذا، فإن من الحكمة كذلك؛ أن نوسع ونكثر الدوائر حول المركز، مهما ابتعدت عنه، لتكثر دوائر الحماية له؛ لا أن نحاول نحصر الأمر في دوائر قليلة تضعف مع الزمن لقلة دوائر الحماية.
رأينا في كأس العالم في قطر، عامة “الناس اللَّاهين” تكره الرذيلة وتزدريها وأهلها معًا، وتدافع عن الفضيلة وتحبها، ورأينا موقع قضية الأمة المركزية، قضية فلسطين، من اهتمامات هؤلاء “الناس العابثين”، وكيف يتعلقون بها -ولو شكليًا-، ورأينا كيف تؤثر كلمات بعض اللاعبين الذين لديهم “خلفية دينية” في ملايين الناس بشكل إيجابي.
ولكل مَن يرى أن هذه الرياضة عبث كلها؛ له الحق في أن يقتنع بما يراه صوابًا، لكن ليس له الحق في أن يُخطئ ويعادي من لا يتبنى رأيه، أو مَن يرى أن هذه المناسبة سوق لكسب بعض القلوب وهدايتها للحق، وفرصة لإثارة بعض القضايا المهمة، كما كان يفعل أولئك الدعاة بعد صلاة الفجر كل جمعة. وذلك (لأن يهدي الله بك رجلًا واحدًا؛ خير لك من حُمر النعم)، مهما كان موقع هذا الإنسان، ومهما اختلفت اهتماماته وشغفه.
الناس -كل الناس- هُم المادة الخام لدعوة الحق، وكل العلماء والدعاة والمصلحين والهداة والمفكرين والمؤثرين، خرجوا من بطون أمهاتهم لا يعلمون شيئًا، وكانوا في مجالات شتى واهتمامات مختلفة وأنشطة متباينة في الحياة، حتى قدر الله لهم سبيل الهداية، وبقوا في ذات مجالاتهم واهتماماتهم وأنشطتهم.
إن من الحكمة والوعي الصحيح، العملُ على إيصال الخير إلى كل مجالات اهتمامات البشر، وألَّا نخرجهم منها ليكونوا كلهم “طلبة علم”؛ بل ليكونوا نموذجًا صالحًا في عملهم، ودعاة إلى الهدى والإصلاح في مجال تميزهم واهتمامهم.
في مقام الدعوة ينبغي التخلي عن نظرية “العوام هوام”، والنظر إلى “كل الناس” على أنهم مشروع هداية؛ فكلنا كُنَّا من العوام، وكُنَّا مشروع هداية شخص ما. ولن تجد أعجب من أمر الله -سبحانه- لموسى وهارون -عليهما السلام-، بالذهاب إلى فرعون الذي طغى، ليقولا له قولًا ليِّنًا؛ لعله يتذكر أو يخشى!
أخيرًا .. لا تظن أن ثباتك الآن على الحق والخير والهداية والصلاح، هو بقُدرة ذاتية منك، وأنك غير قابل للعودة إلى خانة “العوام” مرة أخرى! فالمنَّة لله -وحده- الذي قال لسيد المرسلين: {وَلَوْلَا أَن ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ}. وفي هذا السياق أستحضر دائمًا قوله تعالى: {كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْل فَمَنَّ اللَّه عَلَيْكُمْ}.
اكثر من ممتاز بارك الله فيكم ولكم وعليكم أستاذنا الحبيب