
عندما يحكم الملحدون.. الجذور الأيدلوجية لحرب الصين على الإيمان والمسلمين
المهتمون بأحوال الأقليات المسلمة غالبا ما علموا وسمعوا وتابعوا التصاعد العنيف في تعامل الصين مع المسلمين الإيغور خاصة بعد تولي الرئيس الحالي (شي جين بينغ) مقاليد السلطة في 2012م، لكن هذه المعرفة غالبا ما كانت عامة أو إدراكا لهامش الأحداث، دون الوقوف على تفاصيل الإبادة الجماعية لشعب يزيد عن 25 مليون مسلم سني يتعرضون لأبشع وأقسى وأقصى درجات المحو الديني والعرقي والثقافي، بحيث إن أفعال هتلر وستالين والكيان الصهيوني قد تتضاءل إذا قورنت بأفعال الدولة الصينية مع المسلمين الإيغور.
لكن المسألة الأخرى الأكثر خفاءً، هي الأبعاد والخلفيات والجذور الأيدلوجية المحركة والدافعة والمحفزة للدولة الصينية للقيام بهذه الجرائم وهذا الاضطهاد البشع، والأنظمة والقوانين والتطبيقات العملية التي تحوِّل هذه الأيدلوجيا إلى سلوك عملي يتسم بالعنف الممنهج تجاه المسلمين الإيغور على وجه الخصوص.
لذلك سوف نستعرض في هذه الدراسة هذا الجانب وهذه الأبعاد، لفهم الدوافع العقدية والأفكار الفلسفية التي تقف وراء هذه الجرائم، وأنها ليست مجرد صراع سياسي، أو مواجهة مزعومة لإرهاب أو تطرف، أو هدف اقتصادي صيني كبير يتطلب إخضاع سكان أقصى غرب الصين لأجل تحقيقه.
الإلحاد «دِيـــن» الدولة!
في المستقبل غير البعيد، فإن الأعراق المتحضرة ستُبيد الأعراق الهمجية وتحل محلها في جميع أنحاء العالم
تشارلز داروين
منذ بداية الثورة الفرنسية عام 1789م تعرض الدين والمؤسسات الدينية في أوروبا وحول العالم للهجوم، وتم التشكيك في مكانة الدين في تنظيم المجتمع وأهميته وتأثيره على الأفراد والدولة بشكل لم يسبق له مثيل، فتعامل «الثوار» مع رجال الدين على أنهم «ملاك أراضٍ» و«طفيليات» على جسد الأمة الفرنسية، في ذلك الوقت، لم يُسمع ضجيج «الشك الديني» (الإلحاد) إلا من حفنة قليلة.
لكن في القرن التاسع عشر، توسعت العداوة ضد الكنيسة، فوصلت إلى الإيمان المسيحي بشكل عام، وظهر دعاة علمانيون جدد، مفكرون وسياسيون وفلاسفة، صنعوا رؤى أيديولوجية تستند إلى (الداروينية) الملونة سياسيا، وعلى الرغم من أن عقائدهم هذه كانت مجرد نظريات، إلا أنهم دافعوا عنها بحماسة كأنه دفاع عن دين، وفي ظل الثورة الصناعية والتقدم الهائل للعلوم والتكنولوجيا، ادَّعَوا ملكية كل إنجاز بشري، وشنوا حربا من أجل قلوب وعقول الناس، بحجة أن العلم والدين عدوان عنيدان.
في عام 1917م استولى الشيوعيون على السلطة في روسيا، وكان لدى البلاشفة الإيمان الكافي بالأيديولوجية الماركسية، التي رفضت الحاجة إلى المؤسسات الدينية والمعتقد الديني، وفي القرن العشرين، تبنَّت جميع الحركات الوطنية في مرحلة ما بعد الاستعمار تقريبا الماركسية العلمانية المعادية للدين كأيديولوجية لها.
في القرن العشرين، كانت الماركسية أيديولوجية مهيمنة، إن لم تكن منتصرة وغالبة في الغالب في الشرق الأوسط وأفريقيا وأمريكا اللاتينية وآسيا، حين تبنتها النخب الوطنية الجديدة وحوَّلتها لتناسب أجنداتها السياسية الخاصة.
وكانت الصين من بين الدول التي اعتنقت الماركسية وسلالتها البلشفية الثورية اللينينية، لصناعة تحديثها واستقلالها المفقود، واليوم، الصين هي القوة العالمية الوحيدة التي لا تزال فيها الأيديولوجية الماركسية اللينينية موجودة بمنأى عن التراجع الشيوعي.1
وكان من أقوال (ماو تسي تونغ) مؤسس جمهورية الصين الحديثة عام 1949م في (الكتاب الأحمر): «إنَّ نظريات ماركس وإنجلز ولينين وستالين، صالحة للعالم أجمع، فلا يجوز لنا أن نعتبر نظرياتهم عقيدة جامدة، بل علينا أن نعتبرها مرشدا للعمل، ولا يجوز لنا أن نكتفي بمجرد تعلم بعض العبارات والأقوال من الماركسية-اللينينية، بل يجب أن ندرس الماركسية اللينينية بوصفها علم الثورة، وإن نواة القوة التي تقود قضيتنا هي الحزب الشيوعي الصيني، والأساس النظري الذي يرشد تفكيرنا هو الماركسية-اللينينية، فالشيوعية نظام كامل للإيديولوجية البروليتارية، وهي في نفس الوقت نظام اجتماعي جديد، وهذا النظام الأيديولوجي والاجتماعي يختلف عن أي نظام أيديولوجي واجتماعي آخر، فهو أكثر النظم كمالا وتقدّمية وثورية ومنطقية في التاريخ الإنساني».

يقول الكاتب الأمريكي الهندي الأصل (دينيش ديسوزا): «ارتُكبت جرائم الإلحاد عموما من خلال أيديولوجية متغطرسة، ترى أن الإنسان هو صانع القِيم وليس الله، فباستخدام أحدث تقنيات العلم والتكنولوجيا، يسعى الإنسان إلى «تهجير الله» وخلق جنة العلمانية هنا على وجه الأرض، وبطبيعة الحال إذا كان هناك بعض الناس غير الأكفاء فيجب «القضاء عليهم» من أجل تحقيق هذه المدينة الفاضلة، هذا هو الثمن الذي أبدى الطغاة الملحدون استعدادهم لدفعه، وهم هنا يؤكدون مقولة الروائي الروسي فيودور دوستويفسكي: «إن لم يكن هناك إله، فكل شيء مباح».2
وفي هذا السياق قال (ماو تسي تونغ): «من مبادئنا العسكرية: أن يكون الهدف الرئيسي هو إبادة قوات العدو كلّيا دون أن يتمكَّن واحد منها من الإفلات، لأنّ مسألة “استئصال” العناصر المعادية للثورة.. هي مسألة نضال».
هذه التيارات الفكرية هيّأت الأرضية الثقافية المناسبة لاستقبال أفكار (داروين) التطورية، ليس في جزئها العلمي، بل في توظيفها الاجتماعي، الذي يقوم إلى حقيقة أن البشر والثدييات الأخرى هي نتيجة لما أسماه «الانتقاء الطبيعي» أي الصراع الأعمى الذي يبقى فيه الأصلح والأقوى فقط، ونتيجة لذلك يموت الأضعف والأقل ملاءمة، وكما يوظف السياسيون المصالح والأفكار المادية لخدمة مساعيهم دون أي اعتبار أخلاقي.
صنعت أفكار (داروين) جيلا جديدا من القادة السياسيين والمفكرين الاجتماعيين والعلماء، واعتبروا أفكاره مبررا بيولوجيا ماديا للهيمنة، كما قال أستاذ التاريخ ريتشارد فيكارت: «الداروينية وحدها لم تنتج النازية، لكن بدونها لم يكن هتلر وأتباعه النازيون، ليدعموا فظائعهم الوحشية بما يكفي من أدلة علمية لتحويلها إلى أفعال أخلاقية».3
أثر الإلحاد.. قتل وخراب
وإذا انتقلنا على التطبيقات العملية لهذه الأفكار وطرحنا السؤال التالي: من هو أكبر وأبشع قاتل جماعي في القرن العشرين؟ سيكون الجواب البديهي غالبا: (هتلر) وربما «ستالين»! لكن في تعداد أسوأ 10 قتلة ومُبيدِين للبشر في التاريخ البشري الحديث والمعاصر، احتل ستالين المرتبة الثانية، واحتل هتلر المرتبة الثالثة، أما الأسوأ على الإطلاق والذي تصدر قائمة أبشع القتلة، فكان (ماو تسي تونغ) مؤسس جمهورية الصين الشعبية عام 1949م! وتظهر قائمة أكبر القتلة جماعيا، أن نصف هؤلاء كانوا من الملاحدة الشيوعيين وهم:
- التاسع: منغستو هايلي مريم – إثيوبيا (400 ألف – 1.5 مليون حالة قتل).
- الثامن: كيم إيل سونغ – كوريا الشمالية (1.6 مليون حالة قتل).
- السابع: بول بوت -كمبوديا (1.7 مليون حالة قتل).
- الثاني: جوزيف ستالين – الاتحاد السوفيتي (23 مليون حالة قتل).
- الأول: ماو تسي تونغ – الصين (49-78 مليون حالة قتل).4
وقد قام (نفيد شيخ) أستاذ العلاقات الدولية والمحاضر بجامعة (كيل) البريطانية، في عام 2009م بنشر دراسة مهمة بعنوان: (تعداد القتلى: استعراض كمي للعنف السياسي عبر الحضارات العالمية)، قام فيها بمراجعة كل الحروب التي جرت بين الدول، بما في ذلك الحروب الأهلية والمذابح العرقية والجماعية وغيرها من الأحداث العنيفة، التي تجاوز عدد القتلى في الحدث الواحد منها عشرة آلاف قتيل، وحلل هذه الأحداث التي جرت منذ العام الأول الميلادي إلى العام 2008م الميلادي.
حصر (نفيد شيخ) (276 حدثا) عنيفا ضخما خلال هذه الفترة الزمنية الكبيرة (2008 سنة)، ثم قام بتصنيف ديانات العالم إلى سبع ديانات وحضارات رئيسية: (الملاحدة، البوذية، المسيحية، الهندوسية، الإسلام، البدائية، الصينية)، وجاءت نتائج الدراسة مثيرة للاهتمام، حيث تصدرت الحضارة المسيحية كأكبر من تسبب في إزهاق أرواح البشر، وتبعها مباشرة في المركز الثاني الملحدون بحصاد للقتلى يتراوح بين (97 إلى 153 مليون) قتيل، وهو ما يناقض تماما الدعاية لفردوس «السلام الإلحادي» الذي يمثل رسالة سامية جاءت لتنقذ الناس من عنف الأديان!5
وعلى الرغم من أن «الحضارة المسيحية» قد احتلت الصدارة بعدد قتلى يتراوح بين (120 إلى 237 مليون) قتيل في الفترة ما بين العام الأول للميلاد وعام 2008م، فهذا يعني أن فترة القتل الزمنية امتدت 2008 سنة، أما الفترة التي قتل فيها الملاحدة ما بين (97 إلى 153 مليون) إنسان، فلم تتجاوز 100 سنة فقط! أي لو أعدنا الترتيب حسب نسبة القتل مقارنة بالفترة الزمنية، لَتربع القتلة الملحدون في صدارة قائمة التوحش عبر التاريخ الإنساني بلا منازع، ولَكان أبشعهم على الإطلاق ملاحدة الصين.
والشيوعية الصينية، مثل أي أيديولوجية سياسية راديكالية، هي دينية بطبيعتها، فالماركسية اللينينية هي أيديولوجية تعزز ديكتاتورية وسيادة مجموعة اجتماعية واحدة، أو حزب واحد، على جميع الآخرين، ولا تتسامح مع التعددية السياسية أو الاقتصادية.

لا تقبل النخب السياسية الشمولية والاستبدادية التي تتبنى الماركسية كأيديولوجية لها «فكرة الله»؛ فإله الدولة الماركسية هو الحزب وأيديولوجيته وزعيمه، وكل شرعية للسلطة تنبع من هذه المراكز الثلاثة: (الحزب-الأيديولوجية-الزعيم) وقادة الحزب هم أساقفته، والناشطون السياسيون والكوادر هم كهنته وشَمامِسَته.6
والحزب الشيوعي الصيني (CCP) ملحد رسميا، ويحظر على المؤمنين الدينيين الانضمام إليه، ويسمح الدستور الصيني بممارسة «الأنشطة الدينية العادية» فقط، التي يتم تعريفها بشكل ضيق على أنها: الممارسات التي تتم في الأوقات والأماكن التي توافق عليها الدولة والتي تدعم الحكومة وسياساتها، وتؤمن هذه العقيدة بأن الأديان هي ابتداعات بشرية بحتة، وأن الله والكائنات الخارقة للطبيعة الأخرى غير موجودة. وبدءا من الصفوف الأولى، يتعرض الطلاب الصينيون للدعاية المعادية للدين، يتعلمون أن الدين هو «خرافة إقطاعية» من بقايا الماضي التي تعيق البلاد، وهو المسؤول عن العديد من مشاكلها.
أعلن ماو تسي تونغ (1893م- 1976م) الزعيم الأعلى للصين بعد ثورة 1949م حتى وفاته، أنه نظرا لأن الناس المتخلفين مرتبطون بأديانهم، فليسمح الحزب لهم بممارسة محدودة الظهور، وفقا لغايات الحزب المحددة سلفا، مع مساعدة وتوجيه إضافيين في شكل دعاية وتعليم في العلوم والعقلانية.
ولطالما كان للدين والدولة علاقة مثيرة للجدل في الصين، ولكن التهديد الأخير لها جاء مع زوال الاتحاد السوفييتي وتحرير الأراضي التي احتلها في أوروبا الشرقية، وهي الأحداث التي احتُفل بها في مختلف أنحاء العالم باعتبارها انتصارا للحرية، ولكن قادة الصين اعتبروها كارثة عالمية، فكانت الإطاحة بالنظام السوفيتي تعني نبذ نوع الماركسية اللينينية التي لا تزال العقيدة الرسمية لجمهورية الصين الشعبية حتى اليوم.
فأرسل الحزب الشيوعي الصيني باحثين إلى روسيا وبولندا لتحديد الخطأ الذي حدث هناك، ومع ذلك، منعت أيديولوجية الحزب أي شخص من مناقشة المشاكل الرئيسية، مثل القمع والركود الاقتصادي وأهوال معسكرات العمل السوفيتية، وبدلا من ذلك، كان الاستنتاج المعلن هو أن «الدين» هو المسؤول! لم يكن لزخم الثورة في أوروبا الشرقية أي علاقة بالعيوب في تنفيذ الماركسية اللينينية، بل كان يكمن في استمرار «الإيمان الديني»، وبالتالي، فإن السياسات الدينية الحالية للحزب الشيوعي الصيني، هي امتداد للدروس المستفادة من تحليل تاريخ الصين، وزوال الدول الماركسية الأوروبية المتحالفة أيديولوجيا.7
إلحاد الدولة.. والإرث الدموي!
«إلحاد الدولة» يعني: دمج «الإلحاد الشديد» أو «عدم الإيمان» في الأنظمة السياسية، ويشير إلحاد الدولة إلى مناهضة الحكومة لرجال الدين، ومعارضة السلطة للمؤسسة الدينية وتأثيرها في جميع جوانب الحياة العامة والسياسية على وجه الخصوص، بما في ذلك إشراك الدين في الحياة اليومية للمواطن، وقد اتبعت غالبية الدول الشيوعية سياسات مماثلة منذ عام 1917م فصاعدا.
فجمهورية الصين الشعبية دولة ملحدة رسميا منذ عام 1949م ويحكمها الحزب الشيوعي الصيني، الملحد رسميا، ويحظر على أعضاء الحزب ممارسة الشعائر الدينية أثناء وجودهم في مناصبهم وبعد تقاعدهم منها.8
وتنص ديباجة الدستور الصيني، بعد التعديل في 14 مارس 2004م -حسب الموقع الرسمي- على أنه: «تحت قيادة الحزب الشيوعي الصيني وتوجيه الماركسية اللينينية، وفكر (ماو تسي تونغ)، سيواصل الشعب الصيني من جميع القوميات التمسك بالديكتاتورية الديمقراطية الشعبية والطريق الاشتراكي».9
ومع تبني الصين الإلحاد رسميا كدين سياسي مؤسسي للدولة، لم تتسامح السلطة المركزية في الصين مع الأديان والمعتقدات التقليدية، ومع أن المادة 88 من الدستور الأول لجمهورية الصين الشعبية تنص على أن «المواطنين في الصين يتمتعون بحرية المعتقد الديني» لكن اللجنة المركزية للحزب الشيوعي الصيني تفسر هذه المادة كما يلي:
- الناس الذين يؤمنون بدين لديهم الحرية.
- يتمتع الأشخاص الذين لا يؤمنون بدين ما بالحرية، بما في ذلك حرية أن يكونوا ضد الدين.
- للناس حرية تغيير المعتقد الديني.
فيتمتع الملحدون بـ«الحرية» في أن يكونوا ضد الدين، مما يعني أنه يمكنهم مهاجمة المتدينين أو السخرية منهم، على العكس من ذلك، يتمتع المؤمنون بالحرية، لكن ليس لديهم الحق المنصوص عليه صراحة للدفاع عن إيمانهم، ضد إهانات أولئك الذين لا يحترمون رغبتهم في العبادة، وهكذا، وبطريقة خفية، تُشجع اللجنة المركزية للحزب الشيوعي الصيني، أو على الأقل، تفتح الباب أمام الأعمال والدعاية المعادية للدين.
يتعامل الحزب الشيوعي مع الدين والممارسات الدينية أحيانا بقبضة حديدية في قفازات مخملية، وأحيانا بعداء مفتوح، واليوم، الحكومة الشيوعية متيقظة ضد أي علامة على وجود معارضة مستوحاة من الدين أو الإيديولوجيا، فتعمل بلا كلل لتثقيف المجتمع وتلقينه واستيعابه في طقوس الدولة ومعتقداتها، فتطالب بالولاء التام لعقيدتها، وتعاقب «الخونة» لها بلا رحمة.10
الإصلاحات الدموية!
الحزب الشيوعي الصيني بزعامة (ماو تسي تونغ) وبعد الانتصار في الحرب الأهلية على قوات الحزب الحاكم، أعلن قيام جمهورية الصين الشعبية سنة 1949م، وبنجاح الثورة الشيوعية في الصين انطلقت عملية الهندسة العميقة لهياكل الدولة ومؤسساتها، وفق تعاليم الماركسية اللينينية المعادية للقومية والإمبريالية وللإقطاعية وللعقائد الدينية، التي يعتقدون أنها تشكل عائقا نحو إنشاء المجتمع الشيوعي.
فتم إعلان حرب بلا هوادة على البنى الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، وخاصة الدين، الذي اعتبروه رمزا للإقطاعية والرجعية وعائقا أمام الثورة، وبالتالي، لا بد من القضاء عليه بصفة نهائية واجتثاث دوره من الحياة العامة، فأصبحت كل الرموز الدينية والمعابد ورجال الدين هدفا مشروعا لحملات التصفية والقمع، وتحركت آلة الدعاية الجبارة لترويج الفكر الإلحادي المعادي للدين، وأيقن الشيوعيون بزعامة (ماو تسي تونغ) أن التحديث واللحاق بالغرب وتقليص الفجوة الحضارية معه، تفرض تعبئة كل الموارد المتاحة وأهمها العنصر البشري، وألا سبيل إلى ذلك إلا بتطبيق مبادئ الاشتراكية، ولا يمكن لهذا أن يتم إلا بإعادة تشكيل الوعي الجماعي، وملء الفراغ الروحي، وشحذ الحماس الثوري بصياغة عقيدة جديدة للشعب الصيني. وخلال فترة حكم (ماو تسي تونغ) شهدت البلاد العديد من المحطات البارزة التي رأوا أنها تدعم تحقيق هذه الأهداف، ولعل أكثرها جدلا على الإطلاق تجربتا «القفزة العظيمة إلى الأمام» و«الثورة الثقافية».11

القفزة العظيمة إلى الأمام
أما مبادرة «القفزة العظيمة إلى الأمام» بين عامي 1958م و1962م فكانت فكرة وبرنامج (ماو تسي تونغ) لتحويل الصين إلى جنة شيوعية، وحملة كبرى تهدف إلى تطوير الصناعة في الصين، بالتوازي مع الزراعة، لتجاوز إنجاز الغرب وللتفوق على بريطانيا العظمى، أما الثورة الصناعية، فكان الهدف منها هو التعبئة الجماعية للعمالة لتحسين الإنتاج الزراعي والصناعي، وبدلا من ذلك، كانت النتيجة انخفاضا هائلا في الإنتاج الزراعي، وفشلا ذريعا لهذه الحملة، أدى إلى تجويع واحد من كل عشرين صينيا، فما بين عام 1960م وعام 1962م تراوحت تقديرات الوفيات المرتبطة مباشرة بالمجاعة بين 23 مليونا كحد أدنى إلى 55 مليونا، على الرغم من أن الرقم الذي يتم الاستشهاد به في أغلب الأحيان هو ثلاثون مليون شخصًا ماتوا من الجوع في الصين، وتُعد هذه المجاعة على أيدي ملاحدة الصين أكبر من أي مجاعة أخرى سُجلت في تاريخ البشرية.
بحلول صيف عام 1960م ومع تضاؤل الاحتياطيات الغذائية في الريف، بدأ الفلاحون يموتون بأعداد كبيرة، فكانوا يتساقطون موتى في الحقول وعلى جوانب الطرق وفي منازلهم، وكان الناس يشاهدون جثث أفراد عائلاتهم تتعفن أمامهم، فتقوم بعض العائلات بإخفاء رفات الأقارب في المنزل، حتى يتمكن الأحياء من الحصول على الحصص الغذائية للمتوفى، ودفعت المحنة الجائعين إلى أكل أوراق ولحاء الأشجار، وغلْي الجلود وأكل التراب، ونظرا لانتشار الجوع والجثث المنتشرة في كل مكان، فقد تحوَّل البعض إلى أكل لحوم البشر، وفي بعض الأحيان كان الأشخاص، وخاصة الأطفال، يُقتلون عمدا ليُؤكلوا، وكان القرويون يتبادلون أطفالهم لتجنب أن يأكلوا أولادهم!12
لرفع الروح المعنوية للمثقفين.. اقتلهم!
بعد الفشل الذريع لتجربة «القفزة العظيمة إلى الأمام» واتهام (ماو تسي تونغ) بالمسؤولية عن المجاعات الكبرى المترتبة عنها، أدرك أن زعامته داخل الحزب على المحك، وأحس بتراخي قبضته وضمور شعبيته، فأعلن عام 1966م عن حملة جديدة تحت شعار «دع مائة زهرة تتفتح ومائة مدرسة تتبارى» لرفع الروح المعنوية للمثقفين بإبداء آرائهم بحرية، من أجل ضمان مشاركتهم في بناء صين جديدة.
وكان هذا الشعار إيذانا بإطلاق ما عرف بـ«الثورة الثقافية»، لكن عندما خرجت الأمور عن السيطرة، وشكك المثقفون في حكم الحزب وسياسات الزعيم، انقلب (ماو تسي تونغ) ضد النخبة المثقفة التي شعر أنها خانته، فأدخل البلاد في 10 أعوام عجاف، سعى فيها (ماو) إلى تطهير البلاد من العناصر «غير النقية» وإحياء الروح الثورية، فقام «بهز شجرة الصين بعنف، كي تتساقط جميع أوراقها الصفراء»، ولكي تحافظ الصين وثورتها على ديمومتها واستمراريتها، اعتقل ملايين المثقفين والمسؤولين الحكوميين، وتم إرسالهم إلى الريف للتعلم من الجماهير! والقيام بالأعمال الشاقة، وتحوّل شعار (ماو) مِن «دع مائة زهرة تتفتح ومائة مدرسة تتبارى» إلى «العمل القذر يغسل الفكر القذر»! فدعا الشباب الصيني إلى تشكيل كتائب حمراء لحماية الثورة الشيوعية، ومطاردة الزعامات البرجوازية الحمراء من كوادر الحزب الشيوعي، والفنانين والمثقفين وأساتذة الجامعات والمدرسين المعارضين له، كما أعلن الحرب على المعالم الثقافية الأربعة (الأعراف، والثقافة، والأفكار الدخيلة، والرجعية) فقَتل قرابة مليون ونصف المليون صيني، وعَذب ملايين أخرى في معسكرات الاعتقال والعمل القسري!
وقام (ماو تسي تونغ) بتوسيع النظام الذي تعارف عليه باسم (Laogai) اختصارا لـ(laodong gaizao) ويعني «الإصلاح من خلال العمل» الذي يتضمن استخدام العمل العقابي ومزارع السجون، وهو نظام يضم ألفَ معسكرِ عملٍ قسري في جميع أنحاء الصين، وقدر البعض أنه من خمسينيات إلى ثمانينيات القرن العشرين، عمل في هذه المعسكرات خمسون مليون صيني، توفي منهم عشرون مليونا، نتيجة للظروف المعيشية البدائية والعمل الشاق لمدة 14 ساعة يوميا.
وفي خضم هذه الحرب الأهلية، استبيحت المكتبات والمتاحف وكل دور العبادة وصودرت ممتلكاتها، وتم إتلاف تحف قيِّمة شملت تماثيل أثرية وكتبا تراثية، وعُزل العديد من موظفي الدولة من مناصبهم، بل تم نفيهم إلى الأرياف من أجل إعادة تأهيلهم، ومن ضمنهم كوادر رفيعة من معارضي (ماو تسي تونغ) داخل الحزب الشيوعي.13
وكان المسلمون ومساجدهم وتراثهم وعلماؤهم ومفكروهم وشبابهم من جملة من ذاقوا ويلات هذه الحملات وغيرها على يد الدولة الصينية مع بقية الشعب.
ونتيجة للرعب الذي أحدثته ثورة ماو الثقافية تزايدت شعبيته ونفوذه المطلق، وتبلورت منظومة عقائدية وفكرية جديدة، أضفت هالة من التقديس والتبجيل على الزعيم أشبه ما يكون بعملية التأليه، فبدأت عملية توزيع ونشر كتاباته التي كانت تقدم كهدايا في الحفلات، وكان أبرزها (الكتاب الأحمر) وهو مقتطفات من أقوال الرئيس (ماو تسي تونغ)، حرصت الدولة على حصول كل مواطن على نسخة منه.
كما نظمت الأناشيد الثورية للتغني بالزعيم الملهم، وتنافست المؤسسات لإعلان ولائها، فقامت الصحف بطباعة كلماته بالخط العريض الأحمر، كما وزعت شاراته الحمراء بالملايين على الصينيين، وانتشرت التماثيل والملصقات واللوحات المعبرة عنه في جميع أرجاء البلاد، حيث اعتاد المواطنون على الاصطفاف في طوابير طويلة والانحناء أمامها تعظيما وتكريما لمخلِّص الأمة ورمزها الخالد، وهكذا دفعت الثورة الثقافية لإحياء ظاهرة عبادة الفرد بعد انحصارها في العالم، وكرست في الوقت ذاته نظاما شموليا مركزيا سيطر على كل مناحي الحياة.14

دين الإلحاد وسيفه.. باق ويتمدد!
عند عمر 82 عاما توفي (ماو تسي تونغ) في 9 سبتمبر 1976م واحتدم الصراع على السلطة داخل الحزب الشيوعي، وانتقلت السلطة إلى (دينج شياو بينغ) الذي جعل السلطة جماعية، ثم إلى (جيانج زيمين) وانتهى هذا المسار إلى أضعف رؤساء الصين (هيو جينتاو) قبل وصول السلطة إلى «ماو الثاني» حسب وصف مجلة فوربس الأمريكية في مقال بعنوان: «هل حان وقت مجيء ماو الثاني»؟ فقالت في 30 ديسمبر 2010م بعد اختيار (شي جين بينغ) ليكون الرئيس القادم لجمهورية الصين الشعبية في 2012م:
«تشير التحليلات إلى أن (شي جين بينغ) يرغب في اتباع أسلوب أقوى وأكثر استبدادية عندما يصل إلى السلطة، مع قدر أكبر من الانفراد بالقرار، إذا تمكن من القيام بذلك، فسيكون حرا في إعادة كتابة التاريخ كما يراه مناسبا، وبمجرد تثبيت الزعيم الجديد في منصبه وإنشاء قاعدة سلطته الخاصة، سيكون من السهل استبدال نفسه بالراحل (ماو)، عندها ستكون عقارب الساعة قد عادت إلى استبداد جديد مع مسحة من الشعبوية، أما دعاة حقوق الإنسان والديمقراطية، فسيكونون غير سعداء بما يفعله، لكنهم سيكونون أقلية».15
ورغم أن محنة المسلمين الإيغور في (تركستان الشرقية) التي تطلق عليها الصين (شـينجيانغ) ظلت متفاعلة منذ الحكم الشيوعي وضمها إلى جمهورية الصين الشعبية، إلا أن عصر (ماو الثاني/شي جين بينغ) كان الأسوأ والأقسى على الإطلاق، حيث أخذ منحنى تصاعديا بعد توليه الحكم مباشرة وحتى الآن، وإن كان المسلمون في الصين عموما، كبقية الصينيين، قد تنفسوا الصعداء من سياسة الانفتاح بعد رحيل (ماو تسي تونغ) إلا أنه ومنذ وصول (شي جين بينغ) كان المسلمون الإيغور وحدهم من ذاق ويلات وفظائع لا مثيل لها.
كانت الإيدلوجيا اللينينية والماركسية والمنطلقات العقائدية الإلحادية للزعيم الصيني في حربه على المسلمين الإيغور واضحةً للغاية ومعلنة بغير خفاء، ونستعرض هنا بعضا من تصريحاته وأفعاله وإقراراته التي تداولتها وسائل الإعلام العالمية، من خلال تسلسل زمني تصاعدي.
كونوا «ملحدين ماركسيين عنيدين»
«قال الرئيس الصيني (شي جين بينغ) في مؤتمر في بكين بشأن الدين عام 2016م: إن الصين يجب أن تكون يقظة تجاه التأثيرات الدينية الأجنبية الخبيثة، ويجب أن نحترس وبحزم من تسلل الخارج عبر الوسائل الدينية، ومنع التعدي الأيديولوجي من قبل المتطرفين، وعلى كوادر الحزب الشيوعي الصيني تعزيز إيمانهم، فيجب عليهم أن يتصرفوا كـ«ملحدين ماركسيين لا يلينون، وأن يضعوا في اعتبارهم مبادئ الحزب». وتريد الحكومة ضمان أن أي دين في الصين سيكون صيني الصبغة، وتامَّ الولاء المطلق للحزب الشيوعي الصيني، وأن يجدوا طريقة للدمج بين هذه المعتقدات الدينية و«الحضارة الصينية» وأن يتحد المؤمنون الدينيون مع الحزب».16
تعزيز الإلحاد
كتب (تشو وي تشون) رئيس اللجنة العرقية والدينية للمؤتمر الاستشاري السياسي للشعب الصيني، في صحيفة جلوبال تايمز الرسمية، أن الحزب يجب أن «يروج بشكل لا لبس فيه للإلحاد الماركسي في المجتمع»، والحفاظ على «مكانته الرائدة في تفكير جماهير الشعب»، واصفا إياه بأنه «أيديولوجية الأمة السائدة»، وأنه من المهم بشكل خاص «تعزيز التثقيف الدعائي حول النظرة العلمية للعالم، بما في ذلك ترويج الإلحاد للشباب»، وقال إنه في الوقت الذي تحمي فيه الصين حقوق المؤمنين الدينيين «كأمة يقودها الحزب الشيوعي، لا يمكننا التخلي عن الإلحاد، واللجوء إلى الدين للحصول على الدعم الروحي، ولا اتخاذ موقف محايد أو تصالحي بين الإلحاد والدين، ولا يمكننا السماح للدين بالانتشار دون حدود، حتى يصبح الأيديولوجية السائدة».
ويبدو أن تصريحات (تشو) تتماشى مع نهج تقليدي متزايد تجاه الأيديولوجية التي يروج لها الرئيس الصيني والأمين العام للحزب الشيوعي (شي جين بينغ) فمنذ تولي الرئيس (شي) منصبه، سعت القيادة بشكل متزايد إلى الترويج لخط اشتراكي أكثر تقليدية، بينما انتقدت القيم الثقافية والليبرالية الغربية وغيرها من التأثيرات «غير الصحية»، وتأتي تصريحات تشو بعد فترة وجيزة من مؤتمر العمل الديني الوطني، وهو الأول منذ 15 عاما، الذي أكد فيه (شي) على أن أعضاء الحزب الشيوعي يجب ألا يؤمنوا بالدين، وقال إن الصين يجب أن تقلل من التأثير الأجنبي على الدين لمنع تسلله، كما دعا (شي) إلى تعزيز «النظرة العلمية/الإلحادية» بين الشباب.
ويبدو أيضا أن تصريحات (تشو) الأخيرة تذهب إلى أبعد من ذلك، حيث قال في مقال جلوبال تايمز، إنه في السنوات الأخيرة، وجدنا أنه حتى بعض «كبار المسؤولين سعوا إلى إيجاد قِيَم في الدين، الأمر الذي كان له تأثير سلبي»، وقال إن الحزب الشيوعي لم يصل إلى السلطة من خلال «توجيه الناس لوضع أملهم في الجنة أو الحياة الآخرة»، وفي عبارة أخرى تذكر بالحملات الأيديولوجية في العقود السابقة، قال (تشو) إنه من الضروري توجيه الناس إلى «رسم خط واضح» بين «الإلحاد والدين، والعلم والخرافات، والحضارة والجهل، وإذا كان الحزب الشيوعي قادرا على تفعيل بعض «الآثار الإيجابية للدين»؟والحد من آثاره السلبية، فليس لأننا تخلينا عن الإلحاد، ولكن لأننا تمسكنا بالإلحاد الماركسي والسياسات الصحيحة».1718
تقديس (ماو) و (ماركس)
«الصين لديها عقيدة سياسية رسمية جديدة، يطلق عليها «فكر شي جين بينغ» وهي موجودة في كل مكان، في المدارس والصحف والتلفزيون والإنترنت واللوحات الإعلانية واللافتات، كلها تثري أفكار رئيس البلاد وزعيم الحزب الشيوعي، تُعرف هذه الأيديولوجية رسميا باسم «فكر شي جين بينغ حول الاشتراكية ذات الخصائص الصينية في العصر الجديد» باختصار، العقيدة هي مخطط لتوطيد السلطة على ثلاثة مستويات: (الأمة، والحزب، والرئيس) فـ(شي جين بينغ) لا يزال يقدس تعاليم (ماو) و(كارل ماركس).19
مئة عام من الترويج للإلحاد

في عام 2021م وخلال حكم (شي جين بينغ) وبمناسبة الاحتفال بالمئوية الأولى لتأسيس الحزب الشيوعي الصيني، عُقد المنتدى العلمي التاسع للإلحاد في جامعة (نانجينغ)، وشارك في تنظيم المؤتمر: المجموعة الرائدة لمشروع بناء الانضباط النظري الماركسي والبحث النظري التابع للأكاديمية الصينية للعلوم الاجتماعية، ومعهد الماركسية التابع للأكاديمية الصينية للعلوم الاجتماعية، وكلية الماركسية بجامعة (نانجينغ)، والأكاديمية الصينية للعلوم الاجتماعية والعلوم، ومركز أبحاث الإلحاد، وجمعية الإلحاد الصينية، حول موضوع «مائة عام من الحزب الشيوعي الصيني والإلحاد الماركسي»، وأكد المنتدى على أن الإلحاد هو «سمة إلزامية لبلد اشتراكي» وأن الحديث حول مصطلح «إضفاء الطابع الصيني» الذي هو شعار الرئيس الصيني، هو مجرد أداة للترويج لهذا الإلحاد.
قدم (شيويه هايلين)، من جامعة (نانجينغ)، ملخصا مفيدا لفكر (شي جين بينغ) حول الإلحاد فقال: إنه من خلال الاقتباس من خطاباته المختلفة، لم يؤكد الرئيس الصيني على أن الإلحاد «مطلب أساسي» فقط، بل هو أيضا «سمة إلزامية لدولة اشتراكية»، لذلك، يجب أن يكون كل عضو في الحزب «ملحدا قويا، وأن يروج بنشاط للإلحاد الماركسي».
وقال (جونغ يون) نائب رئيس معهد الماركسية في الأكاديمية الصينية للعلوم الاجتماعية: إن مئة عام من تاريخ الحزب الشيوعي الصيني، هي مئة عام من العمل الشاق في تعزيز الإلحاد، وكنقطة انطلاق وحجر زاوية أيديولوجي للنظرية الماركسية، فإن الإلحاد الماركسي هو الخلفية الروحية التي لا غنى عنها للشيوعيين الصينيين».
وقال (فان جيانشين) رئيس جمعية الإلحاد الصينية، إن الإحصاءات تثبت أن الإلحاد ينمو باستمرار في الصين، لكن المعركة لم تنته بعد، والحزب الشيوعي الصيني يعمل باستمرار على «تعزيز وتوسيع الموقف المهيمن للإلحاد».
وقال (تشاو ون هونغ) من معهد أديان العالم التابع للأكاديمية الصينية للعلوم الاجتماعية: إن الهدف من سياسات «إضفاء الطابع الصيني» في حديث الرئيس (شي جين بينغ) ليس مجرد القضاء على أي نفوذ أجنبي متبق في الدين، بل لأجل «تعزيز العلمنة» ومتابعة الأديان ومراقبتها حتى زوالها التدريجي.20
فكر (شي) الماركسي.. في المناهج الدراسية
«ذكرت وزارة التعليم في توجيهاتها الجديدة إن «فكر شي جين بينغ» سيساعد «المراهقين على ترسيخ المعتقدات الماركسية» وسيتم دمج هذه الأيديولوجية في جميع المراحل الدراسية، من المرحلة الابتدائية حتى الجامعة، وهذا هو أحدث جهد يبذله (شي) لتعزيز دور الحزب الشيوعي الصيني الحاكم في مختلف مجالات المجتمع، وفي عام 2018م، أدرجت أعلى هيئة في الصين (فكر شي جين بينغ) في الدستور، ومنذ ذلك الحين، تم تقديمه في بعض الجامعات الصينية، وبين أجنحة الشباب السياسي التي تُقيم أنشطة خارج المنهج التعليمي، وفي عموم المدارس الصينية».21
على «كل الأديان» الالتزام بالعقيدة الماركسية
«في 3 و4 ديسمبر 2021م عقد الحزب الشيوعي الصيني في (بكين) مؤتمرا وطنيا حول العمل المتعلق بالشؤون الدينية، كان هذا أول مؤتمر من نوعه منذ عام 2016م والذي كان قد أعلن فيه الحزب عن خططه لحملة أكثر صرامة على الدين، وحضر المؤتمر جميع القيادات العليا للحزب الشيوعي الصيني، بما في ذلك الرئيس (شي جين بينغ)، الذي أعرب عن أسفه، لأن مراقبة الإنترنت لمنع الدعاية الدينية والتصريحات غير اللائقة على وسائل التواصل الاجتماعي لا تعمل بشكل صحيح، ودعا إلى مزيد من المراقبة، ومعاقبة المؤمنين الذين يستخدمون الشبكات الاجتماعية للتبشير الديني، أو انتقاد السياسة الدينية للحكومة.
وقال (شي) إن الهيئات الدينية التي تسيطر عليها الحكومة (أي الديانات الخمس المعتمدة) يجب أن تطور «نظرية دينية للاشتراكية ذات الخصائص الصينية»، وهذا يعني على وجه الخصوص، أن الأديان يجب أن تتعلم القيام بأنشطتها في أماكن عبادتها وقبول «عدم التدخل في الحياة الاجتماعية»، واعترف (شي) بأن هناك مشاكل لم تحل، وإن الحل هو تحسين الالتزام الأيديولوجي للبيروقراطية التي تتعامل مع الدين، التي قد تميل في بعض الأحيان إلى العمل خارج الإطار الذي وضعته النظرية الماركسية للدين.
وشدد (شي) على أنه «من الضروري تكوين فريق من كوادر الحزب والحكومة، الأكثر يقينا بالآراء الدينية الماركسية، وعلى دراية بالعمل الديني، ويجيدون العمل مع المؤمنين الدينيين، والسماح لهم بدراسة الآراء الدينية الماركسية، ونظريات وسياسات العمل الديني للحزب الشيوعي الصيني، والمعرفة الدينية»، ولكن قبل كل شيء يجب أن يكونوا «حازمين في الأيديولوجيا والسياسة، وأن يلتزموا بالآراء الدينية الماركسية، ويعززوا بناء نظام الدراسات الدينية الماركسية» وأكد (شي) أن «إضفاء الطابع الصيني» على الدين يعني أن جميع الطوائف الدينية، يجب أن يقودها ويسيطر عليها الحزب الشيوعي، وأن يكون له الولاء المطلق».2223
الترويج لإلحاد يستهدف الأديان
«يتم الترويج لكتاب مدرسي جديد يروج للإلحاد في الكليات وكوادر الحزب الشيوعي الصيني، كجزء من حملة تنفيذ قرارات المؤتمر الوطني للعمل المتعلق بالشؤون الدينية في ديسمبر 2021م حيث تم تقديم الكتاب لأول مرة، ويتم الترويج للكتاب المدرسي كاستجابة لتعليمات (شي جين بينغ) في ذلك المؤتمر، بأن وجهات نظر (ماركس) حول الدين، يجب أن تدرس بشكل أكثر شمولا داخل الحزب الشيوعي الصيني.
الكتاب يسمى (مبادئ الإلحاد العلمي) وهو نص ضخم يضم حوالي 400 ألف حرف صيني، واستغرق إعداده 6 سنوات، مؤلفه (لي شين) المعروف بكتابه «تاريخ الإلحاد الصيني» حيث روج لنظرية (شي جين بينغ) بأن الثقافة الصينية في جوهرها كانت دائما غير دينية، ويروج للنظرية، التي يدعمها أيضا الحزب الشيوعي الصيني، بأن الكونفوشيوسية هي في الأساس شكل من أشكال الإلحاد.
يتضمن الكتاب أربعة فصول: ما هو الله، إثبات عدم وجود إله، الآلهة وآثارها، والنظرية الدينية للحزب الشيوعي والسياسة الدينية.
ويؤكد الكتاب أن كلا من «عدم وجود إله» و«التأثير الضار للدين» قد تم إثباته علميا، من خلال إجراء فلسفي تقبله الفلسفة الغربية والصينية، والتي بلغت ذروتها في الآراء النهائية من قبل (كارل ماركس) والحزب الشيوعي الصيني، ويؤكد الترويج للكتاب مدى التحول في المؤسسات الصينية التي تتعامل مع الدين وأقسام الدين في الجامعات، من كونه دراسة أكثر «حيادية» -إلى حد ما- إلى دعاية للإلحاد الماركسي، ويمكن إرجاع هذا التحول إلى الخطب والتعليمات التي ألقاها الرئيس الصيني (شي جين بينغ) نفسه».24
أنت ملحد.. فلا تحترم الإسلام
«فتح الحزب الشيوعي الصيني تحقيقا مع أحد كبار المسئولين في الحزب، وهو (وانغ تشنغ وي) نائب رئيس المؤتمر الاستشاري السياسي للشعب الصيني، وهو عضو من أقلية (الهوي) المسلمة، وخضع للتحقيق من قِبل مراقبي الانضباط الداخلي للحزب بتهمة إساءة استخدام السلطة والفساد، لأنه روَّج لاحترام الإسلام، وكان ذات يوم مدافعا عن الثقافة الإسلامية.
ويأتي التحقيق معه لأن (وانغ) ربما روَّج «للثقافة الإسلامية خارج الحدود» وشجع التطرف الديني عندما شغل منصب رئيس الحزب الشيوعي في منطقته (نينغشيا) في شمال غرب الصين، وبعد ذلك رئيسا للجنة الوطنية للشؤون العرقية في البلاد، وقضى (وانغ) الذي درس الهياكل الاقتصادية للدول الإسلامية، معظم حياته المهنية في (نينغشيا)، التي تضم عددا كبيرا من السكان المسلمين الصينيين، وأثناء خدمته هناك في اللجنة الوطنية للشؤون العرقية، دافع من أجل تشريع يعزز إصدار شهادات الطعام الحلال، وشجع أيضا على بناء المساجد، وهي إجراءات يرى كبار المسؤولين الصينيين أنها تعزز الهوية العرقية على حساب الوحدة الوطنية».25
الإلحاد شرط للقبول في المدارس
«أمرت السلطات الحكومية في مدينة (ونتشو) في مقاطعة (تشجيانغ) أولياء أمور الأطفال في المدارس بالتوقيع على «نموذج تعهد بالتزام الأسرة بعدم اعتناق معتقد ديني»، وينص التعهد على ضرورة تأكيد الوالدين أنهما «لا يعتنقان أي معتقد ديني، ولا يشاركان في أي أنشطة دينية، ولا ينشران الدين في أي مكان، وتأكيدهم على ضرورة «التقيّد المثالي» بتعاليم وتوجيهات الحزب الشيوعي الصيني، وقوانين البلاد ولوائحها، وعدم الانضمام أبدا إلى أي من المنظمات الدينية، وقال أحد المعلمين: إن السلطات المحلية لم تذهب إلى هذا الحد من قبل».26
الإسلام.. يجب أن يكون صينيا
«في عام 2022م طلب الرئيس الصيني (شي جين بينغ) من المسؤولين تكثيف الجهود لدعم مبدأ أن الإسلام في الصين يجب أن يكون صينيا في توجهه، وأن الأديان في البلاد يجب أن تتكيف مع المجتمع الاشتراكي الذي ينتهجه الحزب الشيوعي الصيني الحاكم، وذلك أثناء زيارته منطقة (تركستان الشرقية/شـينجيانغ) وشدد (شي جين بينغ) على الحاجة إلى تحسين قدرة حوكمة الشؤون الدينية وتحقيق التنمية الصحية للأديان، وفي السنوات القليلة الماضية، كان الرئيس يدعو إلى «إضفاء الطابع الصيني» على الإسلام، وهو ما يعني جعله متناغما مع سياسات الحزب الشيوعي الحاكم.
وأعاد الرئيس الصيني التأكيد على «تصيين الإسلام» عندما زار مؤخرا في 26 أغسطس 2023م منطقة (تركستان الشرقية/شـينجيانغ) مرة أخرى، داعيا المسؤولين إلى «تعزيز إضفاء الطابع الصيني على الإسلام بشكل أعمق، والسيطرة بشكل فعال على الأنشطة الدينية غير القانونية» وقال إن تعليم اللغة الصينية القياسية المنطوقة والمكتوبة، يجب أن يتم بحزم لتعزيز وعي الناس وقدرتهم على استخدامها.272829
ماو الثاني، على خطى الأول.. وزيادة

وكما أصدر (ماو تسي تونغ) كتابه الأحمر الصغير الذي يجمع مقتطفات من أقواله وخطبه، اقتدى به (شي جين بينغ) وأصدر حتى الآن (4 مجلدات) كاملة من رؤاه وخطبه وحكمه، لتشّكل «عقيدة شي جين بينغ» ويتم الترويج لـ«عقيدة شي للحقبة الجديدة» بتدريسها للأطر في الحزب خلال الاجتماعات، وأصبح لها تطبيق خاص على الهواتف الذكية، لتعلمها والترويج لها، وبدأت مؤسسات جامعية في البلاد، بإطلاق محاضرات تعريفية بـ«عقيدة شي للحقبة الجديدة» كذلك فإن الشركات الصينية مجبرة على دمج العمل الأيديولوجي والسياسي، بالإنتاج والتطوير الإداري، أما في القرى، فتجري مضاعفة الترويج الحزبي من خلال مكبرات الصوت التي وضعت فوق أسطح المنازل، ففي مقاطعة (هيبي) قرْب (بكين)، تجري «تلاوة» عقيدة شي ثلاث مرات في اليوم، وفي (آنهوي) وُضِعت مكبرات فوق حوالي 10 آلاف منزل لـ«أدلجة المزارعين».30
وتدور (عقيدة شي جين بينغ) حول ثلاثة أمور: أولا، الانتماء والفخر بالحضارة الصينية، ثانيا، أنها مبنية على الماركسية كمعتقد تأسيسي، ثالثا، استعارتها لنظرية وممارسة الديكتاتورية من (جوزيف ستالين) كبيان للاستبداد الجديد، هذه العقيدة يجب أن تؤخذ على محمل الجد حقا.31
ورغم أن مصطلح إضفاء الطابع الصيني (Sinicization) أو «التصيين» كلمة مستخدمة على الأقل منذ القرن السابع عشر للإشارة إلى استيعاب الأقليات والأعراق المختلفة في الإمبراطورية الصينية، لكن الحزب الشيوعي الصيني أعطى الكلمة معنى مختلفا، فلا يكفي الأديان والمساجد والكنائس، أن يكون قادتهم صينيين، ولكن حتى يتم قبولهم على أنهم «صينيون» يجب أن يكون من يختار قادتهم هو الحزب الشيوعي الصيني، وأن يعملوا في إطار من الاستراتيجيات والأهداف التي يتبناها الحزب الشيوعي الصيني.
أخيرا يقول (فنغانغ يانغ) في الفصل الثالث من كتابه: (الدين في الصين.. البقاء والنهضة في ظل الحكم الشيوعي): «تشمل الأشكال المختلفة للإلحاد الشيوعي الصيني ثلاثة أنماط: «الإلحاد اللينيني المتشدد» الذي يدعم القضاء على الدين وقمعه، و «الإلحاد التنويري الحداثي» الذي يدعم القمع الديني والتقييد من خلال التعليم العلمي، و«الإلحاد المعتدل» الذي يدعو إلى التسامح الديني، بينما يحط من قدر الأساس الاجتماعي والاقتصادي للدين، لكن لا يزال «الإلحاد المتشدد» و«الإلحاد التنويري» يهيمنان على التفكير فيما يتعلق بالدين بين المسؤولين الصينيين».32
هذه كانت خلفية تاريخية وسياسية وعقائدية مهمة، لفهم الخلفية الأيدلوجية والفكرية التي تحرك صُناع الإبادة الجماعية التي تجري للمسلمين الإيغور على يد الحزب الشيوعي الصيني الحاكم، تنفيذا لروية وعقيدة الرئيس (شي جين بينغ) بعد توليه المنصب مباشرة، ولإدراك منطلقات محرقة المسلمين هذه، وأن محركها الأساسي: عقيدة ملحدة تحارب الإيمان وأهله بكل ما لديها من قوة.
الهوامش
- RELIGION AND COMMUNISM IN MODERN CHINA – Clash or Synergy of Ideologies – T.S.Tsonchev -The Montréal Review, April 2011. ↩︎
- Atheism, Not Religion, Is The Real Force Behind The Mass Murders Of History ..Dinesh D’Souza. ↩︎
- From Darwin to Hitler: Evolutionary Ethics, Eugenics, and Racism in Germany.. Richard Weikart. ↩︎
- Top Ten Most Evil Dictators of All Time (in order of kill count). ↩︎
- Body Count: A Quantitative Review of Political-Violence-Across World Civilizations.. Naveed S.Sheikh ↩︎
- RELIGION AND COMMUNISM IN MODERN CHINA – Clash or Synergy of Ideologies – T.S.Tsonchev -The Montréal Review, April 2011 ↩︎
- China’s religion problem: Why the Chinese Communist Party views religious belief as a threat 17.10.2019 ↩︎
- Religion in China ↩︎
- دستور جمهورية الصين الشعبية. ↩︎
- RELIGION AND COMMUNISM IN MODERN CHINA – Clash or Synergy of Ideologies – T.S.Tsonchev -The Montréal Review, April 2011 ↩︎
- عبادة الدولة: كيف نجحت الصين في صنع دين جديد للبشرية؟ ↩︎
- China’s Great Leap Forward ↩︎
- The Legacy of Mao Zedong is Mass Murder 02.02.2010 ↩︎
- The Cultural Revolution A Very Short Chinese.. Richard Kurt Krause. ↩︎
- Time for Mao’s Second Coming? 30.12.2010 ↩︎
- China’s Leader Xi Jinping Reminds Party Members to Be ‘Unyielding Marxist Atheists 25.04.2016’ ↩︎
- Senior Chinese Religious Advisor Calls For Promotion Of Atheism In Society 04.05.2016 ↩︎
- Meeting calls for religions with Chinese characteristics 25.04.2016 ↩︎
- Xi Jinping Thought Explained: A New Ideology for a New Era 26.02.2018 ↩︎
- Chinese Communist Party: “100 Years of Promoting Atheism” 07.06.2021 ↩︎
- China schools: ‘Xi Jinping Thought’ introduced into curriculum 25.08.2021 ↩︎
- China: First CCP National Conference on Religion Held Since 2016 – 08.12.2021 ↩︎
- Xi Jinping stressed at the National Conference on Religious Work that “adhere to the direction of sinicization of religions in our country and actively guide religions to adapt to socialist society 12.20.2021.” ↩︎
- China promotes new book on atheism targeting religions 31.01.2022 ↩︎
- China Launches Investigation Into Official Who Promoted Respect for Islam 19.03.2022 ↩︎
- Local Chinese authorities order parents at school to sign pledge renouncing their faith 23.03.2032 ↩︎
- Islam in Beijing Must be Chinese in Orientation: President Xi Jinping upon Visiting Uyghur Locale 17.07.2022 ↩︎
- Xi stresses greater efforts to build beautiful Xinjiang in pursuing Chinese modernization 27.08.2032 ↩︎
- Xi Jinping calls for protection of ‘hard-won stability’ in Xinjiang visit 27.08.202 ↩︎
- الحزب الشيوعي الصيني… عقيدة “مقدسة” للرئيس ↩︎
- What does Xi Jinping really think?10.01.2032 ↩︎
- Religion in China: Survival and Revival under Communist Rule .. Fenggang Yang ↩︎