ما المطلوب من الإسلاميين إن وصلوا إلى سدة الحكم
تناولنا في المقال السابق عدم صحة الأطروحات التي تنادي بالتدرج في إقامة الشريعة وبقي أن نفهم.
ما المطلوب إذاً؟
- أن يعلنوا-من اللحظة الأولى-أن الحكم لله.
- وأن ما خالف الشريعة من القوانين فهو تحت الأقدام.
- فالسيادة المطلقة للشريعة منفردة لا تنازعها سيادة أبدا
تطبيقات عملية مهمة
أولًا:
قد لا يُطالَب العاملون للإسلام بإعلان الجهاد لتحرير بلاد المسلمين المحتلة من اليوم الأول من استلامهم للحكم، لكن لو أن شبابًا تسللوا وجاهدوا، ثم عادوا إلى بلادهم، هل ستنفذ الدولة الإسلامية ضدهم قانون مكافحة الإرهاب؟! بالطبع لا…
أن تنفذ الدولة القانون الجديد بحسب الوسع شيء، وأن تعمل بضده شيء آخر.
- قد يأتي الحاكم في هذه الحالة بالمجاهد ويخبره أن الدولة في طور الإعداد وترتيب الصف ووأد الفتنة، وتريد همته في ذلك. ووالله لن يهدأ بال حتى تتحرر بلاد المسلمين، فلا تجرنا الآن إلى ما لا طافة لنا به.
- أو يعزره إذا أضر فعله بالدولة الناشئة وجرها إلى مواجهات أرهقتها وشغلتها عما هي فيه.
ثانيًا:
إذا استلم العاملون للإسلام الحكم في بلد فيها عدد من الخمارات، والسينما، ومحلات المساج الماجنة، ومحلات بيع التماثيل المحرمة، والمكتبات التي فيها كتب إباحية أو كفرية وغيرها، قد لا يكون لدى الدولة الاستطاعة لإغلاق ذلك كله دفعة واحدة.
لكن بمجرد إعلان تطبيق الشريعة فإن حكم هذه الأشياء كلها أصبح واضحًا معروفًا
ثالثًا:
المنافقون والعلمانيون قد يتعمدون التهجم على الشريعة، بل والاستهزاء بالله تعالى وآياته ورسوله صلى الله عليه وسلم، قد لا يكون لدى الدولة الاستطاعة أن تستتيب هؤلاء كلهم، أو تقضي عليهم كلهم دفعة واحدة.
لكن بمجرد إعلان تطبيق الشريعة فإن هؤلاء-إن لم يتوبوا-سيكونون بانتظار الجزاء العادل الذي شرَّعه الله عز وجل لمن يرتد عن دينه أو يسخر منه.
رابعًا:
في بعض البلاد عدد من الأضرحة والمقامات التي يزورها الناس ويتبركون بها، ويمارسون عندها الطقوس الشركيَّة.
بمجرد إعلان تطبيق الشريعة فإن هذه الأضرحة تنتظر إزالة الدولة لها، وتحويلها إلى قبور عادية.
خامسًا:
على الدولة أن تحقق الرعاية الصحية، وتقوم بمشاريع زراعية وحيوانية تحقق لها اكتفاءً ذاتيًا عن عدوها، بحيث لا يحاول التحكم بسياساتها من خلال امتلاكه للقمح والحليب وغيرها، كما عليها القيام بمشاريع الصناعات الثقيلة التي تحقق لها استقلالها.
فهذا كله من تطبيق الشريعة، ومن حفظ النفس والمال والنسل التي هي من مقاصد الشريعة. وتحقيق هذا كله لا يتم من اليوم الأول من استلام الحكم، لكن إعلان تطبيق الشريعة يتضمن ألا تلتزم الدولة بأي اتفاقية تبتزها وتجعل قوتها بيد أعدائها
سادسًا:
قد تجد الدولة نفسها أمام آلاف من الفاسدين الذين كانوا منتفعين من النظام غير الإسلامي الجاهلي، هؤلاء انتهبوا خيرات البلاد فتملكوا أراضيها ومشاريعها الحيوية، وغمروا الناس في قروض ربوية من خلال البنوك الفاسدة.
فإذا لم تتمكن من رد ما في أيديهم دفعة واحدة، فإنها ستمنع وقوع أي ظلمٍ جديد.
هناك دروس كثيرة يمكن استنباطها من هذه الأمثلة
-
أولًا
بإعلان سيادة الشريعة يصبح المجتمع مبنياً على العبودية المطلقة لله؛ فتعتدل الموازين المختلة التي كانت تمضي وفق القوانين الوضعية، حتى وإن لم تستطع الدولة المضي في كل الأمور دفعة واحدة. حتى وإن تأخرت المثوبة والعقوبة إلى حين قدرة الدولة واستطاعتها , فتوصيف الأفعال يبقى ذا أثرٍ كبيرٍ في سلوك المجتمع.
-
ثانيًا
أن الحق واحد والباطل متشعب؛ فإن لم يلتزم الدعاة بإعلان سيادة الشريعة , فإنهم سيتخبطون لأنهم فقدوا البوصلة بالتنازل عن الحق، فمن تخلى عن الحق دخل في متاهات الباطل المُتشَعِب.
“فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ ۖ فَأَنَّىٰ تُصْرَفُونَ“
-
ثالثًا
إعلان السيادة للشريعة من اللحظة الأولى(عقدٌ بين الحاكم والمحكوم)، وهو مُلزِمٌ للطرفين وبه تسقط الحصانات الزائفة حتى عن الحكام لأنهم إن زاغوا عن تبعات هذا الإعلان فعلى الشعب محاسبتهم، وقياس أفعالهم على(مسطرة الشريعة)فالعاملون للإسلام ليسوا معصومين.
والمحكوم يتعبد لله بطاعة الحاكم مقابل أن يلتزم الحاكم بتطبيق الشريعة، ثم هو فوق ذلك عقدُ عبودية وخضوع مع الله عز وجل بتطبيق شرعه تعالى. فلا معنى للعبارات المائعة التي تُردَّد بدل من الإعلان بوضوح عن إقامة الشريعة؛ سنجد أنفسنا ندخل حينئذٍ في معركة الحكم على النوايا والاختلاف في تقدير الوضع يسمح أو لا يسمح وما إلى ذلك.
ولوضوحك منذ اللحظة الأولى فائدةٌ عظيمة:
فالناس إن لم تشغلهم الدولة بالحق شغلوها بالباطل!
فالطرح السائد
إذا أردت حكمًا إسلاميًا عليك بإصلاح الأوضاع بداية قبل أن تخطو أية خطوة عسكرية، بينما التاريخ يعلمنا العكس! الهدف العظيم يشحن همم الناس، وبالأهداف العظيمة تتلاشى المشاكل الصغيرة.
تخيل لو قام حكم الشريعة في بلدٍ مـا، وأطلق الحكام شعارات: (بلدنا خلاص الأمة)، (سنعيدها خلافة على منهاج النبوة) سيكون لهذا فائدتين عظيمتين:
- هل يُتوقع عندها أن يطالب أحد بحرية الفنانين والمغنيين؟! هل ستثار قضية الشواطئ والسياحة؟! بل ستكون أطروحات منبوذة أمام الهدف السامي للأمة، وأصحاب هذه الأطروحات الهزيلة سينفض من حولهم الكثير لأنهم يتكلمون في الدون أمام شعبٍ يطلب المعالي، ويصبح لا خيار أمامهم سوى أن يلجموا أفواههم، فإن المنافقين أيام رسول الله صلى الله عليه وسلم ما كانوا يجرؤن على إثارة ما يعتقدون.
- عندما يوضع هدفٌ عظيم للأمة فإن التفاهات تصبح عوائق فبدل أن تبدد الدولة جهدها في إقناع الناس بترك الأغاني والاختلاط والتشبه بالكافرين، سيرى المخلصون هذه أمور تعيقهم عن الهدف العظيم، فيدوسونها ويمضون.
هل يكفي إعلان تطبيق الشريعة فحسب؟!
-
أولًا:
إعلان تطبيق الشريعة مع إهمال الأخذ بالأسباب الدنيوية لرعاية مصالح الناس، والسعي الدؤوب في بناء الدولة اقتصاديًا وعسكريًا، وتبني أصحاب التخصصات في المجالات المختلفة، والتخطيط الدقيق وتوظيف علوم الإدارة والاتصال والإعلام، والعمل المضني لتوفير احتياجات الناس الأساسية، وتوفير فرص عمل، هذا كله من إقامة الشريعة.
وإن قصرت الدولة فيه فليس لها أن تتوقع نصر الله لها.
-
ثانيًا:
هناك من يعلن إقامة الشريعة ويكون صادقًا وآخذًا بالأسباب المادية، لكنه يسيء التعامل مع الناس ويستثير حفيظتهم.
القوةُ في إقامة الدين لا تعارض حسن سياسة الناس وتألُّف قلوبهم، فجعل الله المؤلفة قلوبهم ممن تصرف إليهم الزكاة على الرغم من قيام الحجة وقوة الدين في ذاته.
“إن الله رفيق يحب الرفق، ويعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف، وما لا يعطي على ما سواه” مسلم
-
ثالثًا:
من يعلن إقامة الشريعة لكنه في الواقع غير صادق في تطبيقها أبدًا، فهذا طريق الهلاك.
لا يرضى الله تعالى لإعلان تطبيق الشريعة أن يكون عباءة تمارس تحتها المعاصي. إنما يرضى عن هذا الشكل الممسوخ أعداء الله الصرحاء من الصليبيين وغيرِهم.
بل إن هذه النماذج الممسوخة تُتخذ فزاعة للتنفير من تطبيق الشريعة، بحيث عندما ندعو إلى إقامتها؛ يُعيرنا البعض بهذه النماذج وكأننا نعترف بها، ومن “يقيم الشريعة” بهذا الشكل يبرر القعود عن نصرة المسلمين، بل والمساهمة في البطش بهم، بعبارات شرعية متعلقة بحفظ المصالح.
لسنا ميكافللين والغاية لا تبرر الوسيلة
- إنّ أصحاب المشروع الإسلامي هم:
“الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ“
- إقامة الدين من خلال الحكم، فكيف نبيع الهدف لنصل للوسيلة؟!
- بأول تنازل نصل لمستوى منحط من التنازلات لمخالفة قول الله تعالى:
“ولا تتبعوا خطوات الشيطان”
- واتبعنا الشيطان الذي:
“يعدهم ويمنيهم وما يعدهم الشيطان إلا غرور”
- القبول بالتنازل عن الثوابت جرنا إلى متاهات خسائرها كثيرة مقابل مكاسب موهومة، ولنطرح أسئلة، تحدد مسارنا في العمل الديمقراطي:
ما الهدف من المسار الديمقراطي؟
نجد ازدواجية غريبة، فتارة هو إقامة الشريعة وإعادة الخلافة، وتارةٌ أخرى هو مجرد إصلاحات جزئية!
ولا يُقبل أن يسير صاحب المشروع الإسلامي هائمًا على وجهه لا يعرف أين يتجه.
ما هي التنازلات التي قُدِمت؟
لا يخفى أن العمل الإسلامي البرلماني قدم تنازلات ذريعة كالاعتراف بقواعد الديمقراطية، واحترام دساتير تجعل حق التشريع لغير الله تعالى، ورهن تطبيق الشريعة بموافقة البرلمان.
ما المكتسبات التي دفعت لهذا التنازل؟!
لم يتحقق شيء من الأهداف كإقامة شريعة، وبقي الأثر المشؤوم وهو الاستهانة بالتنازلات، كالقسم على المحافظة على دستور يجعل التشريع لغير الله عز وجل لأن الهدف هو إقامة الشريعة!
هل اعتبر الإسلاميون أنفسهم ممكنين في العمل البرلماني أم مستضعفين؟
وهنا نرى ازدواجية أيضًا:
- فعند الحديث عن المكتسبات المرجوة، يتكلم الإسلاميون البرلمانيون بنبرة الممكَّن؛ يتكلمون عن انقلاب في الدستور وأسلمة مؤسسات الحكم وتغيير القيادات الفاسدة في الجيش، وهذه جميعا لا يقوم بها إلا ممكَّن.
- وعند لومهم على التنازلات وعلى تصريحاتهم بعدم نية تطبيق الشريعة من اللحظة الأولى يتعذرون بالاستضعاف.
فتأمل قول الله تعالى:
“وَأَنَّ هَٰذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ ۖ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ۚ ذَٰلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ“
وما رواه البخاري عن أبي بكر رضي الله عنه أنه قال:
“لست تاركًا شيئًا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعمل به إلا عملت به، فإني أخشى إن تركت شيئًا من أمره أن أزيغ”
كان للتنازلات هذه وللمسار الديمقراطي آثار خطيرة على عقائد الناس، وهو ما نعرفه في المقال القادم.
المصادر:
أفكار هذا التقرير مستقاة مما جاء في بعض حلقات سلسلة نصرة للشريعة، د. إياد قنيبي
