المستشرق الغربي ودوره في الصراع العربي
عند العودة إلى قراءة المُؤلفات وكُتب التّاريخ للحضارة الإسلاميّة أو الإمعان في الخرائط التي رسمها الرّحالة المستكشفون على مَرّ الأزمنة والعُصور فإنّنا لن نجد أمامنا سوى أن نركنَ إلى تلك المخطوطات التي قامَ على تدوينها المُستشرقون، بعد أن فقدنا كعرب كنوزًا ثمينة من الكُتب التاريخيّة والعِلميّة على يد التتار، فلو كان أولئك الغُزاة يملكون جزءًا من العقل البشريّ، ما كدّسوها في مجرى نهرِ دجلة لتكون لجيوشهم جسرًا للعبور، ولو أنّهم كانوا استعانوا بجذوع نخيل الرّافدين بدلًا من تلك الكتب القيّمة في محتواها العلميّ، لكانت قد أسدت للبشريّة خدمة عظيمة، ومدّت جسورًا من البِناء والتقدّم عبر الزمانِ ولتُعرّفنا كثيرًا على حضارة ما بين النّهرين، وكذلك أغنتنا عن جَدليّة دراسات المُستشرقين الذين نقلوا وكتبوا ما يتناسب مع مصالحهم الدنيويّة، وأهدافهم العقائديّة التي غالبًا ما أخذت مسارَ التشويش وعدم الحياديّة والواقعيّة فيما يتعلّق برموز الإسلام والعلوم الإنسانيّة والثقافيّة عند المُسلمين، لكن الأوروبيين قد يغفر لهم بأنّهم يملكون عقلَ البشر، ويُبغضون لمكر الشياطين فيهم، فقد كانوا نُبلاء مع علوم المسلمين وثقافتهم التنويريّة ونقلوها إلى مدارسهم وجامعاتهم ومتاحفهم في أوروبا، كما ساهمت في تطوّر التقدّم العلميّ الذي أفاد البشرية جمعاء، حتّى يُقال إنّ الأندلس كان فيها عند خروج المسلمين منها أربعة آلاف من الكُتب النادرة وقد تمّ التحفّظ عليها من العبث والتلف وأصبحت مصدرًا مُهمًّا للباحثين إلى الآن.
لقد أضحتْ دراسات المُستشرقين ونظرياتهم مرجعًا ذا قِيمةٍ قانونيّة وثقافيّة لدى المُنظمات العالميّة ذات الاختصاص العلميّ والثقافيّ والتُراثيّ، ومَرجعيّة تاريخيّة يتم ّأرشفتها، ووضعها في المكتبات الوطنيّة أو عرضها كمخطوطات بالمتاحف الدوليّة، لكنّها تُعتبر لدى الباحث والقارئ رحلة تقصّي للحقائق، وتوقّف عند محطّات مُتعددة من نقاط التحوّلات الفِعليّة، ذات التأثير المُباشر في حياة الشعوب وغالبًا ما تكون تلك القصص والروايات التي ترصدُ وقائع هامّة كالإبادة العِرقيّة والصّراع الدينيّ أو النزعات الدولية محل الدراسات والنقاشات وكذلك مستندًا يتقدّم به إلى التّحاكم في المحاكم الدوليّة.
أفردت صفحات التاريخ في بحوثِ المُستشرقين مساحةً أكبر من شواهد الأسى، وسياسة الفوضى الخلّاقة، والتوترات المذهبيّة التي صنعت أزماتٍ اقتصاديّة واجتماعيّة عانتْ منها شُعوب البلدان العربيّة خاصةً والإسلاميّة عامّةً، فمُنذُ أن كان هجوم المغول الهمجيّ على بلاد الرافدين والعبث في حضارته العظيمة وحتّى توالي الحملات الصليبيّة على أرض الشام، التي وصل عددها إلى تسعة حملات، هذا إذا أضفنا حملة بوش الأخيرة في حاضرنا المُعاصر على أفغانستان والعراق والتي جاءت تحت غطاء مُحاربة الإرهاب الإسلاميّ، وجميع تلك الحملات أحدثت وقائعها التاريخيّة شرخًا كبيرًا ومُستدامًا في نسيج الأمّة الإسلاميّة، وذهب أغلبُ المُستشرقين الغربيين إلى محاباة مذاهب إسلاميّة دون غيرها، والعمل على فصل الإنسان العربيّ من مكوناته العقائديّة والقوميّة.
إضافةً إلى ذلك السعي لعزله عن شأن المسلمين في باقي البلاد الأخرى ممّن لا يتحدثون اللّغة العربيّة، أمّا مَن كان يعيش بين ظهريَ المسلمين من أتباع الديانات السماويّة الأخرى، فقد تمّ تغريبها عن القضيّة العربيّة، وأخذت موقف المُحايد وأحيانًا المُستهدَف، بعد أن كانت يومًا ما مُدمجة في وئام بالمجتمع العربيّ كعنصرٍ فاعل ومُنتِج، لقد تعايشوا مع الثقافة الإسلامية واحتوتهم دون أن يكون لديهم أدنى شعورٍ بغُربة المكان والذات، كان ذلك قد حدث في أوجّ عصر النهضة الحضاريّة للإسلام، وفي قمّة بأس رجالها الأشدّاء، بخلاف أوروبا التي كانت تعيش في ذلك الوقت من القرن العاشر الميلادي في مستنقع الجهل ومرض اللاساميّة، والدونية في الحياة الاجتماعية والاقتصادية، وكذلك فقدان الهويّة الذاتيّة، فتولّد لديها الشعور بالتّخلّف والقهر الدينيّ، الذي كان لرجال الدين المسيحيين لهم دور فعّال ومُغذّي فيه، عبر استغلال البُسطاء والفقراء منهم، والضّخ في نفوسهم التعصب والتديّن العاطفيّ، وكذلك الإيمان بالخُرافة والكراهية للساميّة وأتباع اليهوديّة، الذين كانوا هدفًا للقتل والتنصير والتهجير القسريّ لخارج حدود القارّة الأوروبية.
ظنّ المسلمون أنّ خروج الصليبيين من القدس بعد ثمانين عامًا من الجثُوم على صدر الأمّة، سيكون بلا عودة دون أن يدركوا بأنّ العودة إلى خلافاتهم القديمة وتعليق حسمها سوف يفتح الباب على مصراعيه لعودة الغزاة الصليبيين مرّة أخرى، وسعى آنذاك القائد الصالح صلاح الدين الأيّوبي بتشخيص هذا الدّاء، وحِصاره حتى لا يصبح وباءً يستعصي السيطرة عليه، لكنّ الخيانة والخديعة كانت سِمَة ذلك العصر، فعجز عن إكمال إصلاحاته بعد أن ظهرتْ تلك المذاهب الدينيّة الضالّة، التي خرجت من عباءة الفاطميّة وغرّرت بأتباعها، و من ثمّ أدخلت المنطقة في صراعٍ طويلٍ من الكراهية وحياكة المؤامرات والدسيسة للمسلمين.
جاء دور المستشرق الغربيّ، بعد أن خرجت الجيوش الصليبيّة من الشرق، وانكمش المَدُّ الإسلاميّ في الغرب يدفعه الحقد والكراهيّة للإسلام، والتبشير بالنصرانيّة، في قناع الاستشراق، فأنشأ مدارس تعليم اللغة العربية قبل أن يخوضَ هذه الرحلة في بلاد المسلمين، إذ خاض في شتّى مناحي الحياة العامّة، التي تتعلّق بالإنسان الشرقيّ وفي مكوناته الثقافيّة والدينيّة وحتّى اللغويّة، متزودًا بما يمتلكه من علومٍ تمّ الاستحواذ عليها إبان الاحتلال، ليبدأ في ترسيخ مفهوم نقص الذات والعجز، ونَفَثَ سمومه في الدراسات التي أعدّها، ساعدهُ في ذلك حالة الجهل والظلمات، وهو ما رآه المثبّطون مجالًا ليُكيلون المديح والثناء للمستشرقين، واعتبروا دراساتهم العلميّة جهدًا يجب أن يكون محلّ تقديرِ الشرق، في مساعي تهدفُ إلى إحباط مشروع التصدّي والمواجهة، التي حشد لها علماء الإسلام والمُفكرين لتفنيد مزاعم وخداع هؤلاء المستشرقين القادمين من الغرب.
اعتبرَ الغربُ وأساتذتهم التنويريين هؤلاء المثبّطين تلاميذ نُجباء، وأخذت تستدعيهم إلى أوروبا لتكريمهم ومنحهم الشهادات والجوائز، ثم أطلقوا عليهم التنويرييّن، فيما يرى أهل العرب أنهم مُجرّد ليبرالييّن، جاؤوا بتبنّي النظريّات العلميّة، والمفاهيم الأدبيّة الغربيّة المُسيئة للدّين الإسلامي والبديلة للثقافة العربيّة، في محاولةٍ منهم لفرضِ التبعيّة للغربِ على المجتمع والفرد.
بعد أن شعرَ أربابُ الاستشراق الغربيّ وتلاميذهم في هذا العصر أنّ لعنة الاستعمار والمحتل أصبحتْ تطاردهم ليلًا نهارًا وفي كلّ المناسبات، وأنّها قد تؤثّر على جهدهم العلميّ وتطلّعاتهم للعلمانيّة في الشرق الأوسط، ما يفقدهم في نظر الآخرين مصداقيّة الطَرح في قضايا وعلوم تلك الشعوب، لذلك عَمَدوا إلى مناشدة مؤسسّاتهم العلميّة وحكوماتهم بضرورة إصدار قراراتٍ دوليّة تَحُدُّ من الإساءة لمفهوم مُسمّى المُستشرق، على أن يتمّ تغيير المُصطلحات القديمة واستبدالها بذات الطابع الإنساني والحقوقيّ المُهتمّة بدراسات الشعوب، و تحمل صِفة المُنظّمات العالميّة التي ترعاها الأمم المتحدة.
وكما تقدّم المستشرقين الصفوف الأولى في حملة نابليون على مصر رافعين القلم والقرطاس وأدوات الطّباعة، مُستبشرين ومُبشّرين بنهضةٍ حديثة، فإنّهم قد كانوا أكبر محركًا دعائيًا وداعمًا للحملة الصليبيّة على العراق في مطلع القرن الحادي عشر بقيادة الصهيونيّة العالميّة، التي كشفتْ عن وجهها القبيح النّاقم من كلّ ما هو عربيّ ومسلم كاره للعلمانية، ومَهّدت للغزو على بلاد المسلمين من خلال غرفة العمليات المشتركة التي أقامتها مع بعض استخبارات الأنظمة التي تدين بالولاء للنصرانية واليهوديّة، واستخدمتْ فضاء الإعلام الواسع المُسيطر عليه من قِبَلِهم في بثّ رسائل التشويه، ومشاهد الإرهاب والتطرّف في المنطقة العربيّة إلى العالم، وعَمدتْ على أن تشيع في الكون الهَلع والخَوف من خطر الإسلام، و تصادم ثقافته مع النّظام العالميّ الحالي.
كان وجه الاستشراق والذي سقط عنه قناع العلوم الإنسانية حاضرًا بقوّة، وأحد دعائم هذه الحرب المُدمّرة التي استخدم فيها جميع أنواع الأسلحة المتطورة والمُحرّمة من أجل إخضاع المنطقة بِرُّمتها للحكم العلماني المُتسلّط، وبزغ من بين ثنايا الإعلام في صورة المُذيع والإعلاميّ والناشط السياسي والحقوقي، جميعهم احتشدوا مع من يسمون بالتنويرييّن في صفٍ واحدٍ مع الجنود في معركة الوجود العلماني ضد ما يُطلق عليه بالتطرّف الدينيّ المُتمثّل في الإسلام السياسيّ والسلفيّ، ومحاربة كلّ ما هو جهاديّ ونَعتِه بالإرهابيّ.
هُناك مَن يعتقد بأنّ مُهمّة المُستشرقين غَدَتْ واقعًا ملموسًا للعيَان، وأنّ افتتاح المزيد مِن الجامعات والمؤسّسات العلميّة والتنمويّة الغربيّة في كلّ أقطار الوطن العربيّ، قد ثبتت نظريّات ومفاهيم المستشرقين عن الإسلام و ثقافته، و نقلوا الصّراع إلى داخل البيت الإسلامي الواحد، بين جيلٍ نشأ في جامعاتِ التّغريب، وجيل أخر خرج من جامعات العلوم الشرعيّة، فيما يُراهن الغيورون بأنّ القِيم الإسلاميّة الصحيحة التي تربّى عليها أفراد المُجتمع المسلم، و المُستمدَّة من تعاليم قرآنيّة ربّانية لَن تستطيع أدوات المُستشرق اختراقه مهما امتلكَ من دهاء وقبول، وإن اقتنع البعضُ بخدعته فإنّه ليس بانتصارٍ حقيقيّ.
يسلم ايديك على المقال الرائع , ولدي بعض الاسئلة اتمنى ان تجيبني عنها حال توفر الوقت الكافي لديك
مع كل الحب
خديجه الفقير