اختيارات المحرر

الهيمنة الفكرية الغربية والانقلاب المفاهيمي المعاصر

مع تصاعد نجم الغرب، وتحررهم من الطغيان الكنسي، وبعثهم بالحملات الاستعمارية الواضحة الأهداف، وبسالة الأمة في دفع العدوان، أدركوا أن سر حيوية هذه الأمة هو الوحي وصلتها بالسماء، الدين الذي أعز الله المسلمين به، فكانت اللحظة الفارقة التي غيرت معالم الصراع على العالم الإسلامي حتى يومنا هذا. لقد أدركوا أنه لا مفر من شن الحروب الباردة الخفية على الأمة.

فلا بد من طمس الهوية، ولابد من فتنتهم في دينهم بمصطلحات وزخارف براقة، ولابد من اللعب الخفي، ولابد من تغيير القناعات والهموم، ولابد من تغيير استراتيجية الحروب.

فتتابعت أمواج الفتن العقدية الفكرية (فتنة العقل = فتنة الأسماء والمسميات) على واقع عيشٍ ضنك، وجهل مدقع، وفقر مذل، وبأس مكسور، وإيمان ضعيف، وبدع منتشرة، وظلم بيّن، وأيد ضعيفة مهزوزة.

وبالمكر الكبّار والواقع الخصب لغرس بذور السوء فيه، كانت العاقبة ما شوهد حتى يومنا هذا: قطع صلة الإنسان بالسماء، هيمنة الفكر الغربي، إزاحة المصطلحات الشرعية من واقع المسلمين، تسرب جزئيات ولوثات الأفكار الغربية، أسلمة الفكر الغربي، تبعية وانبطاح أمام الغرب، تغييب الوعي، حصر الشريعة في نطاقات ضيقة، امتداد المد التغريبي لمعانٍ شرعية، التجريف العقدي، انحسار المعاني الغيبية وانكماشها وتضييقها، مركزة المحسوسات، الاستهلاكية والتسليع للقيم والمعاني، فقد الهوية الإنسانية الذاتية، التفكير وفق الإطار الدولي المرسوم، خفاء العدو عن قطاعات عريضة من الأمة، غياب المعرفة بمعالم الصراع بين الحق والباطل، السذاجة السياسية والفكرية، خدمة العدو باسم الدين، العمالة دون إدراك.

وسنختار مما ذكر جانبين لتناولهما في مقالنا: إزاحة المصطلحات الشرعية وهيمنة الفكر الغربي.

الهيمنة الفكرية.. غصن الشوك المعاصر في حلق الأمة

الحملة الفرنسية

كتب د. أحمد عبد المنعم: «من لوازم العلمانية = إزاحة تقييم الواقع وإعادة ضبطه من خلال الوحي المُقدّس، فتُخترع معايير أرضية لسد هذه الفجوة التي كان ينبغي أن يغطيها الوحي، بل وتُنتزع المصطلحات الشرعية من واقعها الحقيقي ويُحرّف معناها لتوافق الأهواء الأرضية، وتفقد علاقتها بالسماء.

فالعلمانية تصارع لتُهَيمن على واقع الناس تقييما وتحاكما، وتزيح وتحاصر معايير السماء الربانية لتكون منزوعة الأثر عن حياة الناس؛ فتظل حبيسة صدورهم…»1

في ظل الواقع الذي أشرنا إليه سابقاً، تصبح الانهزامية الحضارية والنفسية وسماً للبناء الداخلي والتركيب المعقد للأمم المغلوبة المستضعفة. قال ابن خلدون: «المغلوب مولع أبداً بالاقتداء بالغالب في شعاره وزيه ونحلته وسائر أحواله وعوائده.

والسّبب في ذلك أنّ النّفس أبداً تعتقد الكمال في من غلبها، وانقادت إليه، إمّا لنظره بالكمال بما وقرعندها من تعظيمه، أو لما تغالط به من أنّ انقيادها ليس لغلب طبيعيّ، إنّما هو لكمال الغالب، فإذا غالطت بذلك، واتّصل لها اعتقادا، فانتحلت جميع مذاهب الغالب وتشبّهت به، وذلك هو الاقتداء.

 أو لما تراه والله أعلم من أنّ غلب الغالب لها ليس بعصبيّة، ولا قوّة بأس، وإنّما هو بما انتحلته من العوائد والمذاهب، تغالط أيضا بذلك عن الغلب وهذا راجع للأول.»2

طاعون الهيمنة الفكرية.. يفتك بعقول الأمة

الهيمنة الفكرية على عقول الأمة

هيمن الفكر الغربي على العالم الفكري، وذلك حتى في أدق تفصيلاته، وامتدت لوثاته لمساحات مجتمعية هائلة، والأمر قديماً كان محصوراً على الفئات المثقفة، واليوم هذه اللوثات لا تترك أحداً إلا لطمته، فقد طال مدادها كبار السن الأميين الذين لم يردوا حياض التعليم النظامي.

ولسنا في عجب من اتساع رقعة هذه الفتن، فعالم الأفكار هو عالم الانتشار والتوسع والتمدد والتشكل والتغير والتأثير والاقتناع، وإنما العجب ممن لم يدرك أن الفكر يحارب بالفكر، وأن شأن الأفكار أن تتمدد، كيف والعصر عصر جهل وظلام وتنحية للشريعة وحرب صريحة على الدين، وأن منشأ الصراع هو تضاد الأفكار واختلافها.

ولما كانت الأفكار هي القناعات الداخلية للأفراد ومحركات ودوافع للأفعال، بالتبعية انعكس ذلك كله على الحياة بنواحيها المختلفة من علم وعمل واقتصاد وتجارة وسياسة وعلاقات وحكم.

وسبق وأن ذكرنا أن أعداء الأمة أدركوا أنه لا قيمة للاحتلال العسكري بدون احتلال فكري، فصار الغزو الفكري بالشبهات والتشكيك والطعن مهيمناً وسابقاً لنظيره العسكري.

خطة الهيمنة الغربية.. كيف تأخر المسلمون؟

مكروا مكرهم الذي تخر له الجبال هداً بين تلاعب ثقافي ودهاء سياسي وتحكم اقتصادي فقاموا بما يلي:

  • فرض التعليم النظامي، وتغريم من يتخلف عن الركب.
  • تغير هوية الأجيال الناشئة من خلال مناهج علمانية، تشرف على وضعها لجان علمانية الهوى تحت زخارف مواكبة التقدم والتنمية العلمية والسلام.
  • استبدال الهوية الإسلامية بأخرى وطنية وقومية، واعتماد خطة غرس الأصول الفكرية المنحرفة من خلال المناهج التعليمية.
  • بناء منظمات تدعم الأجندة الغربية، وتقديم الدعم المالي الباهظ والإعلامي الواسع لها.
  • التلاعب الخفي من خلال بث الأفكار الخفية من خلال المواد الإعلامية والترويج لها من برامج ودراما تلفزيونية وكتب مطبوعة.

{وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ} [إبراهيم: 46].

انظر حولك.. طاعون الهيمنة في كل مكان

قال د. أحمد عبد المنعم -في نفس المنشور السابق-: «…من علمنة الفكر = تقييم الواقع من حولنا بمعايير مادية منقطعة الصلة عن السماء، لا تبصر عالم الغيب، تخلد إلى الأرض ولا ترجو الفردوس الأعلى، لا تفهم معاني التضحية والجهاد، ترى الشهادةَ هزيمةً، والتوكلَ على الله غروراً.»3

وسنتطرق إلى الحديث عن صور يومية تدعم صحة ما تناولناه:

  • مناهج تعليمية قديمة تنكر بعض الكتاب وتتفرق في الدين، ولا تقدم للمتعلم سوى ما وافق الهوى الغربي العام، وأخرى حديثة توافق المزاج الغربي الإلحادي واستبدال مادة الدين بمادة الأخلاقيات والقيم!
  • الدروس والمحاضرات الجامعية والمجالس العامة صارت ذات مزاج علماني يبعد الدين من هيمنته على الواقع تحاكماً وتقييماً.
  • غياب شعيرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فاضطمحلت الديانة واستشرى الفساد وتعطلت النبوة، واعتقاد غالبية الناس لمبدأ رفض الوصاية ونصح الآخرين.
  • فهم الحرية فهماً غربياً واعتقاد إطلاقها.
  • العجائز تدعو الفتيات إلى مناطحة الرجال والمساواة بهن واعتبار ما اختصت به المرأة إهانة لها وليس عملاً يستحق الإشادة به لمن أحسنته!
  • الحساسية العامة تجاه: (القوامة – العمل – الحدود – الشريعة – الجهاد – نواقض الإيمان…).
  • الحالة الاستهلاكية العامة وصرف الأموال ببذخ في رفاهيات وما لا طائل منه.
  • رؤية وتقييم المسلمين لأنفسهم من خلال نظر عدوهم لهم وقيمه ومعاييره.
  • وغيرها من الشواهد الواقعية مما لا يتسع المقام لسرده وحصره.

وقد صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم القائل: ((لتُنْقَضَنَّ عُرَى الْإِسْلَامِ، عُرْوَةً عُرْوَةً، فَكُلَّمَا انْتَقَضَتْ عُرْوَةٌ، تَشَبَّثَ النَّاسُ بِالَّتِي تَلِيهَا، وَأَوَّلُهُنّ نَقْضًا الْحُكْمُ، وَآخِرُهُنَّ الصَّلَاةُ)) [مسند أحمد: 22590].

إزاحة المصطلحات الشرعية.. بالقاموس الغربي

أزيحت المصطلحات الشرعية من القاموس التداولي بين عموم المسلمين، واستبدلت بأخرى علمانية تتماشي مع الثقافة الغالبة حذو القذة بالقذة، وسميت المسميات بغير اسمها تلاعباً ومكراً.

صورة ذلكبديلا عن
مقاومةجهاد
عيبحرام
مشروبات روحيةخمرة
فوائدربا
إكراميةرشوة
انفتاحإسراف في المعاصي
صداقةعلاقة محرمة
زميل عملرجل أجنبي
تطبيعموالاة الكافرين
إسلام سياسيشريعة
استبدال المصطلحات الشرعية

وذلك من تبعات هيمنة الفكر الغربي، وانتشار الجهل، وتفاقم الأزمات الاقتصادية، والبعد عن الدين، وغياب الوزاع الديني، وغياب محاضن التربية، وحبس العلماء والدعاة، والحرب الشعواء على الإسلام، والتنكيل بأهل الالتزام، والمصير المترقب لمن يحاول تنفيس الظلم عن الناس، والتعليم العلماني فالأمر له أبعاد كثيرة متداخلة ومعقدة ولا يمكن حصر بسبب دون آخر.

للمصطلحات الشرعية هيمنة في نفوس المسلمين إقبالاً وحثاً أو زهداً ونفرة، للشرع تعظيم وإجلال وقدسية عند عموم المسلمين، وله سطوة على القلوب؛ فالوحي هو خطاب علوي من رب العالمين، الخبير بالنفوس، وما يستميلها، ومداخلها، وكوامنها العليم بما يصلح لها.

 فإذا انكسرت هذه الحواجز فقد تم لهم ما أرادوا وازداد بعد المسلمين عن دينهم وهيمن الفكر الغربي المادي العلماني على الواقع تحاكماً وتقييماً وتسربت مبادئ هذا الفكر ولوثاته في النفوس وتشربتها القلوب.

اللعبة الخبيثة.. تغيير الأسماء الشرعية

ولكن كيف وللشرع قدسية في النفوس؟ فالحل إذن هو تسمية المسميات بغير اسمها وإزاحة الوصف الشرعي عنها. على سبيل المثال:

الجهاد

انظر إلى ما يفعله لفظ الجهاد في نفوس المسلمين من إقبال، ورهبة وحذر من التطبع بصفات المنافقين ومشابهتهم ولو بأدنى صفة.

قارن بين ذلك وعاقبة إزاحة الاسم الشرعي عن مجاهدة الأعداء من وهن وتثاقل وقلة المبالاة والاكتراث لشأنه، وتشرب القلوب للنفاق وتماديها سفولاً في دركاته، والمذلة وتعاظم المصائب وتفاقمها وفساد الأرض.

المحرمات

من الأمثلة أيضًا ترك توصيف الصغائر والكبائر بالمحرمات وتسميتها بالعيب، وشأن الحرام في النفس هو شأن نفور وتعاظم لاقترافه.

انظر الفارق بين التوصيف الشرعي  وهذه العلمنة المصطلحية من كسر الحاجز المانع من الفتح والولوج، بل وكسر الحاجز تجاه هذا العيب بدعاوى الليبرالية!

والشأن كذلك في المسميات الأخرى.

ختاماً

عشرات السنين من تغييب العقل المسلم وطمس الهوية ونشر الجهل ومحاربة الدين بل وحتى انبطاح وانهزام النخب الثقافية والفكرية أمام الغرب والولع بمشابهتهم في كل شي؛ فالمغلوب مولع بتقليد الغالب.

رفقًا بالناس إذا أوغلت في إصلاح وضبط الخلل الفكري المعاصر؛ فالناس أسرى لمعتقداتهم الحبيسة في صدورهم لعشرات السنين، والصدمات الفكرية مزلزلة مسببة لفقدان الاتزان والثقل، سرعان ما تغشي صاحبها أرضًا.

مراجع

  1. قناة الدكتور أحمد عبد المنعم على التليجرام. ↩︎
  2. مقدمة ابن خلدون، الفصل الثالث والعشرون. ↩︎
  3. قناة الدكتور أحمد عبد المنعم على التليجرام. ↩︎

أروى النسيبية

طالبة بالفرقة النهائية بكلية الطب البشري، نشأت في أسرة إسلامية، ذات حلم واعد وطموح بالغ… المزيد »

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى