جرائم الحرب التي أخفاها الجيش الأمريكي… مذبحة «حديثة» أنموذجاً

تأتي هاتان المقالتان مصاحبتان للموسم الثالث من سلسلة ”في الظلام“ (In The Dark)، وهي سلسلة بودكاست استقصائية حول جرائم الجيش الأمريكي التي يحاول إخفاءها، وتدور المقالتين هنا حول المذبحة التي حدثت في مدينة «حديثة»، ولماذا لم تتم محاسبة أحد عليها؟! وقد دمجناهما سويا.

لا تجلب الحرب سوى العنف والخراب، وكثير من جرائمها يحصل بغطاء قانوني تمامًا. ومع ذلك، تخرج عن دائرة القانون هذه بعض الجرائم التي تفوق بشاعتها الوصف. فعندما يكون الجناة من أفراد الجيش الأمريكي، لا يقوم الجيش بمحاسبتهم، ما يثير التساؤلات حول مصداقية الجيش بخصوص تقديم أفراده للعدالة عن الفظائع التي ارتكبوها؟!

لتوضيح هذه التساؤلات، قام فريق إعداد التقارير في برنامج ”في الظلام“ (In The Dark) التابع لمجلة (نيو يوركر) الأمريكية بتجميع مجموعة كبيرة من التحقيقات في جرائم الحرب المحتملة التي اُرتكبت في العراق وأفغانستان منذ أحداث الحادي عشر من سبتمبر. وخلص إلى أنه في كثير من الأحيان، يقوم الجيش الأمريكي بطمس الحقائق ولا يقاضي المجرمين المدانين بهذه الجرائم.

تتيح قاعدة البيانات إمكانية الاطلاع على مئات مزاعم جرائم الحرب التي تُلطّخ سمعة الدولة، إلى جانب نتائج التحقيقات والملاحقات القضائية المتعلقة بها، إلا أن النتائج محبطة للغاية حيث إن غالبية الادعاءات تم رفضها من قبل المحققين.

اقتل كما تشاء

مجلة ”نيو يوركر“ الأمريكية وعرض موسم ثالث من بودكاست "في الظلام"

بدأت قاعدة البيانات بتقرير ”في الظلام“ عن قتل بعض المدنيين في مدينة “حديثة” بالعراق في 19 نوفمبر 2005. حيث أصيبت فرقة من مشاة البحرية بقيادة الرقيب (فرانك ووتريتش) صباحاً بعبوة ناسفة بدائية الصنع، مما أدى إلى مقتل عريف بحري. وفي الساعات التي تلت ذلك الحادث، قتل جنود المارينز رجالاً ونساءً وأطفالاً في الشارع ذاته وفي المنازل المجاورة له. واتُهم أربعة من هؤلاء المارينز بمن فيهم القائد الرقيب (ووتريتش) بالقتل العمد. إلا أن ثلاثً من قضاياهم أُسقطت لاحقاً، حتى أنه عند ذهاب (ووتريتش) للمحاكمة، اُتهم بتهمة واحدة وهي التقصير في أداء الواجب، واكتفى القاضي بتخفيض رتبته العسكرية فقط. كيف توصلت محاكمة كبيرة ومعروفة لجرائم الحرب إلى نتيجة بهذا القدر الضئيل من الآثار المترتبة عليها؟ وهل كانت هذه حالة استثنائية أم أنها نمطية في نظام القضاء العسكري هنا؟

أوعزت وزارة الدفاع الأمريكية عام 1974م إلى جميع فروع الجيش بالاحتفاظ بالتقارير والتحقيقات حول جميع المزاعم المتعلقة بارتكاب أفراده لجرائم حرب وذلك في أعقاب مذبحة في فيتنام لم يحاكم مرتكبوها. ورغم ذلك، عندما قدمنا طلبات للحصول على السجلات العامة لمحتويات كل فرع، لم نحصل على الكثير، بل تنصلت بعض جهات سلاح مشاة البحرية وقالت إن مستودعها لا يحتوي على أي سجلات.

اضطررنا بعدها للبحث في المقالات الإخبارية المؤرشفة، وتقارير حقوق الإنسان، والمجلات القانونية والطبية، ومجموعة هائلة من السجلات المتعلقة بالتعذيب وإساءة معاملة المعتقلين. بحثنا عن حوادث مثل إطلاق النار العشوائي على المدنيين، وقتل أو تعذيب جرحى الأعداء، وإساءة معاملة المعتقلين أو إهمالهم المتعمد، وكلها أمثلة على جرائم الحرب. حتى أننا قصرنا بحثنا على الأحداث التي يمكن مقارنتها على نطاق واسع بمجزرة “حديثة”، وهي مزاعم العنف التي ارتكبها أفراد الجيش الأمريكي أو حالات الوفاة في عهد الولايات المتحدة التي وقعت في العراق وأفغانستان بعد 11 سبتمبر 2001م. كما استبعدنا الحوادث التي لا تصنف على أنها جرائم عنيفة كسرقة القطع الأثرية وعمليات القتل بواسطة ضربات الطائرات بدون طيار.

وأعدنا تقديم طلبات جديدة بموجب قانون حرية المعلومات للحصول على السجلات ذات الصلة، ولكن قيل لنا أنه ما لم نتمكن من تقديم أسماء الجناة، فإنه لن تتمكن الوكالات من إجراء عمليات البحث عن هذه الوثائق. وحتى عندما قدمنا لهم الأسماء، رفضت بعض الإدارات الإفصاح عن السجلات متذرعةً بحقوق الخصوصية. تبين لنا أن العديد من السجلات الأساسية التي يمكن الحصول عليها بسهولة في أي محكمة مدنية هي أمر مستحيل في نظام القضاء العسكري، وغالبًا ما يتم إتلافها.

قمنا بمقاضاة الجيش مراراً وتكراراً إلى أن أفرجت لنا الوكالات عن وثائق كافية تصل إلى سبعمائة وواحد وثمانين جريمة حرب محتملة، اُرتكبت ضد أكثر من ثمانمائة ضحية مزعومة، أخذها الجيش الأمريكي على محمل الجد بما يكفي للتحقيق فيها. ولتحليل قاعدة البيانات هذه، استشرنا الباحث (جون رومان) من المركز القومي لأبحاث الرأي العام في جامعة شيكاغو، والمتخصص في التحليل الكمي لنظام العدالة الجنائية المتعلقة بالمدنيين، وقد أفزعته النتائج قائلاً: «لقد وصل الأمر إلى النقطة التي يجب أن تتساءل فيها إذا كانت العدالة أولوية هنا أم أن هناك شيئاً آخر له أولوية أكبر من العدالة».

من بين سبعمائة وواحد وثمانين قضية وجدناها، تم رفض ما لا يقل عن 65% منها على الأقل من قبل المحقيين. فقد كان الجنود يعودون إلى الولايات المتحدة ويعترفون بأنهم قتلوا مدنيين أو سجناء، لكن المحققين العسكريين كانوا يجدون أن كل هذه الادعاءات لا يمكن إثباتها. فمثلا، عندما أبلغ معتقلون في سجن (أبو غريب) عن إساءة المعاملة من قبل حراسهم، لم يجد المحققون أدلة كافية لتأكيد حدوث ذلك. وعندما قُتل مدنيون كانوا يقودون سياراتهم وهم مسرعون للغاية عند الاقتراب من نقاط التفتيش، اعتبر المحققون عمليات القتل هذه تصعيداً مقبولاً للقوة. بل وعندما عُثر على شبان قضوا في سجن معسكر (بوكا)، عُزيت وفاتهم إلى أسباب طبيعية.

إلا أنه في مائة وإحدى وخمسين حالة، وجد المحققون أسباباً محتملةً للاعتقاد بوقوع جريمة، أو أن قواعد الاشتباك قد اُنتهكت، أو أن استخدام القوة لم يكن مبرراً. وتشمل هذه الحالات -مثلاً- حالة الجنود الذين اغتصبوا فتاة في الرابعة عشرة من عمرها ثم قتلوها هي وعائلتها؛ وحالة القتل المزعوم لرجل على يد أحد أفراد القبعات الخضراء الذي قطع أذن ضحيته واحتفظ بها؛ والقسوة تجاه المعتقلين في سجن (أبو غريب) وفي معتقل قاعدة (باغرام) الجوية. كانت تلك الجرائم في نظر نظام القضاء العسكري. ومع ذلك، حتى في هذه الحالات، كانت المساءلة المجدية نادرة جداً.

وقد تعرفنا على خمسمائة واثنين وسبعين جانياً مزعوماً مرتبطين بهذه القضايا الجنائية: أدين منهم مائة وثلاثون فقط. وتُظهر السجلات أنهم نادراً ما حُكم عليهم بالسجن لفترات طويلة. ففي كثير من الأحيان، كان يتم التعامل مع قضاياهم من قبل القادة الذين يتمتعون بسلطة واسعة لمعاقبة قواتهم بالخدمة الإضافية أو تخفيض الرتبة أو التوبيخ فقط، متحايلين بذلك على الملاحقة القضائية الرسمية تماماً. ويبدو أن القادة أنفسهم لم يواجهوا أبداً عواقب أفعال مرؤوسيهم. ويبدو أيضاً أن أقل من واحد من كل خمسة جناة مزعومين حُكم عليه بأي نوع من أنواع السجن.

إن ما ننشره هنا ليس سجلاً كاملاً للفظائع التي ارتكبها الجيش منذ أحداث الحادي عشر من سبتمبر/أيلول، إذ يستحيل أن نحيط بها جميعاً. هذا فقط تجميع لسبعمائة وواحد وثمانين جريمة حرب محتملة تم التحقيق فيها من قِبَل الجيش الأمريكي والتي تمكنا من تحديدها. لكل من هذه الجرائم قصتها الخاصة، ولكن العديد منها يبدأ وينتهي بالطريقة ذاتها: فكل فعل مروع ارتكبه أفراد من الجيش، عوقبوا عليه لاحقاً بشكل خفيف أو لم يعاقبوا عليه أبداً.

مذبحة «حديثة».. جرائم مخفية

أحد أوضح الأمثلة على هذه الجرائم هي المذبحة التي حصلت في صباح يوم 19 نوفمبر/تشرين الثاني 2005م، حيث كانت فرقة من مشاة البحرية تتنقل في عربات “هامفي” على طريق في بلدة (حديثة) بالعراق عندما ضربت قافلتهم عبوة ناسفة بدائية الصنع، وخلال الساعات القليلة التي تلت تلك الحادثة، قتل جنود المارينز أربعة وعشرين رجلاً وامرأةً وطفلاً عراقيّاً، وأطلقوا النار أيضاً على خمسة رجال كانوا في طريقهم إلى إحدى الكليات في بغداد. ودخلوا بعدها ثلاثة منازل قريبة وقتلوا كل من كان بداخلها تقريبًا. كانت أصغر الضحايا طفلة في الثالثة من عمرها، وكان أكبرهم رجل سبعيني. ادعى جنود المارينز لاحقاً أنهم كانوا يقاتلون المتمردين في ذلك اليوم، لكن القتلى كانوا جميعاً من المدنيين.

جرائم الجيش الأمريكي

بعد انتهاء المذبحة، شرع جنديان آخران من المارينز بتوثيق ما حدث، حيث تنقل (بريونز) و(رايت) من موقع إلى آخر، وقاما بوضع علامات على الجثث بالأرقام ثم تصويرها. وقام جنود آخرون من المارينز، بما في ذلك واحد منهم كان يعمل في الاستخبارات، بتصوير المشهد. وبانتهائهم من عملية التصوير هذه، كانوا قد جهزوا مجموعة من الصور ستكون أقوى دليل ضد زملائهم من مشاة البحرية.

عُرفت عمليات القتل هذه لاحقاً في الأوساط الإعلامية باسم «مذبحة حديثة»، حيث اتُهم أربعة من مشاة البحرية بالقتل، ولكن تم إسقاط هذه التهم. بل وكتب الجنرال (جيمس ماتيس)، الذي أصبح فيما بعد وزيراً للدفاع، رسالة مشجعة إلى أحد جنود المارينز أسقط فيها التهم الموجهة إليه وأعلن براءته. ومع حلول عام 2012م، انتهت القضية الأخيرة منها بصفقة تمخضت عن الاعتراف بالذنب ولكن دون صدور حكم بالسجن، وكانت حرب العراق قد انتهت وقتها، وأصبح من النادر أن تحظى القصص حول الإرث الدموي للاحتلال الأمريكي باهتمام كبير بين العامة.

من المتعارف عليه أن تأثير جرائم الحرب يرتبط عادة بهول الصور التي ينتهي يتم تسريبها أو ينتهي بها المطاف في أيدي الجمهور. فمثلاً، أصبحت إساءة معاملة المحتجزين في سجن “أبو غريب” فضيحة دولية عندما نُشرت الصور الفوتوغرافية المؤلمة. إلا أنه لم يكن لعمليات القتل في ” مذبحة حديثة” المصير ذاته. بل انتهى المطاف بعدد قليل من الصور التي التقطها جنود المارينز في المجال العام، ولكن معظمها بقي طي الكتمان. ففي مقابلة شفهية لسلاح مشاة البحرية في عام 2014م، تفاخر الجنرال (مايكل هاجي)، الذي كان قائدًا لسلاح مشاة البحرية وقت وقوع «مذبحة حديثة»، بإبقاء هذه الصور قيد الكتمان، حيث قال يومها: «لم تحصل عليها الصحافة أبدًا، على عكس أبو غريب … لقد تعلمت من ذلك … تلك الصور لم تُعرض حتى الآن. ولذا، أنا فخور جدًا بذلك».

في عام 2020م، قدم فريق إعداد التقارير لدينا في بودكاست “في الظلام” طلبًا إلى البحرية، بحثًا عن سجلات تتضمن هذه الصور. كنا نعتقد أن الصور ستساعدنا في إعادة فهم ما حدث في ذلك اليوم، ولماذا أسقط الجيش تهم القتل عن جنود البحرية المتورطين؟ لم تُفصح البحرية عن أي شيء. ثم رفعنا دعوى قضائية ضد البحرية وسلاح مشاة البحرية والقيادة المركزية الأمريكية لإجبارهم على تسليم الصور وغيرها من السجلات المتعلقة بعمليات القتل في (حديثة). توقعنا أن تَدّعي الحكومة أن نشر الصور سيضر بأفراد عائلات القتلى الناجين من الموتى. وكان المُدّعون العامون العسكريون قد قدموا هذه الحجة بالفعل بعد محاكمة آخر متهم من مشاة البحرية.

سافرنا بعدها إلى العراق للقاء أفراد عائلات ضحايا القتل. هناك سردوا لنا ما حدث في 19 نوفمبر/تشرين الثاني 2005م، وجهودهم أيضاً في السعي لتحقيق العدالة، والتي باءت جميعها بالفشل. قال لي (خالد رصيف)، وهو محامٍ فقد خمسة عشر فرداً من عائلته في ذلك اليوم: «أعتقد أن من واجبنا أن نقول الحقيقة». وأخبرني رجل آخر يدعى (خالد جمال) كان في الرابعة عشرة من عمره عندما قُتل والده وأعمامه، أنه قضى سنوات يتساءل عما حدث في اللحظات الأخيرة لأفراد عائلته. «هل ماتوا كرجال شجعان؟ هل كانوا خائفين؟ أريد أن أعرف التفاصيل». سألناهما إذا كانا سيساعداننا في الحصول على صور أفراد عائلتهما المتوفِين. فوافقا، وأبرمنا يومها صفقة تعاون قد تبدو غير اعتيادية – صحفي أمريكي ورجلان عراقيان قُتل أفراد عائلتيهما، يعملون معاً لكشف فضائح الجيش الأمريكي.

عملنا مع المحامين الذين يمثلوننا في الدعاوى القضائية التي رفعناها ضد الجيش لصياغة استمارة يمكن لأفراد العائلة الناجين أن يوقعوا. وعرض (رصيف) و(جمال) أخذ الاستمارة إلى أفراد العائلة الآخرين، حيث مرا على جميع منازل أقارب الضحايا في “حديثة” لشرح تقاريرنا وما كنا نحاول القيام به. كانت النتيجة أن (رصيف) و(جمال) جمعا سبعة عشر توقيعاً. وقدم محامينا الاستمارة في المحكمة كجزء من دعوانا القضائية. وفي مارس/آذار، وبعد أكثر من أربع سنوات من طلبنا الأولي بموجب قانون حرية المعلومات، رضخ الجيش أخيراً وأعطانا الصور… صور المذبحة.

بناءً على هذه الصور وبعد الحصول على إذن من ذويهم الأحياء بنشرها وبعد نتائج جميع التحقيقات السابقة، قررت مجلة ”نيو يوركر“ الأمريكية عرض موسم ثالث من بودكاست “في الظلام” (In The Dark)، حيث يناقش هذا البودكاست الجرائم التي يحاول الجيش الأمريكي إخفاءها عن أعين العالم، ويقع الموسم الثالث في تسع حلقات مقروءة وسجلت أيضاً بشكل مسموع، بل وصممت أيضاً بطريقة توثيقية تفاعلية (https://www.newyorker.com/podcast/in-the-dark/cleared-by-fire)؛ سعياً منها للكشف عن فظاعة المجازر الذي اختار الجيش الأمريكي التكتم عليها وعدم معاقبة الجناة المرتكبين لها.

المقال الأول: The War Crimes That the Military Buried

المقال الثاني: The Haditha Massacre Photos That the Military Didn’t Want the World to See

المقال الأول بقلم: باركر يسكو – 10 سبتمبر/أيلول 2024، والثاني بقلم مادلين باران – 27 أغسطس/آب 2024

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى