حوار افتراضي مع الشيخ محمد الغزالي عن “الإسلام والاستبداد السياسي”
الشيخ محمد الغزالي في كتبه ومحاضراته أرعب الملاحدة والعلمانيين والمنافقين، والطغاة والظالمين، والجبابرة المستكبرين. «عاش الشيخ الإمام رحمه الله عمره كله محاربًا للقوى المعادية للإسلام في الداخل والخارج، والتصدي لتياراتها، والعمل على هدم أوكارها، وهتك أستارها، وكشف عملائها، وهو هنا مقاتل عنيد، لا يستسلم ولا يطأطئ، ولا يلين يومًا. وقف في وجه الاستعمار، وكشف عن حقيقته ودوافعه، وأنها (أحقاد وأطماع). وفي وجه الصهيونية التي اغتصبت الأرض المقدسة وشردت الأهل، وخططت لهدم المسجد الأقصى وإقامة هيكل سليمان على أنقاضه. وفي وجه التنصير الذي يريد أن يسلخ المسلمين من عقيدتهم، ليصبح المسلمون عبيدًا للصليبية الغربية. وفي وجه الشيوعية التي سماها (الزحف الأحمر) ونبه على خطرها من قديم، واكتساحها للجمهوريات الإسلامية في آسية. وفي وجه الحضارة المادية وإباحتها الجنسية، وعصبتيها العنصرية، ومحاولتها للسيطرة الإمبريالية، وإن لم ينكر ما فيها من عناصر إيجابية يمكن الاستفادة منها. وفي وجه العلمانية اللادينية, التي تؤمن ببعض الكتاب وتكفر ببعض، تريد الإسلام عقيدة بلا شريعة، وسلامًا بلا جهاد، ودينًا بلا دولة، واتباعًا أعمى للغرب (شبرًا بشبر، وذراعًا بذراع).»1
كتاب الغزالي (الإسلام والاستبداد السياسي) هو عبارة عن محاضرات ألقاها -أيام كان في السجن- على إخوانه في حكم الملك فاروق سنة 1948م، وصدرت في كتاب سنة 1949م. يقول المعتني بالكتاب واصفًا قيمته: “هذا الكتاب من أخطر الكتب التي تناولت الاستبداد السياسي دراسة واقعية معاصرة جريئة امتزجت بالأسانيد الشرعية والمرويات التاريخية..
وليست قوة الكتاب فيما احتوى من معلومات فهذه ليست غريبة أو بعيدة عن مقدرة الشيخ الغزالي، وإنما مكمن قوته في جرأته البالغة في توجيه صفعة شديدة للطغيان في وقت كان السجن والتنكيل مصير رائدي الأقلام الحرة والضمائر الصاحية.. وكانت الرقابة على الصحف والكتب توعد بحياة الأحرار والشرفاء وتقصف بأقلامهم.
سُئل يوما عن كتابه هذا فقال: «أشهر كتبي عندما هاجمت فيها الطغيان وفساد الحكم وأسميته (الإسلام والاستبداد السياسي) وكان ذلك في أواخر الأربعينيات وكان هذا اليوم من أهم أيام حياتي، واعتبره نقطة انطلاق لى…
بمجرد أن نزل الكتاب إلى الأسواق فوجئت بالحكومة كلها تهتز وتصدر قرارا بمصادرة الكتاب. وأحسست أن القصر الملكي اهتز بشدة من هذا الكتاب وقبض علىّ وقدمت للمحاكمة بتهمة مهاجمة الحكومة.. وخرجت من هذه القضية بدون أن يثبت على شيء.»
وعندما سُئل عن قصده من الكتاب قال: «ليس الكتاب لفئة دون فئة أو نظام دون آخر إنه لكل العصور وكل الأنظمة.. لقد طالبني رجال المباحث في العصر الجمهوري بتغيرات معينة وتحديدات خاصة، فرفضت ونالني ما نالني…»”2
وفي هذ المقال نُجري حوارًا افتراضيًا مع الشيخ محمد الغزالي رحمه الله، حول الاستبداد السياسي وخطورته، وسبل مواجهته، انطلاقا من كتابه (الإسلام والاستبداد السياسي) وبعض كتبه الأخرى.
متى كرهت الاستبداد؟
كنت أكره الاستبداد قبلًا كرجل خلقه ربه حرًا، فلما لعقت مرارة القلة والاستضعاف والاختطاف، ووجدت زمامي يلعب به السفهاء كما كان صبية مكة يلعبون قديمًا بالحبل الذي رُبط فيه بلال بن رباح رسبت مشاعر الحقد في أعماق قلبي، وفهمت كيف أن اندحار الأعداء يشفي صدور قوم مؤمنين، ويذهب غيظ قلوبهم.3
وهل ستتوقف يومًا ما عن مواجهة الاستبداد؟
نحن لن نتوانى عن أداء واجبنا الذى يسرنا الله له، وأعاننا عليه وسنظل نساند قضايا الحق، ونناصر أهله حتى نلقى الحق -جل شأنه- صادقین أوفياء.4
ما موقف الإسلام من الاستبداد؟
الإسلام والاستبداد ضدان لا یلتقیان، فتعاليم الدين تنتھي بالناس إلى عبادة ربهم وحده، أما مراسيم الاستبداد فترتد بهم إلى وثنية سياسية عمياء.
وقد راعني أن أجد كثرة كبرى من الرجال العاملين في الجبهة الإسلامية مذهولين عن إدراك هذه الحقيقة الخطيرة، وهم حين يدعون إلى الإسلام ينسون ما أفاده العالم من تجارب في صراعه للحكام الظلمة الذين أساءوا إليه، وعلموه أن يحدد علائقه بهم في دساتير مضبوطة وقوانين محكمة.5
هناك من يقول لا توجد أحكام تفصيلية لمواجهة الاستبداد في الإسلام، فهل هذا صحيح؟
كلا.. ففي تعاليم الإسلام وفاء بحاجات الأمة كلها، وضمان مطمئن لما تشتهي وفوق ما تشتهي من حريات وحقوق، إنما بطشت مخالب الاستبداد ببلادنا وصبغت وجوهنا بالسواد، لأن الإسلام خولف عن تعمد وإصرار، طُرحت أرضًا البدهيات الأولى من تعاليمه، وقام في بلاد الإسلام حكام تسرى في دمائهم جراثيم الإلحاد والفسوق والمنكرات فخرجوا سافرين عن أخلاقه وحدوده.
ومع ذلك فقد فرضوا أنفسهم على الإسلام إلى يوم الناس هذا.. ولو أن الإسلام ظفر يومًا بحريته، وأمكنته الأقدار أن ينتصف لنفسه، لكان جمهور هؤلاء الحكام بين مشنوق ومسجون.6
و”لا ريب أن هذه المناصب تغري النفوس الطامعة، وتجعل الكثيرين يتوقون إلى اعتلائها، فلما جاء الإسلام وبدأت هداياته تشرح الصدور بالحق، وأحست الشعوب بأنها كانت ضحايا لصوصيات كبيرة، وعرف أنه ما من حق إلا بإزائه واجب، وأن الحاكم فرد يختاره الجمهور ليأخذ منه أكثر مما يعطيه، وأن الحاكم يجب أن يحس بأثقال المصالح العامة التي نيطت بعنقه، وأنه لو عقل لتهيب أعباء منصبه فإنها أمانة؛ سوف يسأل عنها، لا لذة عاجلة يراد انتهازها. لما جاء الإسلام بدأ يتكلم بدقة ووضوح، فمحا ما يفهمه الناس عن الحكم من أنه متعة ومجد. إنه مسؤولية فادحة لا يتعرض لها فيفرط فيها إلا أحمق سيء الظن بالله، وفى ذلك يقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((إنَّكُمْ سَتَحْرِصُونَ علَى الإمارَةِ، وسَتَكُونُ نَدامَةً يَومَ القِيامَةِ، فَنِعْمَ المُرْضِعَةُ وبِئْسَتِ الفاطِمَةُ)) [صحيح البخاري: 7148].7
هذا و”إني لا أعرف دينًا صَبَّ على المستبدين سوط عذاب، وأسقط اعتبارهم، وأغرى الجماهير بمناوأتهم، والانتفاض عليهم كالإسلام. ولا أعرف مُصلحًا أدب رؤساء الدول، وکبح جماحهم، وقمع وساوس الكبرياء والاشتهاء في نفوسهم، كما فعل ذلك نبي الإسلام صلى الله عليه وسلم لقد كسر القيود وحرر العبيد، ووضع التعاليم التي تجعل الحاكم يتحرى العدل والمحكوم يكره الضيم.8
واستقراء أحوال الأنبياء مع أقوامهم يؤكد حقيقة واحدة، لم تزدها الأيام إلا صِدقا، وهو أن الاستبداد الأعمى عدو الله، وعدو رسله، وعدو الشعوب، وأنه لا قيام لحق في هذه الحياة إلا إذا طمست صور هذا الاستبداد، وسويت به الأرض، ومشت عليها الأقدام.9
إلى ماذا ترمز كبرياء الحكام؟
وكبرياء الحكام ترمز إلى ضرب من الوثنية السياسية له طقوس ومراسيم يتقنها الأشياع، ويتلقفها الرعاع على أنها بعض من نظام الحياة الخالد مع السموات والأرض. وحيث يسود الحكم المطلق تنتقص الإنسانية من أطرافها، بل من صميمها.10
إن الحكام المستبدين كالحشرات القذرة لا تعيش أبدًا في جو نظيف، ولا تنصب شباكها للصيد والنهب إلا حيث الغفلة السائدة والجهالة القاتمة.11
كيف ينشأ الاستبداد بين أتباع المستبد؟
كما ينبت الشرك في أحضان الوثنية ينبت الرياء في ظلال الكبر، وحيث يوجد السادة المستكبرون يوجد الأتباع المُتملقون والأشياع المراؤون.
وجو الحكم المطلق أحفل الأجواء بجماهير العبيد الراضخين للهون عن طواعية أو كراهية، وفي الحرب التي شنها القرآن الكريم على هذه المجتمعات المظلمة ترى الهجوم يتتابع على مبدأ “السيادة والتبعية” وعلى ما يلحق هذا الجو إلغاء للعقول والضمائر. كان فرعون يشير إلى هذا المبدأ عندما استنكر إيمان السحرة قبل أن يأخذوا الإذن منه!!12
وما طبيعة العبيد أو المستضعفين في ظل الحكم الاستبدادي؟
وطبيعة المستضعفين أن يسارعوا إلى مرضاة رؤسائهم، وإجابة رغائبهم ولو داسوا في ذلك مقدسات الأديان والأخلاق.
والحاكم المستبد يبارك هذه الطبيعة الدنسة ويغدق عليها، ولو راجعنا الصحائف السود لتاريخ الاستبداد السياسي في الأرض لوجدنا مراءاة الحكام، وقد وطأت أكتاف المنكر، وأقامت للأكاذيب سوقًا رائجة، وقلبت الحقائق وصنعت الدواهي.
قتل الخليفة (المنتصر بالله) أباه (المتوكل على الله) وتولى الحكم بعده!! وإلى هذه المأساة يشير البحتري في قصيدة مطلعها:
أكان ولي العهد أظهرت غدره ***** فمن عجب أن ولي العهد غادره!
والخليفة الذي سمّاه الدجل السياسي (مُنتصرا بالله) تولى على العرش بدل أن يذهب إلى السجن، ووضع على رأسه التاج، بدل أن يجتز بالسكين.13
و”عندما تفسد الدولة بالاستبداد، وعندما تفسد الأمة بالاستعباد، يعتبر الرياء هو العُملة السائدة، وقاعدة تقرير الأمجاد لطلاب المجد الكاذب، وتقريب المنفعة لطلاب المنفعة الزائلة، وهو حينئذ خلق السادة والعبيد.14
إن الفراعنة والأباطرة تألهوا؛ لأنهم وجدوا جماهير تخدمهم بلا وعي. الثقة المطلقة والأحبار والرهبان والبابوات تألهوا كذلك؛ لأنهم وجدوا رعايا تمنحهم وتُلغي وجودها الأدبي أمام ما يصدرون من أحكام. والشعوب التافهة في كل زمان ومكان هي التي تصنع المستبدين وتغريهم بالأثرة والجبروت.15
نعم وهذا ما أشار إليه عبد الرحمن الكواكبي في كتابه (طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد): «العوام هم قوَّة المستبد وقوته، بهم عليهم يصول ويطول؛ يأسرهم، فيتهللون لشوكته؛ ويغصب أموالهم، فيحمدونه على إبقائه حياتهم؛ ويهينهم فيثنون على رفعته؛ ويغري بعضهم على بعض، فيفتخرون بسياسته؛ وإذا أسرف في أموالهم، يقولون كريماً؛ وإذا قتل منهم ولم يمثِّل، يعتبرونه رحيماً؛ ويسوقهم إِلى خطر الموت، فيطيعونه حذر التوبيخ؛ وإن نقم عليه منهم بعض الأباة قاتلهم كأنهم بغاة.»16
لو تذكر لنا بعض مظاهر الاستبداد؟
ومن خصائص الحكم المطلق السرف الشديد على شخص الفرد الحاكم وعلى كل من يمت إليه بنسب أو يواليه بنصر، فترى شهوات الغى -في البطون والفروج- مشبعة، ومضلات الهوى مسيطرة على المشاعر والنهى، وعبء هذه النزوات يقع على عاتق الخزانة العامة وحدها، فإن الاستبداد السياسي لا يبالي من أين يأخذ المال ولا أين يضعه. وقد نكب المسلمون -من قديم- بنفر من القطاع، وقعت في أيديهم غنيمة الحكم فتقاسموها نهمين، ولم يعرفوا من المناصب التي سقطت في أيديهم إلا أنها منابع ثروة للشباب الجامح والنزق والإفراط، أما مصالح الأمة فلا وزن لها.17
أما ولائمهم وملابسهم وأعراسهم وأحفالهم وسائر شؤونهم، فإن وصف ما يلابسها من بذخ وسعة يتطلب من الأسفار حمل حمار..
ولا تزعم أن هذا البلاء كان حكرًا على بلد بعينه، فإن أقطار الدنيا الأخرى ظلت تحت وطأته زمنًا، حتى تخلصت عدة منها من قيوده.. ولا تزال الأخرى تجاهد في طريق الخلاص. وحكم الإسلام على هذا الضرب من اللصوصية لا يحتاج إلى فقه عميق أو فلسفة معقدة إلا إذا احتاج ضوء النهار إلى دليل.
إن الحاكم المطلق يتشهي ما يشاء فلا ينقطع شيء دون أمانيه الحرام، والحلال عنده ما حَلَّ في اليد، أما الدين وتعاليمه ففكاهة النهار وسمر الليل.18
فهل يقبل المستبد الرأي الحر؟
إن عقول المستبدين لا تعرف مبدأ التفاهم ولا تطيق الأخذ والرد للوصول إلى الحق!
ويكاد لا ينبعث صوت للخير حتى يلاحقه سوط من الإرهاب يطلب إما إخراسه وإما قتله!!
وعندما فرض هذا الاستبداد نفسه على الأديان -فيما بعد- وضع مبدأ: من قال لشيخه: لِمَ؟ فقد حُرِمَ برکته!!
وإذن فكيف تسير الأمور؟!
تسير بالأوامر العسكرية الجافة تصدر من شخص خلقه الوهم إلى أشخاص لا يملكون لأنفسهم ضرًا ولا نفعًا، ولا لغيرهم نقدًا ولا ردًا!!19
هل من إضافة في هذا الشأن؟
أما الحاكم المجرم فيريد جوًّا يسوده الصمت الرهيب، لأنه يدرى أن الأفواه لو نطقت فستفضح خبأه وتكشف سره، وهنا الطامة الكبرى.
ولذلك كان خصائص الاستبداد السياسي في كل زمان ومكان كرهه الشديد لحرية النقد والتوجيه، وكان من خصائص الإسلام التي امتاز بها -لتقويض أركان الاستبداد- أن أوجب على كل فرد أن ينقد الخطأ وأن يوجه إلى الخير.
كان الثوار على المظالم في كل بلد وقع فريسة الحكام المستبدين يطلبون حرية القول، وكان هؤلاء الحكام يخشون من الحرية على كيانهم فهم يحظرونها، ولا يجوز أن يذاع إلا ما كان مدحًا لهم أو زُلفى إليهم!20
كيف يستغل المستبدون العلماء المتملقين؟
نحن في أيامنا هذه لا نشكو فحسب من الشياطين الخرس التي تعرف الحق وتكتمه، بل نشكو من أن الولاة الفجرة في بلاد الإسلام يجدون من يعين على الشعوب معهم، ومن يصنعون الفتاوى المكذوبة لتسويغ مآثمهم، والدين وحده ضحية هذا الفجور من الظالمين والمظلومين، والمسوغين، والمقتنعين.21
والواقع أن مداهنة الظلمة سبب أصيل في استشراء أذاهم وامتداد طغواهم… وعندما يجد الملك الجبار من يُزين له سياسته، وعندما يجد الحاكم المعتوه من يَثْنون خيرًا على حماقته، فهنا الطامة التي تبيد الأمم.22
وبماذا يشتغل العلماء المتملقون في ظل الاستبداد؟
إن “أثر الاستبداد ظهر في تثبيط الهمم عن علاج المسائل المتعلقة بأصل الحكم، ومن ثم اشتغل المسلمون بألوان من الترف العقلي وعكفوا على البحوث الفلسفية والنظرية والفرعية مما لا يضير الحكام المجرمين أن تؤلف فيه المجلدات الضخام. واكتفى العلماء بدراسة آراء الإسلام في الحكم والمال، وتلاوة الآيات والأحاديث التي تكشف عن خلل الأوضاع القائمة.23
هناك من العلماء من يرى عدم إلزامية الشورى للحاكم، وقد يطلقون عليه المستبد العادل، ما رأيك في هذا؟
لعل فكرة عدم إلزامية الشورى وفكرة المستبد العادل.. كلها كانت فلسفة لواقع معين لتبرير وتسويغ الاستبداد السياسي من فقهاء السلطة. وكلمة (مستبد عادل) تساوي (عالم جاهل) تساوي (تقى فاجر).. هذا جمع بين الأضداد..
وقد يشيع في المجتمع الإسلامي فترة من الفترات مصطلح مستبد عادل، أو أنه قد يشيع في المجتمع الإسلامي أن الشورى غير ملزمة، كَلَوْن من التبرير أو التسويغ أو إعطاء الفتوى للاستبداد السياسي، أو إلباس ثوب إسلامي للاستبداد السياسي.24
ومن ميّزات الشورى أنها ترد الحاكم إلى حجمه الطبيعي كلما حاول الانتفاخ والتطاول، والجماعات البشرية السوية، فيها رجال كثيرون يوصفون بأنهم قمم. أما البيئة المنكوبة بالاستبداد فدجاج كثير وديك واحد، إن ساغ التعبير!!
ومقابح الاستبداد بعيدة الآماد، ومع ذلك فإن بعض المتدينين مصاب بالرمد المزمن فهو لا يراها، وإذا تلا نصوص الشورى في دينه قال: ثم للحاكم أن يمضي على رأيه لا على الشورى!25
لماذا يكره المستبد العظماء؟
الحاكم المستبد أشد غيرة من المرأة الوالهة، وهو يكره العظماء من القادة والساسة والعلماء والأدباء، وإذا قبلهم فليلتحقوا به أذنابًا، والعظيم المستلحق لا بأس أن يكون ذيل الطاووس، إنه ذيل على كل حال، ولا يقبل أبدًا أن يكون عُرف الديك. هذا هو السر وراء مصارع القادة الكبار الذين فتحوا المشرق والمغرب، فقد كره الحاكم المستبد أن يحيا إلى جواره رجال لهم أمجاد ومفاخرة قد يدلون بها.26
ومما يقترن بالاستبداد السياسي ولا ينفك عنه، غمط الكفايات، وكسر حِدَّتها وطرحها في مهاوى النسيان ما أمكن. ذلك أن المستبد يغلب عليه أن يكون مصاباً بجنون العظمة.
وربما اعتقد أن كل كفاية إلى جانب عبقريته الخارقة صفر لا تستحق تقديرًا ولا تقديمًا.. وإذا أكرهته الظروف على الاعتراف بكفاية ما، اجتهد في بعثرة الأشواك أمامها، واستغل سلطانه في إقصائها أو إطفائها.27
نعم مثل هذا ما قاله عبد الرحمان الكواكبي: «كما يبغض المستبدُ العِلمَ لنتائجه، يبغضه أيضًا لذاته، لأن للعلم سلطانًا أقوى من كل سلطان، فلا بد للمستبد من أن يستحقر نفسه كلما وقعت عينه على من هو أرقى منه علمًا، ولذلك لا يحب المستبد أن يرى وجه عالم عاقل يفوق عليه فكرًا، فإذا اضطر لمثل الطبيب والمهندس يختار الغبي المتصاغر المتملق. وعلى هذه القاعدة بنى ابن خلدون قوله “فاز المتملَقون”، وهذه طبيعة كل المتكبِّرين، بل في غالب الناس، وعليها مبنى ثنائهم على كل من يكون مسكينًا خاملًا لا يُرجى لخير ولا لشر».28
ما آثار الاستبداد؟
وأثر الاستبداد السياسي في تعويق العمران وتخدير النشاط الإنساني معروف، ومن خمسين عامًا أو يزيد والدمار الحضاري يجتاح العالم العربي والإسلامي، ويُبعثر العلل في نواحيه المختلفة، إلا أن هناك أثرًا آخر لذلكم الاستبداد يجب فضحه، فإن الاستعمار لما اشتبك مع المسلمين في أقطار كثيرة، وشرع تحت ضغط المقاومة الدائمة ينسحب من هنا وهناك، رأى أن يُغطِّي انسحابه بحكومات تُحقِّق مآربه، وإن كان عنوانها قوميًا بحتًا.29
والحكم الاستبدادي تهديم للدين وتخريب للدنيا، فهو بلاء يصيب الإيمان والعمران جميعًا. وهو دخان مشئوم الظل تختنق الأرواح والأجسام في نطاقه حيث امتد. فلا سوق الفضائل والآداب تنشط، ولا سوق الزراعة والصناعة تروج…!!
ومن هنا حكمنا بأن الوثنية السياسية حرب على الله وحرب على الناس. وأن الخلاص منها شيء لا مفر منه لصلاح الدنيا والاخرة… وقد أصيب الإسلام في مقاتله من استبداد الحاكمين باسمه. بل، لقد ارتدت بعض القبائل، ولحقت بالروم فرارًا من الجور.. إن المستبدين ينبتون في مناصبهم نبتًا شيطانيًا لا توضع له بذور، ولا تحف به رغبة، ولا تشرف عليه موازنة أو مشورة!!30
والاستبداد السياسي في أقطار كثيرة يمهد لِفِرْيَةٍ استعمارية خبيثة، على أن الأديان كلها وجوه مختلفة لحقيقة واحدة، وأنه لا فرق عند التعمق بين التوحيد والتعديد، والمجوسية واليهودية، والإسلام والنصرانية.31
حتى لا نطيل عليكم، ما الحل لمواجهة الاستبداد؟
أولا: على “الفرد [أن] يحرس الإيمان في نفسه وفي بيئته:
لا يمكن تجاهل العلاقات الوطيدة بين الإنسان والجماعة التي يحيا فيها، ولا إنكار التفاعل المتبادل بين الفرد وبيئته، ولو كان مألوفًا في نظام الحياة أن المرء يعيش منطويًا على نفسه مقطوعًا عن غيره، لا يتأثر بأحد ولا يؤثر فيه أحد، لجاء الدين يوصى الإنسان بالإقبال على خاصة نفسه والاهتمام بما يعينه من شؤون، غير آبه بعدئذ لما كان أو يكون. لكن الإنسان لبنة في بناء متماسك، أو فرع من شجرة متصلة، وهو -طوعًا أو كرهًا- لابد أن يعترف بهذه الصلات العامة، وأن يحدد بدقة موقفه من هذا الاختلاط المفروض، وقد جاء الإسلام فأقر هذا الترابط القائم، وهل يسعه إلا هذا؟
ثم بنى تعاليمه على هذا الأساس فجعل المسلم رقيبًا على دينه في مجتمعه، كما هو رقيب عليه في نفسه، وزوده بأخلاق من الصراحة والشجاعة توجب عليه أن يفعل الخير ويدعو إليه، ويحب المعروف ويأمر به ويعمل على إشاعته، ويكره المنكر وينهى عنه ويسعى إلى تغييره. ولم ير ذلك نافلة هينة يتطوع الإنسان بأدائها، أو يكسل ولا عليه!
كلا.. فالتواصي بالحق والصبر على مشتقاته من أركان الفلاح {وَالْعَصْرِ (١) إِنَّ الإنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ (٢) إِلا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ (٣)} [سورة العصر، 1:3].32
ثانيًا: “قاعدة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر:
إن هذا العنوان بلى على ألسنة المشتغلين بالدين حتى لم يعد واضح الدلالة على الحقيقة التي يرمز إليها، ولو يعلم الناس ما قصد إليه الإسلام من إقامة هذا المبدأ الخطير لأيقنوا أنه وضع به أسس التمرد على المظالم والثورة على الفسوق، وتجريء العامة فردًا فردًا على أن يصدعوا بالحق، وأن يصدعوا به رأس كل جبار عنيد!!33
وقد “احتاط الإسلام لضمان الحقوق الخاصة والعامة بتقرير ثلاثة مبادئ يكمل بعضها بعضًا:
- كف يد الظالم.
- استنهاض المظلوم ليدفع عن نفسه.
- مطالبة الغير بالتدخل لصد العدوان ورفع الغبن.
وليس يتصور فرض آخر يضم إلى هذه المبادئ حتى يتم تأديب الأقوياء وتدعيم الضعفاء. ولو جمعنا هذه الأطراف في بلادنا ما شكونا حيفا، ولو تواصى أهل الأرض بهذه المبادئ ما قامت ثورة ولا سفكت قطرة دم، ولو أُنصف الناس لاستراح القاضي!!34
وبالنسبة للدساتير كيف يمكن أن تساهم في محاربة الاستبداد؟
حقًا إن الدساتير والقوانين تأتى في المحل الثاني بعد تهذيب النفس وترقية الضمير، غير أن مجيئها في المحل الثاني لا يعنى إلغاءها أو الغض من أثرها. فإن القيمة الذاتية لهذه الدساتير، ونُبل الفكرة التي أوحت بوضعها، وخبث المؤامرات التي حيكت لتعطيلها، وعظم الفائدة التي تتحقق من رعايتها لدين الله ولدنيا الناس معًا.. ذلك كله كان يوجب على العاملين للإسلام أن يحددوا موقفهم بإزائها، وهو موقف يستحيل أن يكون في مصلحة المستبدين، الذين يؤسسون أمجادهم على امتهان الجماهير والعبث بمصالحها، وإذا لم يُسمع صوت الدين في معركة الحرية فمتى يُسمع؟ وإذا لم ينطلق سهمه إلى صدور الطغاة فلمن أعده إذن؟!35
هناك من المصلحين من يستهين بالإصلاح الدستوري، كيف ترد عليهم؟
من الغريب أن بعض المشتغلين بالثقافة الدينية ينظر إلى قضية الدستور والحرية نظرة ثانوية. ويبني فقهه الديني في الحكم ووسائله على نظرات قاصرة شاردة من مخلفات التفكير المملوكي البالي. وهؤلاء المتدينون لا يُؤَمًّنون على حاضر الإسلام ولا على مستقبله. ومصيبة المسلمين فيهم جسيمة.36
وبالنسبة للعلماء والدعاة والمجددين؟
من أجل ذلك كان المجددون الإسلاميون ينشدون بحرارة إصلاح أداة الحكم. ويُرسلون صرخاتهم داوية بمحاربة الاستبداد، ورفض الأوضاع التي استمرأها، والتي أعانت على بقائه.
وكانت المطالبة بدستور يحد من طغيان الحكم الفردي، ويمنح الشعوب قدرة على معالجة قضاياها، في جو من الشورى الهادئة المتريثة، من أول ما فكر فيه أولئك المجددون.37
هل من كلمة أخيرة؟
إن الأمر واضح.. أشيعوا الحرية والعدالة والفضيلة، أقيموا فرائض الإسلام على أنقاض الوثنية السياسية والاجتماعية، تظفروا بوضع متناسق فى الداخل وكرامة موفورة في الخارج. وإلا.. فلا إسلام.. ولا سلام.38
هوامش
- يوسف القرضاوي، وأخيرا هوى النجم، https://iumsonline.org/fa/ContentDetails.aspx?ID=9601 ↩︎
- الإسلام والاستبداد السياسي، ص9. ↩︎
- المصدر السابق، ص19. ↩︎
- المصدر السابق، ص15. ↩︎
- المصدر السابق، ص20. ↩︎
- المصدر السابق، ص35. ↩︎
- المصدر السابق، ص69. ↩︎
- المصدر السابق، ص72. ↩︎
- المصدر السابق، ص77. ↩︎
- المصدر السابق، ص39. ↩︎
- المصدر السابق، ص39. ↩︎
- المصدر السابق، ص82. ↩︎
- المصدر السابق، ص42. ↩︎
- المصدر السابق ص46. ↩︎
- محمد الغزالي، دار نهضة مصر، 2005م، الفساد السياسي في المجتمعات العربية والإسلامية، ص61. ↩︎
- طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد، ص67. ↩︎
- الإسلام والاستبداد السياسي، ص47. ↩︎
- المصدر السابق، ص49. ↩︎
- المصدر السابق، ص48. ↩︎
- المصدر السابق، ص133. ↩︎
- المصدر السابق، ص137. ↩︎
- محمد الغزالي، معركة المصحف في العالم الإسلامي، ص 170. ↩︎
- الإسلام والاستبداد السياسي، ص 191. ↩︎
- نفسه. ↩︎
- محمد الغزالي، الفساد السياسي في المجتمعات العربية والإسلامية، ص 53. ↩︎
- محمد الغزالي، المحاور الخمسة في القرآن، دار القلم دمشق، الطبعة الرابعة 2005م، ص 127. ↩︎
- محمد الغزالي، الإسلام والطاقات المعطلة، ص43. ↩︎
- طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد، ص 67. ↩︎
- محمد الغزالي، علل وأدوية، ص 213. ↩︎
- محمد الغزالي، الإسلام والطاقات المعطلة، دار نهضة مصر، 2002، ص 39. ↩︎
- محمد الغزالي، علل وأدوية، ص 216. ↩︎
- الإسلام والاستبداد السياسي، ص 139. ↩︎
- المصدر السابق، ص147. ↩︎
- المصدر السابق، ص148. ↩︎
- نفسه. ↩︎
- معركة المصحف في العالم الإسلامي ، ص 182-148. ↩︎
- المصدر السابق، ص82. ↩︎
- طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد، ص31. ↩︎