صبرا وشاتيلا: بقروا بطن جارتنا وأطلقوا الرصاص على شقيقتي مجددًا
صارت كلمة «الإرهاب» تلوكها الألسن وتصوغها الأفكار، وبرع الجلادون في توظيفها أحسن التوظيف، بل وحصروها في منطقة الشرق الإسلامي، وبالإسلاميين تحديدًا، وعملت روافد إعلامهم الجبارة على إيهامنا أننا إرهابيون، وأنهم هم الأبرياء وأصحاب مواثيق حقوق الإنسان والأمم المتحدة ومحكمة العدل الدولية. وعملوا أيضا على التلاعب بذاكرة الأمة المسلمة، وطمس تاريخهم الدموي. حتى باتت مجازر الغرب نسيًا منسيًا.
فإذا جاء ذكرها مروا عليها مرور الكرام، لكن الخطير أننا أيضًا جهلنا هذا التاريخ الدموي، مما يتحتم علينا رصده وتدوينه وتذكير الأجيال به دومًا، لكيلا تهتز ثقتنا بأنفسنا، ونعلم علم اليقين من هو الإرهابي الحقيقي، وحتى لو وجد فينا بعض الإرهاب فإنما هو ردٌ على تاريخهم الأليم وتصرفاتهم الوحشية.
نهاد علي: بقروا بطن جارتنا
نهاد أخت ماهر كانت في الخامسة عشرة من عمرها في ذلك الوقت. الآن هي متزوجة ولديها ستة أطفال، قالت إنها كانت تحمل أختها الصغيرة على يدها عندما بدأ المسلحون بإطلاق النار “لا أعرف كيف سقطت من يدي، أصيبت بطلقة في رأسها وأنا أيضا وقعت على الأرض. أخذت أختي تحبو وتفرفر باتجاه أمي وهي تصرخ ماما. ماما. أطلقوا الرصاص على رأسها فسكتت على الفور.
جارتنا ليلى كانت حاملًا. عندما أصيبت بدأ الماء يتدفق من بطنها، وماتت. تظاهرت بالموت، وبعد خروجهم بقليل-لا أدري بكم من الوقت-بدأت أتفقد الجميع. فهمست لي أمي: ارتمي وتظاهري بالموت قد يعودون. أجبتها لا آبه، فليعودوا!
عندها خرج ماهر وإسماعيل فيما بعد. كنت أظنهما ميتين. ما أن رأيت ماهر ارتميت على الأرض، فقال: لا تخافي أنا ماهر. عندها اطمأننت أنا ووالدتي، وقمنا لحمل أختي سعاد ومساعدتها على النهوض فلم نستطع. لقد كانت مشلولة. طلبت من ماهر وإسماعيل أن يهربا إلى خارج المخيم وأن يركضا بأقصى سرعة حتى لو أضعنا بعضنا. لم يكن معنا مال، إذ اخذوا كل مالنا.
كان لدينا عشرون آلف ليرة خبأناها في “كيس حفاضات” أختي الصغيرة، رغم أنى تظاهرت أنه مجرد كيس حفاضات! كان المسلحون يتكلمون بالعربية، لكن البعض منهم لم يتكلم على الإطلاق، كانوا شقرًا، وعينوهم زرقاء، عندما هربنا، أضعنا ماهر وإسماعيل وبقيت مع أمي على أمل أن نذهب إلى مستشفى غزة لإحضار إسعاف إلى سعاد. أخذنا نتنقل من بيت إلى آخر ونحن ننزف.
كثيرون لم يصدقوا في البداية أن مجزرة تحدث في المخيم، إلا عندما رأونا مصابين والدم يغطينا. وصلنا إلى مستشفى غزة فوجدنا أخوي الكبيرين أحمد ومحمد هناك أمام المستشفى. كانت الناس تتجمع عند مدخل المستشفى. كانوا يصرخون والرعب يسيطر عليهم. كان الصراخ رهيبًا، كأنه يوم القيامة، تركنا المستشفى بعد أن نزعوا منا الرصاص وهربنا إلى منطقة رمل الظريف.
أمي تعبت كثيرًا من انتفاخ صدرها بالحليب، فأختي الصغيرة كانت ما تزال ترضع قبل أن تقتل، ومع موتها بدأت أمي تعيش حالة الفطام! كان فطاما نفسيا وجسديًا لم تستطع تحمله فمرضت كثيرا”.
سألتها عن أختها سعاد التي بقيت في البيت، قالت نهاد إنهم عادوا إلى البيت وضربوها “بجالون المياه” أطلقوا عليها النار مجددًا!
«بعد الحادثة، لم نعد نتكلم مع بعضنا عما جرى. كنا نخاف على بعضنا من الكلام. لذا، لم أسأل سعاد شيئًا.»
“عندما أذهب أحيانا لأنام عند والدتي، اذهب إلى بيتها في الروشة الذي تسكنه كمُهجَّرة منذ المجزرة. لا أحب أن أنام في بيتها في المخيم، حيث جرت المجزرة لأني عندما أذهب إلى هناك لا أنام أبدًا. قليلًا ما تأتي أمي إلى بيت المخيم. بل هي لا تهدأ في مكان منذ حادثة المجزرة، وتتنقل باستمرار بين بيوت الأقارب والأصدقاء. لم نعد كما كنا أبدًا. تصوري أننا عدنا وفقدنا أخي إسماعيل في حرب إقليم التفاح”.
أم غازي: الجرح ما زال ينزف
“ستة عشر عاما مضت على المجزرة. كأنها البارحة”!
قالت أم غازي التي فقدت أحد عشر شخصًا من أفراد عائلتها. تقول لأحد الصحافيات:
«لا تقلقي يا ابنتي أنت لا تذكرينني بشيء. فأنا لم أنس كي أتذكر، والجرح ما زال ينزف. عندما جاء المجرمون إلى بيتي كنا نقيم ذكرى أربعين ابنتي. كانت قد توفيت في المبنى الذي قصفه الإسرائيليون في منطقة الصنائع، وكان مقرًا لأبي عمار.
جاء أفراد عائلتنا من صور للمشاركة في ذكرى أربعين ابنتي، وكانوا جميعًا هنا نساءً ورجالًا. لم نكن نسكن في هذا البيت بل في الحي الغربي المتاخم لشارع المخيم الرئيسي-كان يوم جمعة. قتل يومها إخوتي وأولادي وزوجي وصهرتي».
عندما دخلوا علينا كانوا اثني عشر مسلحًا، يحملون البنادق والبلطات والسكاكين، لم نكن نعرف بالمجزرة بعدُ. كان الباب مفتوحًا والبيت مزدحمًا بالنساء والأطفال والرجال.
فصلوا الرجال عن النساء والأطفال. كانوا سيأخذون ابني محمود وكان يومها في الثامنة من عمره. قلت لهم “هذه بنت” فتركوه.
اقتاد أربعة منهم النساء والأطفال باتجاه المدينة الرياضية، وبقي الرجال في البيت تحت رحمة الآخرين. أخرجونا من المنزل حفاة. مشينا على الزجاج المحطم والشظايا. في الطريق تعثر ابني بالجثث المذبوحة والمرمية هنا وهناك، وكان يحمل أخته الصغيرة. صرخت قائلة “باسم الله عليك”، فانتبه المسلح وقلت له وهو ينتزعه من بين يدي: “دخيلك. لم يبق لي غيره”. طلبت منه أن يقتلني بدلا منه. أتوسل وأتوسل لكنه يصر على قتله.
قال إنه يريدني أن أعيش بالحسرة والحزن طيلة عمري.
وبينما أنا أتوسله وارتمي على بندقيته وأديرها عن ابني، وضع يده خطأ على صدري. كنت اخبأ في “عبي” اثني عشر ألف ليرة فانتبه وسألني ماذا اخبأ. قلت “إذا أعطيتك إياهم تعطيني ابني، فقال نعم. طلبت منه أن يقسم بشرفه، ففعل. أعطيته المال وأخذت ابني الذي كان يرتجف من الخوف. منذ ذلك اليوم ظهرت خصلة بيضاء في شعره.
وصلنا إلى المدينة الرياضية فوجدنا الإسرائيليين هناك. أخبرناهم بما يحدث وطلبنا منهم أن يساعدونا ويذهبوا لإنقاذ أولادنا ورجالنا، قالوا: لا دخل لنا. هؤلاء لبنانيون منكم وفيكم. وحبسونا في المدينة الرياضية طيلة النهار. كانوا يتكلمون العربية. عند المغرب، أخرجونا قائلين: إياكم أن تعودوا إلى المخيم. اذهبوا إلى مكان أخر.
ذهبنا إلى الجامعة العربية سيرًا على الأقدام. وجدنا اثنين سوريين، ظننا في البداية أنهما إسرائيليان فقد كان شعرهما أشقر وعيناهما زرقاوين. أخبرناهما بما حصل لنا، وقلنا لهما أننا نبحث عن مكان نبيت فيه. فتحوا لنا الجامعة، وأعطانا أحدهما بعضا من ثيابه مزقناها ولففنا الصغار بها، إذ لم يكونوا يلبسون ثيابا كافية عندما خرجنا، لم يكن لدينا قرش واحد. لا ندري إلى أين نذهب، ولا نعرف شيئا عن رجالنا وأولادنا. في أربعين ابنتي فقدت زوجي وأربعة أولاد وستة من أفراد عائلتي”.
أم غازي لم تسكن في بيتها مجددًا، إذ لم تحتمل ذلك، عندما عادت إلى المخيم استأجرت منزلًا آخر. تهدم بيتها القديم في حرب المخيمات، وتعيش الآن في ظروف مادية سيئة للغاية، كانت تتكلم على مهل وترتجف طيلة الوقت. تعيش منعزلة عن محيطها في ألم لا ينتهي.