«فورين بوليسي»: على الغرب مواجهة مصيره بدون الولايات المتّحدة

يقع مستقبل الغرب بين أيادي أوروبا. فعوضًا عن قيام الرئيس دونالد ترامب بالتأكيد على إيمانه بالقيم والمؤسسات الغربية في زيارته الأخيرة إلى أوروبا، قام بالعكس، حيث قطّع أوصال أمريكا بأقرب حلفائها الديموقراطيين. كان أداؤه صادمًا إلى درجةٍ دفعت المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل إلى التحدث حول الموضوع، وهي المعروفة ببعدها عن المبالغات، حيث قالت أنّ أوروبا تقف لوحدها. ولإضفاء النار على الزيت، بعد قليلٍ من زيارته إلى واشنطن، أعلن ترامب أنّ الولايات المتّحدة ستنسحب من اتفاقية باريس للتغيّر المناخي، جاعلًا أمريكا تقف لوحدها ضدّ بقية العالم.

إلى حين هذه الأحداث، تملّك الأمل عدّة مراقبين أنّ سلوك ترامب الرافض للشراكة-والشراكة الغربية تحديدًا-كان مجرّد مرحلة انتقالية; مجموعٌ من نصائح سيئّة قدّمها له مستشارون متطرّفون في البيت الأبيض بالإضافة إلى عدم نضوج الرئيس السياسي والفكري. إلّا أنّ هذا الأمل صار وهمًا. أعلنها ترامب صريحةً ومدوية أنّ “أمريكا أولًا” تعني في الواقع “أمريكا فقط”، وأنّه ينوي الانفصال عن مجتمع الديموقراطيات الغربية المُتشكّل عقب الحرب العالمية الثانية. خطاب ترامب الحامض صار الآن واقعًا مُنذرًا.

لا يبدو هناك عالمٌ بدون الغرب في الأفق المقبل، بل عالمٌ بدون الولايات المتّحدة. بعد أن أعلن ترامب أنّه سيبتعد أيضًا عن حلف الأطلسي، كانت ميركل محقّةً “أنّ على الأوروبيين أخذ أقدارهم بأيديهم”. السؤال المطروح الآن هو ما إذا كان الاتحاد الأوروبي الذي يواجه “بريكست” والحرّكات الشعبوية الصاعدة قادرًا على إتمام مهمّة تمثيل العالم الغربي بنفسه.

أوروبا لا تمتلك أيّ خيار سوى التطلّع إلى عصر ما بعد واشنطن، خصوصًا أنّ ترامب قد كشف عن ألوانه الحقيقية. كان قد أكّد مسبقًا أنّه رجل أعمال، وليس رجل دولة. جميع العلاقات هي علاقات انتقالية بالنسبة له، حتّى مع حلفائه الموثوقين. وعلى حدّ وصفه فألمانيا “سيئة جدًا” لأنّها تنفق أقل من 2% من ناتجها المحلّي الإجمالي على الدفاع كما أنّها تحظى بتفوّق تجاري ضخم. هكذا يقول ترامب.

لكنّ العلاقة بين الولايات المتّحدة وحلفائها الأوروبيين أعمق من “من يدفع ماذا”. سحر العالم الغربي هو أنّه ترك ورائه هذه المعادلة الصفرية، كلٌ لعالمه الخاص. فبعد الكثير من الحروب، أيقنت الديموقراطيات الأطلسية أنّ الهروب من شلالات الدماء يعني الاندماج في مجتمعٍ دولي قائمٍ على الثقة، القواعد المشتركة، المؤسسات متعددة الأطراف والتجارة الحرّة. أعضاء هذا المجتمع ضحّوا بالمكاسب قريبة الأمد مقابل وحدة المكاسب طويلة الأمد. كانت النتيجة عصرًا غير مسبوق من التفاهم والإخاء.

ترامب واضحٌ جدًا-إن لم يكن عدائيًا-تجاه هذا التاريخ. إنّه يعامل ألمانيا والديموقراطيات الأخرى كمبانٍ مجاورة. إذا دفعوا الآجار في الوقت المحدد فإنّهم في تفاهم، وإلّا، فانتبهوا.

http://gty.im/157563429

في مواجهة هذا الرئيس الأمريكي، فإنّه من واجب الأوروبيين تأمين القيم والمؤسسات الغربية إلى حين عودة الولايات المتّحدة إلى رشدها. لا ألمانيا ولا الاتحاد الأوروبي بأكمله قادران حاليًا على أن يلعبا هذا الدور. ولكنّ رئاسة ترامب قد تكون صدمةً كافية لدفع الاتحاد إلى المضي قدمًا.

أفضل ما يمكن للاتحاد الأوروبي فعله هو تهيئة نفسه لملئ فراغ القيادة هذا عبر الخطوات التالية.

أولًا، يحتاج الاتحاد الأوروبي إلى بنية متوازنة لصناعة القرار. ألمانيا أصبحت مؤثرةً جدًا لصالحها الخاص جاعلةً شركائها الأوروبيين في استياء. حتّى وإن كانت برلين صوت أوروبا الأكثر تأثيرًا، فإنّ الاتحاد الداخلي يحتاج توسعةً أكبر. عودة فرنسا السياسية تحت إمرة إمانويل ماكرون ستساعد بالطبع، ولكن، خصوصًا في خضم “بريكست” والفوضى السياسية التي تعيشها المملكة المتّحدة، فإنّ ألمانيا تحتاج بناء إجماعٍ في الرأي مع إيطاليا، إسبانيا وعددٍ من الدول الشبيهة. إذا كان الاتحاد الأوروبي سيقود الغرب، فإنّه سيحتاج جميع أعضائه.

ثانيًا، وعلى خلاف خطاب اليمين واليسار الشعبوي ضد الاتحاد الأوروبي، فإنّ الاتحاد يحتاج إلى تعميق إدارته الجماعية بخصوص الأزمات الاقتصادية والسياسة الدفاعية والخارجية. لن يكون الاتحاد قادرًا على أن يقود الغرب بفعالية دون المزيد من المؤسسات المركزية الخبيرة. الصدع الجديد مع الولايات المتّحدة قد يقنع الأوروبيين بأنّ يوسّعوا حوضهم بأنفسهم.

ثالثًا، ومن أجل تعويض انسحاب الولايات المتّحدة من التعددية، يتوجّب على الاتحاد الأوروبي محاولة إيجاد المزيد من الشراكات مع الدول الأخرى، حتّى تلك الغير ديموقراطية منها. لأنّه بشكلٍ واعٍ أو لا، ما يقوم به ترامب هو التنازل عن تأثير الولايات المتّحدة وإجبار أوروبا على البحث في مكانٍ آخر لبناء شراكات مختلفة. وهو ما يوحي بالكثير في السنوات المقبلة، حيث قد يجد الاتحاد الأوروبي الصين شريكًا أفضل من الولايات المتّحدة في مواجهة تغيّر المناخ وتحرير التجارة.

أخيرًا، على الاتحاد الأوروبي أن يبقى أطلسيًا ويعامل الولايات المتّحدة كشريكه المفضّل حتّى لو صارت العلاقات العابرة للأطلسي أكثر تغيرًا. فبعد كلّ شيء فإنّ حلف الأطلسي ازدهر لعقود بسبب الاهتمامات المشتركة بين الاثنين، وليس فقط المبادئ والقيم المشتركة. حتّى لو كان ترامب متحفّزًا للقيام بمحاسبات قصيرة المدى للتكاليف والمنافع لهذه العلاقات، فإنّ العمل مع أوروبا سيكون أكثر من مجرّد صفقة رابحة. في هذا الصدد، على ميركل زيادة الإنفاق الدفاعي لألمانيا وأخذ خطوات لتحفيز الحاجة المحليّة. ليس فقط لأجل إخفات صوت ترامب ولكن أيضًا لخلق المزيد من النمو والوظائف في المنطقة الأوروبية.

على الأوروبيين أن يتذكّروا أيضًا أنّ عهد ترامب-لحسن الحظّ-محدود الوقت. وهو في حالٍ يرثى لها مع التيّارات السياسية في بلاده، مما يجعل رئاسته غالبًا مجرّد شذوذ عن القاعدة، وليس مؤشرًا على أشياء ثابتة ستأتي.

* هذا المقال مترجم عن مقال “The West Will Have to Go It Alone, Without the United States” المنشور على فورين بوليسي.

محمد هاني صباغ

شاب مسلم، مؤسس عدد من المبادرات العربية والعالمية عن البرمجيات الحرّة والمفتوحة. مبرمج ومدوّن. كاتب… المزيد »

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى