الصيننة المريعة للإسلام في الصين.. كيف تضطهد الصين الإيغور؟
هذا المقال ترجمة بتصرف لمقال: The Terrible ‘Sinicization’ of Islam in China لكاتبته: Kelly Hammond على موقع: newlinesmag.com. الآراء الواردة أدناه تعبّر عن كاتب المقال الأصلي ولا تعبّر بالضرورة عن تبيان.
عبر السنوات الثلاثة الماضية، تعرض أكثر من مليون من الإيغور في تركستان الشرقية، لحملة ممنهجة من الاعتقالات والسجن ضمن معسكرات “إعادة التثقيف”، تديرها الحكومة الصينية، في انتهاك هو الأسوء في حقوق الإنسان. وبدأت هذه القضية تنال التغطية التي تليق بها، ضمن وسائل الإعلام الكبرى، كما في هذا التقرير الاستقصائي، والذي حدَّثَتْه صحيفة نيويورك تايمز الشهر الماضي، والذي أظهر صوراً أُخِذت بالأقمار الصناعية، وتظهر توسيع معسكرات الاعتقال على الرغم من مزاعم الصين بأن هذه المعسكرات تقلصت مع عودة الإيغور إلى المجتمع بعد “إعادة تأهيلهم”.
لكن يغيب عن الكثيرين أن الإيغور -وهم أقلية تركستانية مسلمة تعيش في غرب الصين- ليسوا فقط المستهدفين. فالمواطنون المسلمون في جميع أنحاء الصين تتعرض حقوقهم لانتهاكات صارخة، من قبل تعرضهم لإجراءات في غاية التعسف، مثل إجبارهم على أكل لحم الخنزير وشرب الكحول وحلق لحاهم وخلع الحجاب. ويتعرضون للاضطهاد لارتباطهم بصلاتٍ -حقيقية أو مُتوهَّمة- بعلماء المسلمين في الخارج، ويُحرم الكثير منهم من جوازات السفر ومن الحق في السفر، بما في ذلك السفر للحج. كما تحظر سلطات الدولة الأذان وقامت بإزالة المنارات، وحتى تعدى الأمر إلى هدم بعض المساجد بالكامل.
صحيح أن الصين عبر تاريخها شهدت حملاتٍ قمعية استهدفت الأقليات، إلا أن الانتهاكات المنهجية الحالية أكثر شرًا من ذي قبل، بفضل المراقبة المتطورة وتقنيات الذكاء الاصطناعي الصاعدة في التطور. هذا ومضافٌ عليه الدور المتزايد الذي تلعبه الصين في الاقتصاد العالمي والتأثيرات المتسلسلة المستمرة لـ “الحرب العالمية على الإرهاب”، لتصبح تركستان الشرقية من أَمَرِّ وأفسد التجارب، حيث كان الأيغور حقل تجارب فيها. وليس هناك سبب ما يدعو إلى توقع توقف قريب لهذه التجربة، أو أن تنحصر تلك التجربة في جزء واحد فقط من هذه الدولة مترامية الأطراف.
والغاية من كل هذه السياسات القمعية تتمثل في “نزع الإسلام” من المسلمين أو -كما يسميها البعض- “صيننة” الإسلام.
صيننة الإسلام
إن الصيننة أو التصيين عملية تتم عبر تذويب الفئات -سواء كانوا منغوليين أو مسلمين أو تبتيين- في المناخ الثقافي الصيني من خلال ما يُسمى بالتثاقف أو سياسات الاستيعاب أو السياسات الاستعمارية الثقافية المباشرة. ومن الأمثلة على ذلك تحرك الصين الأخير لمنع التعليم الديني باللغة العربية، وإزالة اللافتات العربية عن المطاعم والمتاجر، وإغلاق المكتبات الإسلامية، وغالبًا ما يعتقلون أصحابها.
فمن حيث الأساس، يتم استيعاب المسلمين في الثقافة الصينية الهانية المهيمنة عبر إلغاء الممارسات الإسلامية في الصين. وتنفذ الدولة هذه السياسات عن قصد لتقليل إظهار الممارسات الإسلامية عبر الحياة اليومية. ويخشى المراقبون من أن القيود المتزايدة في ولايتي نينغشيا وقانسو، حيث غالبية السكان هم من عرقية الهوي (المسلمين)، قد تعني أن معسكرات الاعتقال على غرار التي أنشئت في تركستان الشرقية قد تظهر في أجزاء أخرى من الصين، حيثما يشكل المسلمون غالبية السكان.
تشكل عرقية الهان 92% من سكان الصين، والباقي بتعداد 130 مليون صيني يشكلون 56 فئة عرقية متباينة، بحسب إحصاء الحزب الشيوعي الصيني. ومن بين هذه المجموعات العرقية، هناك 10 عرقيات مسلمة، يبلغ تعدادهم حوالي 40 مليون نسمة، أي أقل من 2٪ من سكان البلاد. وفئات الأقليات المسلمة هذه تشمل -بالترتيب التنازلي حسب الحجم- الهوي (الذين يمثلون ما يقرب من نصف مسلمي الصين) يليهم الإيغور، والكازاخيون، والقرغيزيون، والسالار، والطاجيك، والأوزبك، والبونان، والتتار، وهذه الفئة الأخيرة يبلغ تعدادها حاليًا حوالي 5000.
أدت سياسات الصين القمعية إلى مقاومة المجتمعات المحلية، والتي استاءت من اليد الطولى للحكومة في التدخل في شؤونهم الدينية الخاصة. ونجحت سلسلة احتجاجات واحدة على الأقل، ضد مشروع الحكومة الذي كان يرمي لهدم مسجد ويتشو الكبير. وإن كان هذا الأمر حدث نادر في تنازل الدولة من جانبها، فمن المرجح ألا يتكرر.
تاريخ الإسلام في الصين
دخل الإسلام إلى الصين عبر الوفود التي قدمت من الشرق الأوسط، والتي التقت بالإمبراطور قاوزونغ من أسرة تانغ في القرن السابع الميلادي. وبعد هذه الزيارة على الفور، بُني أول مسجد في ميناء جوانجزو التجاري الجنوبي للعرب والفرس الذين كانوا يسافرون حول المحيط الهندي وبحر الصين الجنوبي للعمل بالتجارة. وطيلة هذا الوقت، استقر التجار المسلمون في الموانئ الصينية وفي المراكز التجارية على طول ما يسمى اليوم طرق الحرير. وفي تلك الأثناء، عاش المسلمون منفصلين عن سكان الصين الهان لما يقرب من خمسة قرون.
حدثت طفرة في حجم الحضور الإسلامي داخل الصين، إبان فترة حكم سلالة يوان المغولية في القرن 13، وذلك للعمل كإداريين تحت سلطة الحكام الجدد أحفاد جنكيز خان مؤسس إمبراطورية المغول.
فقد عانى المغول من قلة الخبرة في الدواوين (العمل البيروقراطي) خاصة لدولة ضخمة بحجم الصين، فالتجؤوا إلى المهرة من الإداريين في المدن الكبرى على طريق الحرير، مثل بخارى وسمرقند في آسيا الوسطى. ووظفوا بل حتى أعادوا توطين مئات آلاف من الآسيويين والفرس قسرًا إلى البلاط اليواني للمساعدة في حكم الإمبراطورية المتسعة.
وفي ذلك الزمان، كان الأغنياء من هؤلاء الموظفين يجلبون معهم زوجاتهم، أما صغار الموظفين فكانوا يتزوجون من الصينيات اللاتي اعتنقن الإسلام.
على مدى 300 عام أو نحوا من ذلك طوال عهد أسرة مينغ، استمر المسلمون في التأثير على سياسات الحكام. وأحدهم هو “تشنغ خه” (ويعرف عند العرب باسم حجي محمود شمس الدين)، الأدميرال الذي قاد الأساطيل الصينية في الرحلات الاستكشافية والدبلوماسية عبر جنوب شرق آسيا والمحيط الهندي، وهو خصيٌ مسلمٌ. وساعده علمه باللغة العربية -اللغة المشتركة للمحيط الهندي- واتصافه بمحاسن الأخلاق ومعرفته بالثقافة الإسلامية على أن يصبح خيارًا مثاليًا لقيادة هذه الحملات الضخمة.
طوال هذا الوقت، تكيفت الممارسات الإسلامية والمسلمون مع الصين. وكان العديد من المسلمين يقدرون على قراءة اللغة العربية أو الفارسية أو كليهما، على الرغم من أنهم لا يستطيعون التحدث بهما. كما كتبوا بإسهاب عن الإسلام باللغة الصينية. وكانت هذه الجهود يراد منها جزئياً جعل الإسلام مفهومًا للأغلبية من غير المسلمين الذين يعيشون حولهم. ومع ذلك، فإن مجموعة الكتابات التي طورها المفكرون المسلمون الصينيون -والمعروفة باسم هان كتاب (هان تعني “سلالة هان” الصينية، والكتاب بمعنى “كتاب” باللغة العربية)- تعاملت مع قضايا خاصة بالمسلمين الذين يعيشون في ضمن المجال الثقافي الصيني، مثل كيفية التوفيق بين الكونفوشيوسية والإسلام.
بداية الصراع
في القرن الثامن عشر، بدأت العلاقة بين المسلمين والحكومة الصينية تنحو منحى مختلفاً. كانت أسرة مانشو تشينغ، التي استمرت في الحكم من 1644 إلى 1911، آخر سلالة ملكية تحكم الصين، ولم يكونوا من الصينيين الهان. وكان لدى المانشو تطلعات توسعية كبيرة لاحتلال الأراضي النائية، مثل التبت، وأجزاء من منغوليا، وما يسمى الآن منطقة شينجيانغ الإيغورية ذاتية الحكم، وجعلها تحت الحكم المباشر لسلطتهم الإمبراطورية.
أدى هذا التوسع الإقليمي إلى صدامات مع السكان المسلمين، وعبر القرن التاسع عشر حدثت عدد من الثورات التي يقودها المسلمون ضد حكم تشينغ، واندلعت لمواجهة تزايد السيطرة المباشرة من بكين على المناطق التي حكم فيها أمراء مسلمون باستقلال نسبي. لكن بكين قمعت هذه الثورات بالعنف، وبذلك أنهت فترة طويلة من انسجام المسلمين مع الصين.
بحلول أواخر القرن التاسع عشر، كانت بكين ترسل الموظفين البيروقراطيين الصينيين من عرقية الهان لحكم غرب الصين. وعام 1884 أصبحت شينجيانغ -التي تُترجم حرفيًا بـ”الأراضي الجديدة”- رسميًا مقاطعة تابعة لإمبراطورية تشينغ.
عبر السنوات المضطربة التي أعقبت سقوط آخر سلالة حاكمة، تمكن المسلمون مرة أخرى من العيش باستقلالية نسبية عن بكين. وتعاملوا مع مختلف القوى، مثل اليابانيين أو السوفييت، لمساعدتهم على دعم خططهم التي سُمِّيت بالتجديدية (أو الإصلاحية).
وشاركت هذه المجتمعات أيضًا بنشاط في التداول العالمي للأفكار حول ما يعنيه الجمع بين الإسلام والحداثة، وحاولوا تطبيق تغييرات داخل مجتمعاتهم الخاصة. ولكن مع انقسام الإمبراطورية، دخلت الصين في حربين ممتدة -أهلية وتحريرية- طوال النصف الأول من القرن العشرين، حتى أعاد الحزب الشيوعي الصيني وحدة معظم أراضي إمبراطورية تشينغ البائدة.
جمهورية الصين الشعبية
وبعد تأسيس جمهورية الصين الشعبية في عام 1949، قسم علماء الإثنوغرافيا والأنثروبولوجيا الناس الذين يعيشون داخل حدود الدولة الجديدة إلى 56 مجموعة عرقية بناءً على معايير ملتبسة نسبيًا مثل اللغة والمناطقية والتاريخ والتقاليد المشتركة.
في السنين الأولى من تأسيس جمهورية الصين الشعبية، تمتع المسلمون نسبيًا مرة أخرى بالحريات الدينية في الوقت الذي كانت فيه الدولة الجديدة تولي اهتمامها لتنشغل بأولويات أخرى. لكن وخلال أكثر السنوات معمعة فيما سمي بالثورة الثقافية بين عامي 1966 و1969، فغيرت الثورة معالم المساجد مرة أخرى، وحرّقت المصاحف والكتب الدينية، ومنعت المسلمون من أداء فريضة الحج. وحظر الحرس الأحمر الشيوعي الثوري حرية التعبير عن الدين، إلا أنه بعد وفاة الرئيس ماو تسي تونغ في عام 1976، تبنى الشيوعيون سياسات أكثر مرونة تجاه المسلمين.
يذكر الكثير من المسلمين العُجَّز ممن يعيشون اليوم أيام الثورة الثقافية العجاف، حتى أن منهم من يروي تلك الفترة الهوجاء على أنها مطابقة لما يحدث اليوم في الصين. عادةً ما يعيد التاريخ نفسه، لكن المختلف اليوم في الصين فيما يخص الأقلية المسلمة، هو زيادة انتظام وفعالية وفظاعة ما يجري في الواقع بحقهم، مقارنة بمجريات الماضي.
مع بداية الحرب على الإرهاب التي قادتها الولايات المتحدة في أعقاب هجمات 11 سبتمبر، اقتنصت الحكومة الصينية الفرصة لتصنيف الإيغور في تركستان الشرقية على أنهم “إرهابيون” و “متطرفون”. وقدمت الإسلام على أنه تهديد للدولة وللاستقرار في جميع أنحاء المنطقة، مما أعطى المسؤولين تبريرًا لقمع المجتمعات الإسلامية. وقد نجحت هذه الحملات التي تقودها الدولة، وانتشر الإسلاموفوبيا بين الأغلبية الصينية الهانية.
وفي تلك الأثناء، كانت عرقية الهوي (المسلمة) توصف بأنها أقليةٌ نموذجية. فهم يتحدثون الصينية، ويُنظر إليهم على أنهم مقدرات قيمة للمساعدة في تيسير العلاقات الدبلوماسية بين الدولة الصينية والدول الإسلامية في جميع أنحاء العالم، كل ذلك بينما كان الإيغور يُزجّ بهم في معسكرات الاعتقال. لكن عام 2019، لاحت ونالت نار الإسلاموفوبيا الحكومية أخيراً من عرقية الهوي. وبدأ المراقبون يلاحظون الحملات القمعية ضد الإسلام والممارسات الإسلامية في المجتمعات ذات الأغلبية من الهوي في مقاطعتي قانسو ونينغشيا الصينيتين، بطرق أكثر ديمومة وأشد مما جرى من تجريم الإسلام أثناء الثورة الثقافية.
وقد اتصفت هذه السياسات بالانتظام والمركزية، وتعتمد على المراقبة الحكومية المكثفة التي طورها قطاع التقنية عالية التطور في الصين ويشرف عليها جهاز الأمن في بكين. وفي كانون الأول من 2020، كشف تقرير نشرته صحيفة واشنطن بوست بالتفصيل الطرق التي كانت شركة هواوي عملاق التقنية الصينية تختبر من خلالها برامج التعرف على الوجوه التي يمكن أن ترسل “إنذارات الإيغور” الآلية إلى السلطات الحكومية عندما تحدد كاميراتها شخصًا ما على أنه ينتمي إلى هذه الأقلية المضطهدة.
وأظهر تقرير آخر، رصده لأول مرة منشور شركة المراقبة IPVM، كيف قامت عملاق التقنية علي بابا -الذي وصف لفترة طويلة باسم “أمازون الصين”- بإظهار كيفية استخدام برامجه للكشف عن وجوه الإيغور والأقليات العرقية الأخرى داخل الصور ومقاطع الفيديو لعملائها.
وكشف تقرير نشرته صحيفة نيويورك تايمز الصيف الماضي عن كيفية قيام قراصنة صينيين ببناء برامج ضارة للتجسس على الإيغور عبر الهواتف الذكية منذ عام 2013، مما يشير إلى أن الحملة كانت الحجر الأساس الأول في شبكة مراقبة الإيغور الواسعة في الصين والتي تمتد إلى جمع الحمض النووي والبصمات الصوتية ومسح الوجوه ومراقبة الإيغور المنفيين فيما يصل إلى 15 دولة.
هذه السياسات، غير المسبوقة في مجال التقنية الفائقة، يتم توسيعها لتشمل فئات الأقليات الأخرى، بما في ذلك التبتيين والمنغوليين. وإذا كان الهدف النهائي هو الإدماج الكامل لجميع الأقليات -سواء أكانت مسلمة أم لا– وإذابتهم في ثقافة الهان الصينية المهيمنة، فيبدو أن الخطة ناجحة؛ على الأقل في الوقت الحالي.
إن أكثر ما سهل للصين القيام بهذه الممارسات القمعية -أو على الأقل- تغاضي المجتمع الدولي عنها، هي اقتصادها الصاعد. فقد اشترت الصين من الأساس صمت العديد من الدول الإسلامية، مثل باكستان وإندونيسيا، واللاتي كان من الممكن أن تعترض على سلوك الصين تجاه إخوانهم المسلمين، وتم هذا الشراء عبر مبادرة الطريق والحزام، وهي الخطة بعيدة المدى لبناء تجارة عبر قطاعَيْ البنى التحتية والطاقة، من خلال الاستثمار في القروض الممنوحة للدول النامية عبر أوراسيا والمحيط الهندي.
في الواقع، فقد أصبحت ماكينة الاقتصاد العالمي متعشقةً للغاية مع معسكرات السخرة في تركستان الشرقية، لدرجة أن الولايات المتحدة خططت مؤخرًا لحظر استيراد القطن والطماطم من الصين نظرا للاحتمالية الكبيرة بأن هذه السلع كان يزرعها عمال مسلمون تحت السخرة.
بالنسبة للعديد من الإيغور، تأتي هذه الخطوة بعد فوات الأوان. وليس هناك من سبب وجيه للاعتقاد بأنه ستتم محاسبة الصين. ونظرًا لأن العالم لا يزال متجاهلا لهذه الانتهاكات، فإن الرئيس الصيني شي جين بينغ ونظامه سيزدادان جرأة لتوسيع هذه الحملات لتشمل الأقليات التي هي أيضًا من مواطني الصين.