حكاية عدنان مندريس: بين الحقيقة وأوهام الفضاء الإعلامي!
في صبيحة السابع عشر من سبتمبر عام 1961، نُفذ حكم الإعدام بالشنق في عدنان مندريس، رئيس وزراء تركيا الذي خُلع عقب انقلاب عسكري، وهو الحدث الذي مثل فصلًا دمويًا ومأسويًا في تاريخ تركيا المعاصرة، وأثر في تطورها الاجتماعي والسياسي بالسلب على نحو يسري حتى اليوم.
إن العبرة من الأحداث التي انتهت بشنق عدنان مندريس، ليست فقط المعرفة التاريخية اللازمة لتكوين عقل سياسي يتعامل مع العالم المعاصر، ولكنها كذلك في فهم طبيعة وآليات الصراع بين تيار الاستكبار وتيار الاستضعاف داخل المجتمعات، وهو الصراع الذي لا يزال إلى اليوم يشكل التطور في معظم المجتمعات الإسلامية، وهذا كله يصب في مصلحة تكوين وعي إسلامي بالذات.
لماذا مندريس؟
إلى عهد قريب، كانت شخصية عدنان مندريس والأحداث التي أسهم فيها، تكاد تكون مجهولة لدى معظم المثقفين المسلمين خارج تركيا، فالرجل ينتمي إلى هذا العصر الذي فُرضَ فيه على تركيا عزلة عن محيطها الإسلامي. ولكن الأحداث التي تلاحقت على العالم الإسلامي كله عقب الربيع العربي، دفعت قصة الرجل إلى السطح.
وعلى الرغم أن الفضل الأول في تعريف جمهور المسلمين بمندريس ومأساته، يعود إلى الفضاء الإعلامي المفتوح والوسائط الاجتماعية، إلا أن الحدث التاريخي الذي تتضمن شنق مندريس، تعرض للتشويه بفعل هذا الفضاء الإعلامي والوسائط الاجتماعية، ولأسباب تختلف ما بين تأثير الأيديولوجيا، وبين نزعة المبالغة لدى الجمهور، وبين رغبة البعض في إسقاط الحوادث الجارية على الوقائع التاريخية.
ومهما كانت الأسباب، فإنها تثير ضباب غبي يخفي الحقيقة، ويجعل من وعي المسلم أسير للأوهام والمبالغات. ومن أمثلة هذا التدليس، ما قرأته ذات يوم على حساب أحدهم على موقع فيسبوك، من أن مندريس قد قال: أريد أن أكون في الأتراك كعمر بن عبد العزيز في بني أمية. ولست أدري من أي مصدر غير خياله المراهق أتي بهذه الحكاية. وهذه الحكاية وأمثالها، يتم تداولها على الوسائط الاجتماعية بالذات، صانعة مندريس وهمي غير التاريخي في خيالات الشباب المسلم، يجر هذا الشباب إلى نظرة رومانسية للتاريخ، تمنعه من النفاذ إلى ما وراء الأحداث، لاكتشاف أن مأساة مندريس هي تلخيص لمآسٍ كثيرة شهدها ويشهدها المسلمون بسبب الاستكبار والاستبداد.
البدايات
ولد عدنان مندريس عام 1899، في مقاطعة آيدن في الأناضول، لأسرة إقطاعية تنحدر من تتار القرم. بعدما تلقى تعليمه الابتدائي، انتقل إلى مدينة أزمير، وألتحق بالكلية الأمريكية. وعقب الحرب العالمية الأولى، انضم للقتال ضد الغزاة اليونانيين فيما عرف باسم حرب الاستقلال التركية. عقب انتهاء الحرب عاد للدراسة، والتحق بكلية الحقوق في جامعة أنقرة.
كان مندريس خطيبًا مفوهًا، وصاحب قلم قوي ومؤثر، ولذلك شرع في العمل السياسي في أثناء وجوده في الجامعة، وما إن انتهى من الجامعة، حتى ترأس فرع الحزب الجمهوري الحر في مقاطعة آيدن عام 1930، ولكن الحزب حل نفسه لاحقًا في نفس هذا العام. وفي العام التالي تلقى دعوة من كمال أتاتورك نفسه للانضمام إلى حزبه الحاكم، حزب الشعب الجمهوري، ثم اختير رئيسًا لفرع الحزب في آيدن. في العام 1945، غادر مندريس الحزب مع جماعة من أنصاره، بسبب معارضتهم لسياسات التأميم التي كان يعتنقها ويمارسها رئيس الحزب عصمت اينونو.
في ميدان السياسة
وعد أتاتورك الأتراك بديموقراطية علمانية على الطراز الفرنسي، ولكن ما قدمه لهم كان نظامًا استبداديًا علمانيًا يستند إلى هيمنة الزعيم الصنم على المجتمع التركي من خلال حكم حزبه المنفرد، حزب الشعب الجمهوري. وبوفاة أتاتورك، حل محلته خليفته عصمت اينونو، والذي فاق معلمه استبدادًا، فلاحق إنشاء أي حزب بالحظر أو باضطهاد أنصار الحزب حتى يحل حزبهم بأنفسهم. وفي نهاية الثلاثينات وأربعينات القرن العشرين، نظر كثير من المراقبين والمحللين إلى نظام اينونو وحزب الشعب الجمهوري نظرتهم إلى النظم الفاشية الأوروبية في ألمانيا وإيطاليا وإسبانيا.
مع اقتراب نهاية الأربعينات، زادت حدة المشكلات السياسية والاقتصادية، وهو ما دعا اينونو إلى تخفيف قبضته الحديدية عن المجتمع التركي، فسارع مندريس ورئيس الوزراء السابق جلال بايار بإنشاء الحزب الديموقراطي عام 1946، ليخوضوا أول انتخابات حرة في تركيا عام 1950، وهي الانتخابات التي حاز فيها الحزب الديموقراطي المركز الأول بنسبة 52%، ليصبح الحزب الحاكم، ولينتقل اينونو وحزبه إلى مقاعد المعارضة، وكان أول وعود الحزب الديموقراطي في هذه الانتخابات، هو إطلاق حرية ممارسة الشعائر الإسلامية وإعادة افتتاح المدارس الإسلامية والسماح بالآذان باللغة العربية، وهي الوعود التي نفذها الحزب بمجرد تسلمه السلطة.
الصراع
كان العسكريون لا يستسيغون مندريس ولا حزبه ولا سياسته. فهم لا يتقبلون وجود شخص مدني على رأس الحكومة التركية، وقد ألفو أن يقود هذه الحكومة شخصًا عسكريًا، سواء كان هذا الشخص أتاتورك أو خليفته اينونو، بينما كان فوز الحزب الديموقراطي في الانتخابات يعني استمرار جلال بايار رئيسًا، ومندريس رئيسًا لوزرائه، وكلاهما مدنيان. كما كان العسكريون هم أكثر المنتفعين من سياسة التأميم التي طبقها أينونو، فأكثرهم أنتقل إلى إدارة المؤسسات الصناعية والتجارية المؤممة بمرتبات تبلغ أضعاف مرتباتهم في الجيش، كما أمنوا لأبنائهم وأفراد أسرهم وظائف في هذه المؤسسات، حتى تحول أغلبها إلى إقطاعيات لمديريها.
أما ملاك الأراضي الكبيرة في الأناضول ورجال الأعمال في إسطنبول وأنقرة وبورصة، وكان هؤلاء يشكلون السواد الأعظم من أعضاء حزب الشعب الجمهوري، فقد حنقوا على مندريس بسبب سياسات الإصلاح الزراعي التي تبناها، وسياسات التوسع في الصناعة، والتي أفقدتهم مكانتهم في المجتمع لصالح صغار الملاك والصناعيين الجدد، كما أفقدتهم جانبًا كبيرًا من مكاسبهم الذي يعتمد على احتكارهم الأسواق التركية.
أما أبناء أتاتورك العلمانيين، فقد أزعجتهم إجراءات مندريس للمصالحة مع الإسلام، فمندريس كان يصرح دائمًا أنه علماني ليبرالي، ولكنه كان يرى أن عداء علمانية أتاتورك للإسلام، أوجد صراعًا اجتماعيًا استهلك موارد البلاد، وحرم الأتراك من تاريخهم وإرثهم، ومن ثم مضي في إجراء مصالحة مع الإسلام، من خلال السماح بالآذان باللغة العربية، والسماح بفتح المدارس الدينية، وطبع وتوزيع الكتب الإسلامية، وهو ما اعتبره العلمانيون انقلابًا صريحًا على الأتاتوركية.
شكلت هذه المجموعات الثلاثة جبهة المعارضة الرئيسة لمندريس وحزبه الديموقراطي، وجمعوا قوتهم جميعًا وراء حزب الشعب الجمهوري، ولكن مندريس وحزبه الديموقراطي فاز في ثاني انتخابات ديموقراطية سنة 1954، وهو ما أعتبره المعارضون بمثابة إعلان الحرب، فراحوا يروجون عبر الصحف ومحطات الراديو التي يمتلكها رجال أعمال ويديرها مثقفون علمانيون إلى أن مندريس قام بتزوير الانتخابات، على الرغم من شهادة المراقبين المحليين والدوليين بنزاهة الانتخابات، ثم راحوا يروجون إلى أن مندريس وحزبه يحاولون إعادة الأسرة العثمانية للحكم، وفي نفس الوقت يسعى لعقد حلف مع الاتحاد السوفيتي، العدو الحالي لتركيا، وخليفة روسيا القيصرية العدو التاريخي لتركيا.
وعلى الرغم أن مندريس نجح في إقناع الأمريكيين بأن يضيفوا تركيا إلى المنتفعين من مشروع مارشال، واستخدم أموال المشروع في تطوير البنى التحتية والتوسع الزراعي والصناعي، وتوفير المساكن لهؤلاء المنتقلين من الريف الأناضولي حديثًا إلى المراكز الصناعية في المدن الكبرى، إلا أن التحالف المعارض عمل على إفشال إصلاحاته من خلال سيطرته مع معظم الموظفين في المصالح الحكومية، وهو ما أدى إلى أزمة اقتصادية باقتراب الخمسينات من نهايتها.
ولكن كل هذه المؤامرات لم تفلح في إزاحة مندريس وحزبه، بل فاز في الانتخابات البرلمانية التي عقدت عام 1957، وهو ما دفع القوة المعارضة إلى محاولة تدبير انقلاب، نمت أخباره إلى مندريس، فطرد الضباط المدبرين لهذا الانقلاب، وهو ما عزز غضب الجيش الذي رأي هذا التصرف بمثابة إهانة له.
ثم جاءت الإشارة من إينونو، رئيس حزب الشعب الجمهوري، وخليفة أتاتورك، حيث قال في خطاب له “إن هناك جيوشًا أزالت الحكام الذين أهانوها، والجيش التركي لا ينقصه مثل هذا الشرف”، وهو ما أعتبره العسكريون إشارة خضراء للانقلاب على مندريس، وتعهد ضمني بتوفير غطاء سياسي وشعبي للانقلاب.
الانقلاب
استيقظ الأتراك صبيحة يوم السابع والعشرين من مايو عام 1960، على صوت العقيد ألب أرسلان توركس يذيع بيان الانقلاب على الحكومة الشرعية المنتخبة. كان ألب ارسلان توركس قد ترأس جماعة من ثماني وثلاثين ضابط بالجيش التركي متوسطي الرتب، دبرت ونفذت الانقلاب، بدون علم قيادات الجيش، ثم قاموا في اليوم التالي باستدعاء الجنرال المتقاعد جمال جيرسيل ووضعوه على رأس حكومة الانقلاب.
كان ألب ارسلان تروكس قد تلقى تدريبًا في فترة سابقة في المخابرات الأمريكية على مقاومة حرب العصابات، وظل على صلات سرية بالمخابرات الأمريكية، كما أنه كان مدعومًا من حزب الشعب الجمهوري، والذي عاد فور الانقلاب إلى السلطة، على الرغم أنه لم ينجح في أي استحقاق انتخابي منذ عشر أعوام.
ألقى الانقلابين القبض على جلال بايار، رئيس الجمهورية، ومندريس رئيس الوزراء، وعددًا كبيرًا من الوزراء ونواب الحزب. ثم عقدت محاكمة عسكرية لهم، ووجهت إليهم قائمة طويلة من الاتهامات، وأصر مندريس على أن يدافع عن نفسه باعتباره محام. ولكن المحاكمة لم تكن أكثر من مهزلة، حيث منع مندريس من الكلام أكثر من مرة، ومزق القاضي العسكري الأوراق التي قدمها مندريس على الملأ، كما حرم مندريس نفسه من حضور محاكمته العديد من المرات، وهو ما دفع الصحافة الأمريكية لوصف المحاكمة بأنها “محاكمة كانجارو”، بمعنى إنها محكمة صورية لا تراعي القواعد والإجراءات والحكم فيها مسبق.
أصدرت المحاكمة الحكم بالإعدام على جلال بايار ومندريس واثنين أخرين من رفاقهما، ثم اعفي بايار من الإعدام. وعلى الرغم من المناشدات الدولية العديدة للحكومة الانقلابية وأعوانها، بالرجوع عن إعدام مندريس، إلا أنهم أصروا على إعدامه، وهو جعل محرر في صحيفة أمريكية يكتب
إنهم يريدون إعدامه حتى يكون أمثولة لغيره من السياسيين الذين يتحدون سلطتهم.
في أعقاب الكارثة
لم يكن إعدام مندريس ذروة المأساة، فالحرية التركية التي ولدت مع أول انتخابات حرة عام 1950، حرص الانقلابيون على منع عودتها بأي شكل، فقاموا في البداية بطرد جميع معارضي الانقلاب من المؤسسات الحكومية، فأجبروا نحو ثلاثة آلاف ضابط منهم 235 ضابط برتبة جنرال على الاستقالة، وفصلوا ما يزيد عن ألف وأربعمائة أستاذ جامعي من وظائفهم، وأجبروا ما يزيد عن خمسمائة قاض على التقاعد.
كما أعاد الانقلابين كتابة الدستور، بالتعاون مع ظهيرهم السياسي، حزب الشعب الجمهوري، بحيث أضافوا غرفة ثانية للبرلمان التركي، مجلس للشيوخ، يتم تعيين أعضاءه من قبل الدولة، وذلك لموازنة مجلس النواب المنتخب مباشرة من الشعب، ومنع تصعيد أي سياسيين أو أحزاب لا ترضى عنهم السلطة الاستكبارية.
وقد ترك إعدام مندريس والاضطهاد الذي أنزله الانقلابين بمؤيدي الديموقراطية، شعورًا لدى عامة المثقفين والسياسيين الأتراك بالرعب، عبر عنه ذات مرة المؤرخ والسياسي التركي محمد فؤاد كوبريللو (1890-1966)، والذي كان وزيرًا للخارجية في حكومة مندريس الأولى، بعبارة قال فيها “تركيا البلد الوحيد الذي تُمارس فيها السياسة تحت حد السيف”. وهذا الشعور، حدّ من التطور السياسي في تركيا، وجعل من الشباب يعكفون عن الممارسة السياسية، الأمر الذي مد في عمر الحرس القديم، رجال أتاتورك أمثال اينونو، في السلطة ما يزيد من عقد آخر من الزمان.
الخلاصة
كان مندريس من مؤيدي سياسة أتاتورك، بحكم انتمائه لحزب أتاتورك، وهو ما غادر الحزب إلا بسبب صراعه مع خليفة أتاتورك في رئاسة الحزب، عصمت اينونو. ولقد آمن مندريس بالعلمانية، ولكن ليس بصورتها المتطرفة المعادية للدين التي جاء بها أتاتورك، لذلك تراجع عن هذا الشقاق الوهمي بين الإسلام والمجتمع التركي الذي اختلقه أتاتورك ودراويشه.
كان مندريس ضحية الصراع بين جماعة الاستكبار في تركيا، المكونة من العسكريين والإقطاعيين ورجال الأعمال ومحترفي السياسة العلمانيين في حزب الشعب الجمهوري، وبين المستضعفين الذين أراد مندريس أن يرد إليهم بعض من موارد المجتمع التركي من خلال الممارسة الديموقراطية.
ولذا فإن مندريس لم يكن ضحية العودة للإسلام، بقدر ما كان ضحية الصراع بين الاستكبار والاستضعاف، وهو الصراع الذي يمكن أن يهدئه ما يؤمنون به من الديموقراطية، إلا أن الاستكبار دائمًا جاهز للانقلاب على الديموقراطية إن لم تكن في مصلحته.
التساول هو من هي القوة الخارجية التي وقفت وراء الانقلاب ، لا نتحدث عن الاسباب ، بل المدبر الحقيقي للانقلاب ، السبب هو امكانية التقارب مع التيار الناصري وتقوية جناح الاسلام وحتى الوصول للتقارب مع الاتحاد السوفياتي، وامكانية ضياع تركيا التي تقوم بدور حاجز الحصار ضد الاتحاد السوفياتي ، وهو ماجعل الولايات المتحدة تتدخل لتوطيد الدكتاتورية في تركيا خدمة لمصالحها
مقال رائع وتحليل وافي
لكن كان يجب ذكر انجازات مندريس اثناء استلامه رئاسة الوزراء فهي كانت من اهم اسباب الانقلاب
((سمح بتعليم اللغة العربية ،
وقراءة القرآن الكريم وتدريسه في جميع المدارس حتى الثانوية ،
وأنشأ (١٠ آلاف) مسجد ،
وفتح (25 ألف) مدرسة لتحفيظ القرآن،
وأنشأ (٢٢) معهداً في الأناضول لتخريج الوعاظ والخطباء وأساتذة الدين،
وسمح بإصدار المجلات والكتب التي تدعو إلى التمسك بالإسلام والسير على هديه،
وأخلى المساجد التي كانت الحكومة السابقة تستعملها مخازن للحبوب وأعادها لتكون
أماكن للعبادة ))
ولكن القشة التي قصمة ظهر البعير كانت ((تقارب مندريس مع العرب ضد إسرائيل ،
وفرض الرقابة على الأدوية والبضائع التي تصنع في إسرائيل ،
وطرد السفير الإسرائيلي سنة (1956م)
واسباب اخرى ايضا ًً
ختاما ًً المقال رائع وله مدلولات تفيد بأنه يجب ان تبني الحكومة لها قاعدة عسكرية ومدنية لديمومة الحكم
تحياتي
ليث سامي
العراق / بغداد