رمضان مقاصده وعباداته.. مراجعة كتاب (روح الصيام ومعانيه) للدكتور عبد العزيز مصطفى

رمضان ليس شهر الكسل والخمول، بل هو ميدان سباق للمتنافسين، وساحة جهاد للنفس، فمن غلب أهواءه في هذا الشهر، غلبها فيما بعده، ومن ملك زمام شهواته، سهل عليه قيادة حياته إلى معارج الكمال.

تتوالى الأيام، وتتبدل الفصول، ويبقى رمضان شهرًا متفردًا في أثره، عظيمًا في أسراره، مُشرقًا بنوره على القلوب والعقول، فهو موسم لا يُشبه غيره، تتجلى فيه معاني الروح قبل الجسد، وتُختبر فيه النفوس بين لذة الصبر وحلاوة الإيمان، في مقالنا نتناول كتابًا يأخذنا في رحلة تتجاوز الأحكام الظاهرة للصيام، لتغوص في أعماق مقاصده، وتكشف عن كنوزه الروحية، فهو ليس امتناعًا عن الطعام والشراب فحسب، بل تطهيرٌ للنفس، وتهذيبٌ للروح، وتحريرٌ للإنسان من أعدائه، من خلال صفحاته يعرف المؤمن كيف يكون رمضان بوابةً إلى التقوى، وساحةً لمجاهدة النفس، ومدرسةً ترتقي فيها القلوب إلى معارج السمو، إنه دعوةٌ للتأمل، وفرصةٌ لإدراك حقيقة الصيام لا كعادة، بل كعبادة تنبع من القلب وتسمو بالروح.

عن المؤلف والكتاب

د. عبد العزيز مصطفى كامل

مؤلف الكتاب هو الدكتور عبد العزيز مصطفى كامل حاصل على ماجستير في أصول الدين من جامعة الإمام بالسعودية، وعلى الدكتوراه من جامعة الأزهر بالقاهرة، وعمل بالتدريس لسنوات في جامعة الملك سعود بالرياض. تفرغ بعدها للكتابة والتأليف، وكان عضوًا بهيئة تحرير مجلة البيان اللندنية، وعضوًا في مجلس إدارتها.

ومن أشهر كتبه: (قبل أن يُهدم الأقصى)، (نظرات في مسيرة الصراع الديني)، (معركة الثوابت بين الإسلام والليبرالية)، (العلمانيون وفلسطين.. وتاريخ من الفشل) وغيرها، إضافة إلى عشرات الدراسات في التقرير الاستراتيجي السنوي الصادر عن المركز العربي للأبحاث بالقاهرة، ومئات المقالات بمجلة البيان وغيرها.

وكتاب (روح الصيام ومعانيه) واحد من مؤلفاته المميزة التي تتناول مختلف معاني صيام شهر رمضان بلغة سلسة، وأفكار متتابعة، قريبة للنفس، سهلة للفهم، ويتكون من 140 صفحة من الحجم الصغير، يسلط الضوء فيه على معاني الإخلاص، والاتباع، والتقوى، ويكشف عن روح العبادات التي تجعل من رمضان محطة تغيير حقيقية في حياة المسلم.

مراتب الكمال في الصيام: من استقبال الشهر إلى تمام العبادة

رمضان ليس مجرد شهر للصيام، بل هو فرصة ذهبية لإعادة بناء علاقتنا بالله، وزيادة التقوى، وتدريب النفس على الصبر، والاقتداء بالنبي ﷺ في كل جوانب العبادة، فمن خرج منه وقد ترسّخت فيه هذه القيم، فقد فاز بأعظم الأجور، وكان رمضان له نقطة تحول في حياته، وتحقيق ذلك يكون في عدد من الأمور وهي كما يلي:

حُسن الاستقبال

الذهاب إلى المسجد في رمضان، مراجعة كتاب: روح الصيام ومعانيه

رمضان ليس مجرد شهر يمرّ كل عام، بل هو موسم استثنائي للطاعة وفرصة قد لا تتكرر. فمن استشعر أنه قد يكون آخر رمضان له، استقبله بقلب متلهف وعزيمة صادقة، شأنه شأن المسافر الذي يدرك أن رحلته قد لا تتكرر، فيبذل جهده ليجعلها ذكرى عامرة بالخير.

وكان النبي ﷺ يبشّر أصحابه بقدوم رمضان، قائلًا: ((قد جاءكم رمضان، شهر مبارك، افترض الله عليكم صيامه، تفتح فيه أبواب الجنان، وتغلق فيه أبواب الجحيم، وتغلّ فيه الشياطين، فيه ليلة خير من ألف شهر، من حُرم خيرها فقد حُرم)) [مسند أحمد: 7269].

ولذا، كان السلف الصالح يتهيؤون لهذا الشهر بالدعاء، فكانوا يرددون: ((اللهم سلّمنا إلى رمضان، وسلّم لنا رمضان، وتسلّمه منا متقبّلًا)) [معجم الطبراني: 913]، كما أنهم كانوا يسألون الله ستة أشهر أن يبلغهم رمضان، ثم يدعونه ستة أشهر أن يتقبله منهم، وهذا دليل على إدراكهم لعظمة أيامه وفضلها.

الإخلاص

الإخلاص هو أساس كل عبادة، وهو الذي يرفع العمل عند الله أو يسقطه، قال النبي ﷺ: ((إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى)) [صحيح البخاري: 1]، ولا يكون الصيام مقبولًا إلا إذا كان إيمانًا واحتسابًا، كما في قوله ﷺ: ((من صام رمضان إيمانًا واحتسابًا غفر له ما تقدم من ذنبه)) [صحيح البخاري: 38].

ولكن يكمن الخطر الأعظم في الرياء، فقد ذكر النبي ﷺ أن أول من يُقضى لهم يوم القيامة ثلاثة: عالم، ومجاهد، ومتصدق، لم يعملوا لله، بل سعوا وراء ثناء الناس، فيقال لهم: ((كذبتم، ولكنكم فعلتم ليقال كذا، فقد قيل)) [صحيح مسلم: 1905]، ثم يُطرحون في النار، لذلك ينبغي أن يحرص الصائم على أن يكون قلبه خالصًا لله، لا يُبتغى بصيامه مدح الناس، ولا يُراد به سوى القرب من الله.

الاتّباع

لا تُقبل الأعمال عند الله إلا إذا كانت خالصة له، وموافقة لهدي النبي ﷺ، حيث قال: ((من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد)) [صحيح مسلم: 1718]، فكما أن الإخلاص يحدد قيمة العمل، فإن اتباع السنة يضمن صحته وقبوله.

وكانت حياة النبي ﷺ في رمضان نموذجًا يُحتذى به، فقد كان في أيامه يجتهد في العبادة أكثر من أي وقت آخر، وكان يعجّل الفطر ويؤخر السحور، دل على ذلك قوله ﷺ: ((لا يزال الناس بخير ما عجّلوا الفطر)) [صحيح البخاري: 1957].

أما في العشر الأواخر، فقد كان ﷺ يضاعف الجهد، ويعتكف في المسجد، متفرغًا للعبادة ومناجاة الله، ولذلك فإن الاقتداء بالنبي ﷺ في هذه الأمور يجعل الصيام أكثر تأثيرًا على القلب، وأعظم بركة في حياة العبد المسلم.

التقوى

الصيام ليس غاية في ذاته، بل هو وسيلة عظيمة لتحقيق التقوى، كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 183].

والتقوى لا تتحقق بمجرد الامتناع عن الطعام والشراب، بل تمتد إلى ضبط الجوارح، وحفظ اللسان، وغض البصر، والبعد عن كل ما يضعف أثر الصيام، قال النبي ﷺ: ((من لم يدع قول الزور والعمل به، فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه)) [صحيح البخاري: 1903].

فالصيام الحقيقي هو الذي يترك أثرًا في قلب صاحبه، فيجعله أكثر ورعًا، وأشد خشية لله، وأبعد عن المعاصي.

الصبر

رمضان هو شهر الصبر، والصبر من أعظم الفضائل التي وعد الله عليها بالأجر العظيم، فقال: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ} [الزمر: 10].

ويظهر الصبر في رمضان في ثلاث صور رئيسية:

  • الصبر على الطاعة: بتحمل الجوع والعطش، وأداء العبادات بإخلاص.
  • الصبر عن المعصية: بكبح الشهوات، وضبط النفس عن المحرمات.
  • الصبر على الأقدار: بقبول المشقة التي تصاحب الصيام برضا وتسليم.

وقد بيّن النبي ﷺ أن رمضان مدرسة للصبر، فقال: ((صوم شهر الصبر، وثلاثة أيام من كل شهر، صوم الدهر)) [مسند أحمد: 7692]، فمن صبر في رمضان، سَهُل عليه الصبر في غيره، وأصبح أكثر ثباتًا على الطاعة.

الجوارح في رمضان.. أعمالها وحفظها

رمضان ليس مجرد عادة تتكرر كل عام، بل هو محطة إيمانية عميقة، يجدّد فيها القلب إيمانه، وتتهذب فيها الجوارح، فتصفو الروح وتعلو النفس إلى معارج الطاعة، إنه دورة روحية متكاملة تمنح الإنسان فرصة للعودة إلى فطرته النقية، وتغرس فيه معاني التقوى والعبودية الخالصة، فمن أدرك حقيقته واغتنمه بحق، خرج منه بروح متجددة، وقلب مضيء بنور الإيمان، وعزيمة تمضي به في طريق الطاعة بعده، ولتحقيق هذا الأثر، لا بد للمؤمن من حفظ جوارحه عن الآثام، وتسخيرها في الطاعات، وهو ما يتحقق من خلال ما يلي:

القلب

القلب هو منبع الصلاح، ومركز التأثير، والمحرك الأساسي لسلوك الإنسان، وهو مستودع الإيمان ومحل نظر الله، فإن صلح، صلحت سائر الجوارح، وإن فسد، فسد العمل كله، قال رسول الله ﷺ: ((ألا وإن في الجسد مضغة، إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب)) [صحيح البخاري: 52].

وفي رمضان، يخوض القلب تجربة فريدة، حيث تصفو الروح بالصيام، وتلين النفس بذكر الله، فتزداد قابليته للتأثر والتغيير، ففيه يتاح للقلب فرصة للتطهر من أدران الغفلة، إذ يبتعد الإنسان عن مشاغل الدنيا، ويعيش في أجواء الإيمان التي تسهم في إصلاحه، ولذا، فإن الصيام لا يكون تامًا إلا إذا صاحبته نية صادقة، وإقبال خالص على الله، فيتحقق بذلك أثره في تزكية النفس، ويربح العبد ويتحقق فيه قوله تعالى: {إِلَّا مَنۡ أَتَى ٱللَّهَ بِقَلۡبࣲ سَلِیمࣲ} [الشعراء: 89].

السمع والبصر واللسان

السمع والبصر واللسان هم أبواب القلب التي تحتاج إلى صيام، فإن كان القلب هو مركز التأثير، فإن السمع والبصر واللسان هي منافذه، وما يدخل إليه منها يحدد حاله وصفاءه، ورمضان ليس مجرد إمساك عن الطعام والشراب، بل هو ضبط لهذه الحواس، حتى لا يكون الامتناع عن المفطرات مجرد عادة فارغة من روحها، دل على ذلك قوله تعالى: {إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا} [الإسراء: 36].

فيُحفظ السمع عن كل ما يضر القلب، فمن سمع الخير كان قلبه أكثر قربًا من الله، ومن أطلق أذنه لكل ما يفسد الطبع، فقد أفسد قلبه بيده، وتُدرّب العين على الترفع عن النظر إلى الحرام، والاشتغال بما يُزكي القلب، كما قال تعالى: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ} [النور: 30]، والبصر إن لم يُضبط، كان وسيلة لإفساد الصيام، وإشغال القلب بالشهوات.

أما عن اللسان فقد شدد النبي ﷺ على ضبط اللسان في رمضان، فقال: ((من لم يدع قول الزور والعمل به، فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه)) [صحيح البخاري: 1903]، فالصائم الحقيقي هو من يمسك لسانه عن الكذب والغيبة والنميمة، ويستخدمه في الخير والذكر والتسبيح.

الصيام

الصيام هو تدريب عملي على التقوى، وقد جاء في القرآن الكريم بيان مقصده الأساسي قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة:83]، فالتقوى ليست فقط تجنب الحرام، بل هي ارتقاء بالنفس إلى مقام المراقبة لله، فيصبح الامتناع عن الذنوب سلوكًا راسخًا في حياة المسلم.

والصيام عبادة تهدف إلى تهذيب النفس قبل أن تكون امتناعًا عن الطعام والشراب، ولهذا وصفه النبي ﷺ بأنه “جُنّة”، أي وقاية من الذنوب والمعاصي، فالعبد المؤمن الصائم لا يكفيه أن يترك المفطرات، بل يجب أن يبتعد عن كل ما يفسد أثر الصيام من سوء خلق أو تفريط في الطاعات.

الأذكار

يعد رمضان فرصة عظيمة لإحياء القلب بذكر الله، فالتسبيح والتحميد والتهليل مضاعف للأجر، وهو وقاية للقلب من الغفلة، قال النبي ﷺ: ((مثل الذي يذكر ربه والذي لا يذكره، كمثل الحي والميت)) [صحيح البخاري: 6407]، والذكر في رمضان يأخذ بعدًا أعمق، حيث تكون الروح أكثر استعدادًا للتأثر، والنفس أقرب إلى الإخلاص، فكل تسبيحة، وكل استغفار، وكل تكبيرة، هي رصيد للقلب، ووسيلة لتنقيته من شوائب المعاصي: صغار الذنوب وكبارها.

القيام

القيام هو سر الصفاء في رمضان، وهو من أشرف العبادات التي يتقرب بها العبد إلى الله، وهي من أعظم أسباب رفعة الدرجات وتكفير السيئات، وقد خَصّ الله هذا الشهر الكريم بقيام الليل، ودل على ذلك قول النبي ﷺ: ((من قام رمضان إيمانًا واحتسابًا غفر له ما تقدم من ذنبه)) [صحيح البخاري: 37].

وكان النبي ﷺ يحرص على قيام الليل في رمضان، ويجتهد فيه أكثر من غيره، وكان يشجع الصحابة على ذلك، فجمعهم عدة ليالٍ ليصلوا خلفه، لكنه امتنع عن الخروج إليهم خشية أن يُفرض عليهم. وبعد وفاته ﷺ، رأى عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- أن يجمع الناس على إمام واحد، فكان ذلك بداية صلاة التراويح الجماعية.

وكان السلف الصالح يحرصون على قيام الليل في رمضان أشد الحرص، حتى أن بعضهم كان يختم القرآن كل ثلاث ليالٍ في التراويح. فقيام الليل في رمضان ليس مجرد صلاة، بل هو روحانية خاصة، يملؤها الخشوع والتقرب إلى الله، ويشعر فيها العبد بلذة القرب منه سبحانه.

التلاوة

رمضان والقرآن متلازمان، فرمضان هو شهر القرآن، وهو الشهر الذي نزل فيه الوحي، كما قال تعالى: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ} [البقرة: 185]، وكان النبي ﷺ يحرص على مدارسة القرآن مع جبريل -عليه السلام- في كل ليلة من رمضان، وفي العام الأخير من حياته، تدارسه معه مرتين.

وتلاوة القرآن في رمضان ليست مجرد ترديد للكلمات، بل هي فرصة للتدبر والتفكر في معانيه، ليكون منهاجًا للحياة، وقد كان الصحابة والسلف الصالح يخصصون أوقاتهم في رمضان للقرآن، فيكثرون من قراءته، ويحرصون على ختمه أكثر من مرة، وكان بعضهم يختمه كل ثلاث ليالٍ، وبعضهم في كل سبع.

فينبغي على المؤمن في رمضان أن يجعل لنفسه وردًا يوميًا من التلاوة، ويحرص على تدبر معانيه، وأن يعمل بما فيه من توجيهات، ليكون رمضان شهرًا تحصل فيه الهداية ويُنار له ببركته الطريق.

الاعتكاف

الاعتكاف في رمضان، مراجعة كتاب: روح الصيام ومعانيه

الاعتكاف هو تفرغ القلب للعبادة، وانقطاع عن الدنيا، وتوجه كامل إلى الله، وقد كان النبي ﷺ يعتكف في العشر الأواخر من رمضان؛ تحريًا لليلة القدر، وتأسّيًا به، داوم الصحابة والسلف على هذه العبادة العظيمة. والاعتكاف ليس مجرد بقاءٍ في المسجد، بل هو انقطاع عن شواغل الدنيا، واغتنام للوقت في الطاعات، وتصفية للقلب، ليكون العبد في حالة خلوة مع الله، تُكسب قلبه ونفسه الطمأنينة والسكينة.

الجود

كان النبي ﷺ أجود الناس، لكنه كان في رمضان أكثر جودًا وكرمًا، حتى شُبّه بالريح المرسلة، دليلًا على كثرة عطائه وسرعته، فالجود في رمضان لا يقتصر على المال، بل يشمل كل أنواع العطاء، من صدقة، وإحسان، وتفريج كرب، وإكرام الضيف، وإعانة المحتاج، ولأن الحسنة تتضاعف في رمضان، كان السلف الصالح يتسابقون في الصدقة، حتى إن بعضهم كان يطعم الفقراء يوميًا، ويرى أن الإنفاق في هذا الشهر أفضل من أي وقت آخر.

المجاهدة

رمضان هو شهر المجاهدة، وهو ميدان يتعلم فيه المسلم كيف يُسيطر على نفسه، ويتغلب على هواه، فقد قال النبي ﷺ: ((المجاهد من جاهد نفسه في سبيل الله عز وجل)) [مسند أحمد: 24598]، فمن نجح في مجاهدة نفسه في رمضان، كان أقدر على الاستمرار بعده في طريق الطاعة. 

والمجاهدة تشمل ضبط النفس عن الشهوات، ومجاهدة الكسل في العبادات، ومجاهدة الغضب، وبذلك يحقق الإنسان إلى مرتبة التقوى التي هي الغاية من الصيام.

الدعاء

الدعاء هو مفتاح الرحمة وأعظم أبواب القرب، ورمضان هو شهر الدعاء، فهو موضع استجابة، وقد قرن الله الدعاء بالصيام في قوله: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} [البقرة: 186]، وللصائم عند فطره دعوة لا ترد، فلا ينبغي أن يمر يوم من رمضان دون أن يرفع العبد يديه متضرعًا لله، طالبًا منه القبول والغفران.

العمرة

أداء العمرة في رمضان يعادل أجر حجة مع النبي ﷺ، كما قال ﷺ: ((إِنَّ عُمْرَةً فِي رَمَضَانَ تَقْضِي حَجَّة، أَوْ حَجَّةً مَعِي)) [صحيح البخاري: 1863]، وهي فرصة عظيمة لمضاعفة الحسنات، واغتنام بركات الشهر الكريم.

العلاقات الإنسانية في رمضان

رمضان ليس مجرد شهر للصيام، بل مدرسة إيمانية تُهذب السلوك وتُعزز الروابط الاجتماعية، فيه يصبح البيت منارة للطاعة، وتتجدد الأخوة وصلة الأرحام، ويتقوى المؤمن في مواجهة أعدائه من الشهوات والشيطان، ويتحقق ذلك من خلال التالي:

البيت

البيت هو البيئة الأولى التي يتربى فيها الإنسان، ومنه تبدأ رحلة السلوك الصالح والعبادات، ولهذا كان من الضروري أن يكون البيت في رمضان منارة للطاعة، ومجالًا لتزكية النفوس، ومسؤولية الآباء في هذا الشهر لا تقتصر على تأمين الطعام وتوسعة الرزق، بل تشمل تقديم القدوة الصالحة، وتحفيز الأبناء على العبادة، وتهيئة الأجواء التي تعين على الطاعة، وقد ورد عن النبي ﷺ أنه كان يدعو لأهل بيته بالصلاح، فكان يقول: {رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا} [الفرقان: 74].

ومن أعظم الأعمال التي يمكن أن يقوم بها المسلم في بيته في رمضان:

  • إحياء العبادة: بقراءة القرآن، وصلاة القيام، وذكر الله في كل حين.
  • تعزيز روح التعاون: بالتخفيف عن الأهل، وتشجيع الأطفال على الصيام والعبادات.
  • حفظ اللسان والجوارح: فمن صام عن الطعام فقط، ولم يحفظ جوارحه، لم يتحقق بمقصود الصيام.

الإخوان

أولى الناس ببر العبد وعطائه في رمضان هم إخوانه المسلمون، سواء من الأقارب أو الأصدقاء أو عامة المسلمين يقول النبي ﷺ: ((المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضًا)) [صحيح مسلم: 2585]

 ومن صور الاهتمام بالإخوان في رمضان:

  • إغاثة المحتاجين: فقد يكون بعض إخوانك لا يجد قوت يومه، بينما أنت تنعم بموائد عامرة.
  • إعانة المظلومين والمنكوبين: ففي الأمة من يبيتون على الجوع والخوف والتشريد، ويستحقون الدعم بالدعاء والمال.
  • تقديم العون النفسي والمعنوي: بالكلمة الطيبة، والنصح، والدعاء بظهر الغيب.

وأهمية ذلك ظهرت في قول النبي ﷺ: ((من فرج عن مسلم كربة، فرج الله عنه كربة من كرب يوم القيامة)) [صحيح مسلم: 2580].

الأرحام

صلة الرحم، مراجعة كتاب: روح الصيام ومعانيه

صلة الرحم ليست أمرًا مستحبًا فقط، بل هي من أصول الدين، ومن أهم ما يجب أن يحرص عليه المسلم، خاصة في رمضان، لكونه شهر الرحمة والمغفرة، عندما سُئل رسول الله ﷺ عن أعظم الأعمال قال: ((أرسلني بصلة الأرحام، وكسر الأوثان، وأن يوحّد الله لا يشرك به شيء)) [صحيح مسلم: 832].

وقد حذر النبي ﷺ من قطيعة الرحم، فقال: ((ليس الواصل بالمكافئ، ولكن الواصل الذي إذا قُطعت رحمه وصلها)) [صحيح البخاري: 5991]، فمن الخطأ أن ينتظر الإنسان أن يبدأه أقاربه بالصلة، بل يجب أن يبادر هو، مستغلًا روح رمضان التي تليّن القلوب.

ومن طرق تحقيق صلة الرحم في رمضان:

  • الزيارات والتواصل: فإن لم تكن الزيارة ممكنة، فالرسائل والمكالمات تصلح ما انقطع.
  • المساعدة المادية والمعنوية: فمن الأقارب من هو محتاج، فلا تبخل عليه.
  • إصلاح ذات البين: فكم من قطيعة دامت سنوات، وكان رمضان فرصة لإنهائها.

الأعداء

شهر رمضان يهيئ للإنسان فرصة الانتصار على خصومه الحقيقيين الذين يتربصون به، فإنْ أحسن القتال، خرج منه منتصرًا، بقلب طاهر، ونفس زكية، وإرادة صلبة، تُعينه على مواصلة درب الطاعة حتى بعد انقضاء الشهر الكريم، وأعداء الإنسان في رمضان ثلاثة:

الشيطان: الذي لا يفتأ يوسوس للإنسان ويغويه، لكنه في رمضان يُغلّ قيده، وتُصفَّد مردته، فيضعف كيده وتخبو وساوسه، كما جاء في الحديث النبوي: ((إذا جاء رمضان فُتّحت أبواب الجنة، وغُلّقت أبواب النار، وصُفّدت الشياطين)) [صحيح مسلم: 1079]، فهي فرصة العبد الذهبية ليحرر قلبه من أسر الغواية، ويثبت قدميه على درب الطاعة.

النفس الأمّارة بالسوء: وهي العدو القابع في الداخل، الذي قد يكون أشد خطرًا من الشيطان ذاته، فلا عجب أن النبي ﷺ استعاذ منها قبل استعاذته من الشيطان، قائلًا: ((اللهم فاطر السماوات والأرض، عالم الغيب والشهادة، لا إله إلا أنت، رب كل شيء ومليكه، أعوذ بك من شر نفسي، ومن شر الشيطان وشركه)) [جامع الترمذي: 3529]، وإن كان الشيطان مغلولًا في رمضان، فإن هذه النفس تبقى حرة، تحتاج إلى ترويض وتأديب، ولا دواء لها أعظم من الصيام، الذي يطفئ نيران شهواتها، ويهذب رغباتها.

الهوى: وهو العدو الخفي، الذي يستهوي القلوب ويقودها حيث تشتهي، ما لم يكن للعقل سلطان عليها. فهوى النفس إن تُرِك بلا كبح، كان أعظم أسباب الانحراف، وإن قُيِّد بزمام العقل والتقوى، أصبح مطيّة إلى الخير.

في الختام، فإن رمضان ما هو إلا أيام وتمضي كما أقبلت، لكن يبقى أثره في القلوب التي أدركت جوهره، والأرواح التي ذاقت حلاوة القرب من الله فيه، فالصيام ليس مجرد طقس يؤديه المرء كل عام، بل تجربة تحويلية تعيد تشكيل النفس، وتهذب الأخلاق، وتحرر القلب من قيود الشهوات، وهو ليس بموسم عابر، بل هو مدرسة دائمة، من وَعَى دروسه، عاش بها، ومن ذاق روحه، لم يعد يرى الصيام حرمانًا، بل زادًا يبقى أثره ما بقيت الحياة.

رضوى التركي

كاتبة، آخذة بعنان قلمي في سبيل الله، تخصص تربية

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى