المقاومة الإسلامية في الصومال: كيف صمدت أمام الشيوعية والتنصير؟
استعرضنا في جولتنا الماضية نشأة تيار المقاومة الإسلامية في الصومال بدايةً من الجذور التاريخية للوجود الإسلامي هناك، ووصولًا إلى مقاومة الاستعمار الأوروبي ومحاولته إطفاء جذوة المقاومة المشتعلة في نفوس الصوماليين. وبين ذلك قرأنا في تاريخ الحملات الصليبية والكشوف الجغرافية. وعايشنا كيف انتفض ذلك الشعب الأبي، ولم يُهادن أو يُسالم في وجه المدافع والرشاشات، بل كيف أنَّه سطَّر درسًا تاريخيًا في تحدي منطق المُختبئين خلف موازين القوى المجردة، والناشرين دعاوى الوهن، والمُخذِّلين من عزائم وقدرات الأمة المسلمة… ومن حيث انتهينا نبدأ:
وقائع الانقلاب العسكري وحكم سياد بري
«أتيت إلى مقديشو وليس فيها إلا طريق واحد معبّد بناه الإيطاليون، إذا أجبرتموني على التخلي عن السلطة فسأترك المدينة كما جئتها أول مرة… لقد أتيت بسلطة البندقية، ووحدها البندقية يمكنها إزاحتي»
وبِهاتَين الجملتين لخَّص «سياد بري» -الديكتاتور الماركسي الصومالي-وقائع الانقلاب العسكري الذي قاده بنفسه، كما عكس أفكاره حول الحكم والسلطة. إذ تعاطى سياد بري مع الواقع الصومالي من منطلق الإرث والتَرِكة. ففي العام 1969م وجدت الماركسية موطئ قدم لها في الصومال في أعقاب الانقلاب العسكري الذي قاده الجنرال سياد بري والذي استولى على إثره على حكم البلاد، ليبدأ مرحلة من جديدة من تاريخ الاضطهاد والعداء للدين والمتدينين، وعمد في ذلك إلى السيطرة على التأثيرات الإسلامية في المجتمع الصومالي.
كما شرع في محاولاته للانفراد بسائر مكونات المجتمع الدينية والثقافية والإعلامية والعسكرية، ليقوم بعدها بسلسلة من الإصلاحات في القطاع التعليمي ومحو الأميّة كما شملت هذه التحسينات الجانب العلمي والاقتصادي والإعلامي، كما سنَّ قوانين جديدة تتعلق بحقوق المرأة في المجتمع الصومالي، ولكن هذه الإصلاحات توازت مع حملة قمعية طالت كل أفراد المعارضة، فعمد إلى:
- ترأّس المجلس الثوري الأعلى إلى جانب عدد من الجنرالات، وبعد فترة تولى بري رئاسة المجلس منفردًا.
- إلغاء الأحزاب السياسية، وحل المجلس الأعلى للثورة، وأنشأ مكانها الحزب الوطني الاشتراكي الثوري، تُحكم البلاد من خلاله وتولى رئاسته سياد بري نفسه، وكانت غالبيته من الجنرالات.
- إيقاف العمل بالدستور الأول.
- اعتماد الأبجدية اللاتينية بدلًا من الأبجدية العربية لكتابة اللغة الصومالية.
- تبني نظام الاشتراكية الماركسية والشيوعية، ليملأ بعدها الشوارع والميادين بصوره إلى جوار صور ماركس ولينين.
- شهد عهد بري واحدًا من أسوأ ملفات انتهاك حقوق الإنسان، وبحسب تقديرات الأمم المتحدة فقد قتل بين 50 ألفًا إلى 60 ألف صومالي بين العامين 1988 و1989. وفي يناير 1990أصدرت لجنة مراقبة أفريقيا، وهي فرع من هيومن رايتس ووتش تقريرا يتكون من 268 صفحة بعنوان “الصومال: الحكومة في حالة حرب مع شعبها”، يسلط التقرير الضوء على انتشار انتهاكات واسعة لحقوق الإنسان في المناطق الشمالية من الصومال.
الخلفية التاريخية للمقاومة الإسلامية لسياد بري
لم تكن الصومال بمعزل عما يدور حولها من وقائع الصحوة الإسلامية التي بدأت على خلفية سقوط الخلافة العثمانية سنة 1924، فيما واجهت الصحوة الإسلامية في الصومال واقعًا معقدًا عن مثيله في أقطار العالم العربي، إذْ كانت هذه الصحوة في مواجهة الإرساليات التنصيرية، والشيوعية السوفيتية والصوفية بمفهومها العبثي من تتبع الكرامات وإسقاط الوقار، فعززت هذه الصحوة من الفهم القويم للدين الإسلامي وساهمت في تغلل مفهوم الدين في أوساط المجتمع الصومالي.
شرارة الثورة
انقلب سياد بري على ما ادَّعى أنه مدافع عنه، إذْ أشاع أنه ملتزم بمبادئ الشريعة الإسلامية، لكن سرعان ما أثبت الواقع كذب ادِّعائه، وأنّه ما ركن إلى النظام الإسلامي إلا من أجل مصلحته في تفكيك قوى العشائر والاستفادة من نبذ الإسلام لعقد الولاء على القبيلة أو العشيرة، وبعد تحقيق مأربه قام بحظر النقاب وعطل تطبيق أي حدود بدنية؛ باعتبار أن كل وقت له مفرداته وأساليبه.
وفي 1975 أصدر بري قانون الأسرة الذي نصَّ على مساواة المرأة بالرجل في الميراث؛ وعلى الرغم من رقابة نظام سياد بري الصارمة للأجواء الاجتماعية والدينية إلا أن السلفية استطاعت وبثبات أن تنمو ويزداد عدد أعضائها، وانطلق الصوماليون بالآلاف في ثورة عارمة بدافع الزود عن حدود وأحكام الدين والشريعة، وبالطبع قابل سياد بري هذه الثورة بالقمع والقتل كما سجن منهم الآلاف، واعتقل عددًا من القادة الإسلاميين ليُنفَّذ حكم الإعدام فيهم بعد أسبوع من الاعتقال.
إثر التنكيل بهذه الثورة ورموزها ازداد البطش والتنكيل بالمعارضة كما عمد بري إلى شق صف المقاومة الصومالية وزرع الدسائس بين الجيران بُغية إلهائهم عن بطشه وجوره بتلك الشقائق والنزعات القَبَليَّة؛ ما أدَّى إلى هروب العديد من الصوماليين والتحاقهم بجماعات العمل الإسلامي في الخارج، فتشكَّلت صِلة بين الصوماليين والسلفية في شبه الجزيرة العربية والإخوان بمصر، وكذلك الجماعات الجهادية في أفغانستان في حربهم ضد السوفيت، أو اتجاه من بقي منهم في الصومال إلى العمل السري؛ وانعكست هذه الحالة على الداخل الصومالي، واتخاذ الجماعات الإسلامية شكلًا تنظيميًا سريًا على النحو التالي:
ثورة 1988
لجأت الجماعات الإسلامية إلى انتهاج العمل السري حفاظًا على ما بقي من التنظيمات بعد حملات الاعتقال والإعدام التي أعقبت ثورة 1975، ومع تنامي القوة التنظيمية التي شكلتها الحركات الإسلامية، دعا الشيخ عبد العزيز فارح إلى إقامة اتحاد يجمع تلك القوة المتناثرة في أنحاء الصومال فوجدت الفكرة تجاوبًا من الشيخ محمد معلم الذي يُعرف بالأب الروحي للدعوة الإسلامية في الصومال، وكذلك الشيخ علي ورسمه حسن؛ ليظهر للعلن الاتحاد الإسلامي (كان ظهوره ما بين 1982 و 1984) والذي بدأ كاندماج للحركات الإسلامية الكبرى على الساحة الصومالية، ضم المجموعات السلفية في كل من (الجماعة الإسلامية) في الجنوب، وحركة (وحدة الشباب الإسلامي) في الشمال.
شكَّل المزيج الذي تكوَّن منه الاتحاد الإسلامي منهجه إذ شكَّل طرحًا جديًا على الساحة الصومالية فجمع بين العمل الدعوي وتصحيح العقيدة وتنقية المجتمع الصومالي من الشِركيَّات تأثرًا بما اكتسبه التنظيم من السلفية في شبه الجزيرة العربية، وكذلك وضع الاتحاد على رأس أولوياته جهاد البطش والجور الذي مثله سياد بري وحكومته، فكانت رؤية الاتحاد قائمةً على أن الإسلام لا يمكن فصله عن السياسة، مما أكسب الاتحاد تأثيرًا وتغلغلًا وسط الساحة الصومالية، بل وكذلك وسط العشائريات والتي تُعدُّ أساس تكون المجتمع الصومالي.
بدأت حكومة سياد بري مقاومتها للاتحاد إذْ رأت فيه مكمن خطر على مصالحها، وبخاصة بعد اندماجه بالشعب، وخطواته الذكية في الاتجاه إلى العشائريات والقبائل واكتساب ثقتها وتأييدها، مما شكَّل تحديًا جريئًا للنظام الذي سعى إلى تفكيك القبائل لكسر شوكتها وقوتها. وبمرور الوقت ومع ازدياد الوعي الديني لدى الناس وتنامي قوة الاتحاد وتثبيت أركانه بين فئات الشعب المختلفة؛ طالب الاتحاد الإسلامي بإقامة الشريعة في جميع مناحي الحياة السياسية والاجتماعية والمفاهيم الحياتية كبديل عن الشيوعية والديمقراطية.
محاول تغريب الصومال
مع استشعار نظام بري لقوة الاتحاد ومدى ثقة الشعب الصومالي في طرحه الذي تناول العقيدة والجهاد وشئون الناس المختلفة، أصدر بري مجموعة من القوانين التي تحظر التجمع في المساجد أو مخاطبة الجماهير دون تصريحات مسبقة من الحكومة؛ فانقلبت تلك القوانين على النظام، حيث ازداد ارتباط الجماهير بمشايخ الاتحاد وقوتهم في الحق حيث أنهم لم يتركوا الدعوة والتحريض ضد النظام ولا التوعية بديكتاتورية بري وحكومته، حتى أنهم كانوا يستهزئون بالحصانة والألقاب التي أسندها بري لنفسه، فنالوا بذلك من هيبة النظام وأسقطوه من عيون الشعب، وتزعم الشيخ عبد الله حاشي هذا التحريض على النظام ونقده أمام العامة، متخذًا من مسجد مقديشيو منبرًا له.
تزامن ذلك مع هزيمة النظام في معاركه الخارجية واستنزاف قوته الاقتصادية والعسكرية وتخلي الداعمين الخارجيين عنه لتحركه دون إذنهم المُسبق، فازداد أعداء النظام في الداخل، فما بين العمليات العسكرية واسعة الأثر للحركة الوطنية الصومالية والتي كانت بدعم من إثيوبيا عدوة النظام في تلك الفترة، وبين جهاد الاتحاد الإسلامي، وجد نظام بري نفسه بين شقي الرحى فطالب دعم النظام المصري، والذي لم يتأخر كعادته عن مساندة أي طاغية أو انقلاب، فاكتسب نظام سياد بري دعمًا غير محدود من الدول العربية، فحتى على الصعيد الإعلامي أُشيع أن ما يجري في الصومال عبارة عن مواجهة مع جماعات انفصالية ترفض وحدة الصومال.
ازداد تأثير الجماعات الإسلامية في الصومال (الاتحاد الإسلامي) مما اضطر أثيوبيا–المسيحية-في 4 أبريل 1988 من إعادة ترتيب أوراقها مع نظام بري وتناسي الخلافات، والتعاون مع النظام من أجل القضاء على هذا التمرد سريع الانتشار، وكان من بين تداعيات هذا التعاون تخلي أثيوبيا عن دعم الحركة الوطنية الصومالية وهي في أوج قوتها وانتصاراتها التي حققتها على حساب النظام الذي كان مُنشغلًا باعتقال ومحاكمة رموز الاتحاد الإسلامي بتهمة الاستفادة من تنظيم إسلامي لصالح قضايا سياسية، وتهمة أسلمة المجتمع!
وبعد وساطة يُظن في الأصل أنها سعودية تحت ضغط الشيخ ابن باز، تم الإفراج عن عدد من رموز الاتحاد الإسلامي وتخفيف حكم الإعداد في حق الشيخ حسن طاهر أويس إلى المؤبد، فعاود الاتحاد جهاده، إلى أن كتب الله سقوط الحكومة في يناير 1991.
من الهامش إلى مركز الأحداث من جديد
لم يكن الاتحاد بقوة الحركة الوطنية الصومالية نظرًا للاضطهاد الذي مارسه نظام بري ضدَّ الجماعات الإسلامية من اعتقالات وتعذيب وتشريد وقتل، ولكنه لم يختفي من الساحة بل وحقَّق جزءًا من أهدافه بأن أعاد الروح الإسلامية إلى المجتمع الصومالي والتي تمثلت في تصحيح مفاهيم الشعب العقدية، كما ارتبطت فئة الشباب بالاتحاد وبالمساجد، ما شكَّل قاعدة صلبة استغلها الاتحاد في جهاده ضد نظام بري، وكذلك في إقامة بنيانه إثر حالة الفوضى التي غرقت فيها الصومال عقب الإطاحة بنظام بري.
وفي يونيو 1991م أعلن الاتحاد تخليه عن السرية التي كانت تُخيِّم على أكثر نشاطاته، واعتماد العمل العسكري والأخذ بالجهاد كوسيلة لإقامة دولة إسلامية غير مُستضعفة ولا مُحتلة؛ فأنشأ الاتحاد معسكرات للتدريب في جميع أنحاء الصومال، كما استغل حالة الفوضى وعدم النظام التي تلت الإطاحة ببري ليتمكن من جمع السلاح اللازم، والذي كان مُنتشرًا في أيدي الشعب إثر معاركه مع نظام بري وميليشياته.
خاتمة
وبهذا بدأت الحركات الإسلامية الصومالية جَنْي ثمار غرسها وصناعتهم للوعي، إذْ لم يمنعهم التضييق والتنكيل الذي مارسه نظام سياد بري ضدهم من الاتجاه إلى مخاطبة الشعب بما يعقلون، ولم يكتفوا بالجهاد والبيانات التي تُصدر بل انخرطوا في الشعب وكانوا جزءًا منه، وأشركوهم في معاركهم ضد نظام بري، ولم يكتفوا بصناعة نخبة تقود الحراك. ولم ينسوا في خضم هذا الجهاد أن يصححوا دين الناس دون أن يُغلِظوا عليهم القول رغم ما فيهم من البِدَع والأهواء، وبدون أن ينفِّروهم من تكاليف الدين وشريعته، وبهذا ارتبطت قلوب الناس بالدين وأهله، حيث كان علماؤهم خطباء مفوَّهون يحدِّثون الناس بواقعهم ولا يخشون لومة لائم؛ وبهذا انصلح حالهم، والتفَّ الشعب حول علمائهم ولبَّوا داعي الجهاد لما عرفوا موقعهم من الحراك ووعوا حقيقة المشهد، وأدركوا مقصد الجهاد وهدفه؛ ما أكسب الحركات الإسلامية حاضنة شعبية انطلق منها الجهاد فيما بعد… فأنّى لنا اليوم بمثل علماء الصومال وأهله!
المصادر
علي عبد العال، السلفية في الصومَال… بدايات النشأة ومآلات الواقع
تمخضت الثورة فولدت… حربا أهلية
ما أسباب تراجع الصوفية في الصومَال؟
تقرير مترجم عن ميدل إيست أونلاين–الصومَال : الإعلام، والموارد، والصراع العرقي
الموت في المنفى… مصير محمد سياد بري
الإسلام وسياسة المسلمين في أفريقيا، بنجامين سواريس، رينيه عتيق.