مراجعة كتاب سيكولوجية الجماهير.. بين الخطاب الشعبوي والقرآني
الجماهير كنز استراتيجي في معادلة الصراع بين الثوار والأنظمة، وهي العامل الذي ادعى البعض أن من امتلكه فقد حمل لواء النصر، فهي العامل الحافز الأهم للنصر ووقود الثورة الأول وسلاحها الأساسي؛ هي ملاذ الثوار والجانب الرئيسي من الدعم والمؤن. فإذا تأملت تجارب الثورات السابقة كالتجربة الكوبية أو الفيتنامية ستجد أن الأنظمة تكون على حافة الهاوية إذا وقفت أمامها الجماهير متحدية النظام ووجوده المهيمن على بلادها وأموالها ومعتقداتها.
ستجد الفلاح الذي وقف أمام النظام حاملًا فأسه في مواجهة المعتدي والشيخ الكبير والمرأة المساندين للثوار. فكانت المعركة ضد النظام حقًا معركة أمة تقودها نخبة من الثوار معركة يفهمها الجماهير ويعلمون لماذا عليهم محاربة النظام ويعون كم التضحيات الواجبة لدفع النظام الجائر.
ومن المعلوم أيضًا أن الجماهير إن لم تكن واقفة في صفك فهي واقفة في صف النظام تساعده وتقف بجانبه ضدك، ولك في التجربة المصرية 30 يونيو مثالًا، فقد رأينا المواطنين الشرفاء ورأينا من برروا للنظام قتله للأبرياء ووحشيته ضد الضعفاء رأينا من ادعى الباطل وحمل لواءه من أجل مصلحته الشخصية وعقله الذى لم يفقه شيئًا سوى حاجته. فهذا كلام مفهوم لدى الكثيرين، ولكن ما نود أن نلقي الضوء عليه في هذا المقال هو: كيف نفهم الجماهير لكى يكسبها حاملو لواء التغيير؟
وإن أفضل من حلل عقلية الجماهير وعواطفها هو جوستاف لوبون الطبيب والمؤرخ الفرنسي الذي ولد بفرنسا عام 1841م وتوفي عام 1931م. وألف مجموعة من الكتب عن سلوك الجماعات ووسائل التأثير في الجماهير وكيف أنها يُمكن أن تصنع شيئًا جيدًا وقد تقود إلى الخراب، حيث يرى أيضًا أنها هي التي تساعد القائد كي يُصبح طاغية فيما بعد من خلال خنوعها له والالتزام بطاعته الذي يقودها إلى الذل والمهانة. وأفضل تلك الكتب وأهمها كتاب سيكولوجية الجماهير.
تعريف الجمهور
هم مجموعة من الأفراد لها روح جماعية وخصائص محددة تذوب فيها الشخصية الفردية الواعية لصالح الروح الجماعية، ليتشكل تركيب جديد لا يُعتبر حاصل مجموع سمات أولئك الأفراد، بل تكون أقل من ذلك بكثير، فالفرد وسط الجماهير يكون منومًا مغناطيسيًا يحركه اللاوعي ولا يحركه الوعي، وهذه أولى الخصائص للجمهور في طور التشكل وقد يكون هذا الجمهور مجرمًا وقد يكون بطلًا كما أشرنا في أول المقال.
عواطف الجماهير
تتسم عواطف الجماهير بعدة صفات منها:
1- سرعة الانفعال والخفة
فالمحرضات هي التي تقود الجماهير وتسوقها من حالة إلى حالة أخرى فالعواطف انفعالية ودائمة التقلب، ولا تعبأ بأي عقبة تقف أمامها خصوصًا، وأن عددها الكبير يُشعرها بامتلاك القوة التي لا تُقاوم فليس هناك مفهوم للمستحيل.
2- سرعة تأثر الجماهير وسذاجتها وتصديقها لأي شيء
الجماهير تتأثر سريعًا بأي شائعة أو حدث وتنتشر بينها انتشار العدوى، وقد تصدق أشياء عكس بعضها تمامًا فيتم تكوين صور للأحداث داخل أدمغتها لا علاقة منطقية لهم، ويُرى أن الفئة الأكثر تأثرًا بذلك من الجمهور هم النساء والأطفال.
3- التضخيم والتبسيط
إن العواطف التي تُعبر عنها الجماهير سواء أكانت طيبة أم شريرة تتميز في رأيه بطابعٍ مزدوج بمعنى: أنها مضخمة جدًا ومبسطة جدًا، فنجد أن الفرد المنخرط في الجمهور يقترب كثيرًا من البدائية فهو غير قادر على التمييز الدقيق للأشياء وينظر للأمور بصورة عامة وككتلة واحدة.
4- التعصب والنزعة المحافظة
نزعة التعصب موجودة لدى معظم فئات الجماهير، فالأفكار التي تُطرح عليها إما أن تقبلها كاملة وتعتبرها حقيقة مطلقة أو ترفضها وتعتبرها أخطاء مطلقة (إذا قلت لرجل كبير السن من مؤيدي النظام أن الجيش موالي للغرب ويحمي مصالحه فلاحظ الرد).
5- أخلاقيات الجماهير
أخلاق الجماهير قد تكون مجرمة لا تفعل سوى القتل والحرق والخراب، وقد تكون أيضًا جماهير قادرة على التضحية والجود وذلك أن الذي يحركها قيم مثل المجد والشرف والدين.
أفكار الجماهير
قسم جوستاف أفكار الجماهير إلى فئتين:
1- فئة الأفكار الأساسية: تلك التي تُقدم لها البيئة والوراثة والرأي العام استقرارًا كبيرًا كالأفكار الدينية القيمة الموجودة لدى الشعوب، فهي صعبة التغيير بين يوم وليلة فهي المهيمنة على الفرد داخل اللاواعي وتشبه مياه نهر يجري ببطء.
2- فئة الأفكار الثانوية: وهي الأفكار التي تتشكل تحت تأثير اللحظة، وهى أفكار عابرة ومثال على ذلك الانبهار بفرد ما أو عقيدة ما، وتشبه الأمواج الصغيرة المتغيرة دائمًا والمتحركة على السطح.
وهذان النوعان من الأفكار لكي يؤثران على الجماهير لابد أن تصل إليهم بشكل مفهوم وبسيط جدًا.
عقلية الجماهير
عقلية الجماهير بسيطة ولا تفهم الأشياء الصعبة أو تحاول فهمها فهي عاجزة عن التفكير المتعقل، ومن أثره أنها تربط بين أشياء متنافرة بالأساس ليس بينها إلا علاقات سطحية ظاهرية، كمثال من يقول أن الثلج شفاف يذوب بالماء إذًا فالزجاج شفاف يذوب بالماء! وكذلك التعميم المباشر لحالات فردية وخاصة كأن يرى رجل مسلم يسرق إذًا فكل المسلمين يسرقون!
العوامل المشكلة لأفكار الجماهير وآرائها
1- العرف والتقاليد الموروثة: فهي أهم تلك العوامل وأكثرها تأثيرًا على الجماهير.
2- الزمن: أحد العوامل أكثر نشاطًا وتعجبًا فتجد بعض الأفكار التي لا يُمكن بل يستحيل تحقيقها في فترة ما تبدو معقولة في فترة أخرى.
3- المؤسسات السياسية والاجتماعية: فلا ريب أن تلك المؤسسات لها تأثير واضح على الشعوب، فانظر كيف يؤثر الإعلام على الشعوب ويكّون عقليتها وكذلك المدارس والجامعات.
العوامل المساهمة في تشكيل آراء الجماهير
1- الصور والكلمات والشعارات: تتأثر الجماهير بالصور وتبهرها، وعلينا كذلك الاستخدام الذكي للكلمات والعبارات المناسبة في شكل فني لبق ككلمات (الحرية، العدالة، الحق) فهي كلمات تحتوي على أمل بتحقيقها كأنها حل لمشاكل الحياة اليومية.
2- الأوهام: تعرضت الشعوب دائمًا لتأثير الأوهام فباسم هذا الوهم قدست الشعوب جيوشها واعتبرتهم الحامية لها لا الحامية لمصالح أعدائها. وباسم تلك الأوهام أيضًا أصبحوا مقتنعين بفقر بلادهم رغم كثرة مواردها ومقتنعين بعدالة الظلم والجور الواقع عليهم، شعوب لا تعيش إلا في الوهم.
3- التجربة: التجربة خير دليل على الشيء أو ضده فعندما تفعل شيء ما وترى نتيجته فبالتأكيد لن تقتنع بعكسه.
4- العقل أم العاطفة: محركي الجماهير كما يرى جوستاف لوبون عليهم ألا يتوجهوا إلى عقلها، بل إلى عاطفتها فالعاطفة هي المحرك الأقوى للجماهير فعلينا إثارتها بالمحاجات العاطفية والصور المحرضة لما ندعو إليه.
الفرق بين العقائد الثابتة والعقائد المتحركة للجماهير
العقائد الثابتة هي العقائد المترسخة في عقول وقلوب الجماهير وتحتاج فترة كبيرة لتغييرها وتلك العقائد غالبًا ما تكون الوجه والمكون لحضارتها.
أما الآراء المتحركة فهي طبقة سطحية جدًا من الآراء والأفكار التي تولد وتموت باستمرار.
ويبقى سؤال: هل نحن نتناول هذا من أجل أن نصبح جماهيريين نُريد أن نُدخل تلك الجماهير في صفوفنا دون إفهامها القضية والمعركة وإخضاعها بالعبودية لله وحده أم ماذا؟ بالتأكيد هذه ليست دعوة لأن تكون شعبويًا لا يهمه شيء سوى جلب تأييد الشعب له لكي يفعل ما يريد بسلطته وقوته وخداعه للشعب، كما يركز على الخطاب العاطفي المفتقد للعقل والرؤى الواضحة فكل ما يقف مؤيدًا له فهو مع الشعب أما من يقف في وجه طغيانه فهو ضد الشعب كأن هذا الظالم = الشعب.
فبالتأكيد هذا لم يدع إليه ديننا فلم يدع لخداع الشعب بالشعارات البراقة الزائفة من أجل الحصول على مكاسب شخصية لنا، بل جاء الإسلام رحمةً وهدى للعالمين جاء ليخرج العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام..
وجاء خطاب القرآن للناس مليء بالمحاجات العقلية وكذلك مثيرًا لعواطفهم وقلوبهم، فكم قرأنا في القرآن من آيات مثل (أَفَلاَ تَعْقِلُونَ) (أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا). فقد وردت كلمة يتفكرون في القرآن عشر مرات، وكلمة “لعلهم يتفكرون” ثلاث مرات وكلمة “يعقلون” اثنتين وعشرين مرة.
والخطاب القرآني جاء فيه من حث العاطفة الكثير والكثير، ألم تقرأ قول الله تعالى: (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ الله جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا ۚ وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ الله عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَىٰ شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا ۗ كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ الله لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ).
ألم تقرأ قوله تعالى أيضًا: (وَمَا لَكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الله وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيرًا).
فلم يكتف الخطاب القرآني بالعقل وحده ولم يكتف بحث العاطفة، بل جاء للناس بخطاب إيماني عاطفي يستحث العقل على التفكر والتدبر، وتلك مرتبة أعلى من التفكر والتعقل، ومن هنا فواجبنا نحن المسلمون أن نلتزم بكلام ربنا وخطابه لنا في حث الناس ودعوتهم إلى ما ندعو إليه من الرجوع إلى التوحيد وعبادة رب البرية والوقوف في وجه الظالمين الجائرين.