ما هي المهنة التي التهمت صاحبها؟
هل تساءل كل طالب يومًا ما، عن سر اختياره لتخصص علمي أو جامعي معين؟ وبالأحرى سر اختياره لمهنة ما؟ وما الذي يجعله يختار هذا التخصص أو المهنة؟ هل ذلك راجع لقدراته العقلية والجسدية، وميولاته النفسية، ومواهبه الفطرية؟ أم تَوَارُث عن الأسرة وتشجيع منها؟ أم أن ذلك راجع لقلة الإمكانات المادية، وضعف الإرادة، وسوء الرعاية للمواهب والقدرات؟
والشخص الذي يجد نفسه عالقًا في تخصص جامعي، أو مهنة، أو حِرفة، هل يمكن أن يُبدع فيها؟ أم هو فقط “مُرغم أخاك لا بطل”؟ .. نعم قد يكون السر في اختيار الإنسان لتخصص معين لأسباب؛ منها ما يعود أولًا لتقدير رباني، ثم مناسبات نفسية وعقلية بين الصنعة أو المهنة وبين مزاولها، ومنها ما يختارها الإنسان تحت الإكراه المجتمعي بسبب البطالة، وقلة فرص العمل، فيكون صاحبها يزاولها وهو كاره لها.
ومنا ما هو راجع لأسباب نفسية وبيولوجية؛ فالرجال يختارون أعمالًا التي تسودها مفاهيم مادية مجردة، تعتمد على الخشونة؛ كالجيش والشرطة والمهن القتالية والمهن الهندسية والميكانيكية، والأعمال الشاقة، زيادة على أعمال تحقق لهم الشهرة والنفوذ، والهيبة والمنزلة الاجتماعية، والمنافسة، والمخاطرة، والقوة. وهذا بخلاف النساء اللواتي يفضلن أعمالًا تناسب تكوينهن الجسدي والنفسي والعقلي؛ مثل الأعمال الاجتماعية كالتعليم، والطب، والتمريض، والخدمة الاجتماعية والسكرتارية والمهن التي تتطلب تواصلًا نفسيًّا مع الآخرين، وكسب مودتهم.
وقد عبر أحد علماء النفس عن هذا المعنى بقوله: “تُكَوِّن المرأة في العمل مجموعات تربط بين أفرادها المشاعر، أما الرجال فيُكَوِّنون فِرَقًا للعمل تجمعها النظم الوظيفية والمصلحة”. كما أن المرأة لا تعتبر عملها منافسةً وتهديدًا لمن تعمل معهم، ولا تخجل المرأة في طلب المساعدة، ودعم الآخرين لها في عملها، بخلاف الرجل الذي يعتبر ذلك انتقاصًا من قدراته وهيبته.
كما أن المرأة تضع الاعتبارات النفسية، والشعورية، والإنسانية في اعتبارها أثناء مزاولة وظائفها، بخلاف الرجل الذي يدور نجاحه في العمل حول الإنجاز المادي، والترقي إلى أعلى السُّلم الوظيفي. وكل عمل متكرر يُحدث للرجل مللًا؛ بخلاف المرأة كل عمل وإن كان مكررًا، تُضفي عليه عواطف ومشاعر وانفعالات، مما يجعل لكل عمل تقوم به مذاق خاص.
“وقد أظهرت الدراسات أن الرجال من أعضاء هيئة التدريس في الجامعات، يهتمون بالنفوذ الأكاديمي والشهرة، مع الاهتمام بإجراء البحوث، ونشرها في المجلات العلمية المشهورة أكثر من زميلاتهم النساء اللاتي يَفُقن الرجال في الاهتمام بتوجيه ومساعدة الطلبة، وبالخدمات التي تُقَدم لهم في الجامعة” د. عمرو شريف، المخ ذكر أم أنثى؟، صـ 241.
والمرأة إذا اشتغلت في وظيفة أو عمل لا يناسب قدراتها واهتماماتها، فغالبًا ما يستنزف وقتها وجهدها. “حتى في المجتمعات التي سعت إلى إزالة الفوارق الجُنُوسية عند تنشئة الأطفال من أجل تحقيق تماثل الجنسين في مجتمعات (الكيبوتسات في دولة الاحتلال الاسرائيلي) نجد أن مفهوم اختلاف النساء عن الرجال، ما زال يفرض نفسه على الساحة على أيدي النساء أنفسهن. إن تسعًا من بين كل عشر نساء ممن اخترن القيام بأعمال ذكورية (كقيادة الجرارات) عند بداية حياتهن العملية في الكيبوتسات الإسرائيلية يتركن هذه الأعمال، ليقمن بأعمال أخرى، تناسبهن بشكل أفضل” د. عمرو شريف، المخ ذكر أم أنثى؟، صـ 240.
إذن الهندسة الاجتماعية لإزالة الفوارق بين الجنسين باءت بالفشل، بل تركت آثارًا سلبية على النساء؛ بحيث لم يستطعن التكيف بسهولة مع أعمالهن الجديدة، وكُنَّ أقلَّ كفاءةً، وأقلَّ رضا من زميلاتهن اللواتي اخترن ممارسة أعمال تناسب طبيعتهن، وتوافق رغبتهن.
والإسلام لم يحرم عمل المرأة، وقد يكون العمل في حقها مطلوبًا طلب استحباب، أو طلب وجوب، إذا احتاجت إليه: كأن تكون أرملة أو مطلقة ولا مورد لها، ولا عائل، وهي قادرة على نوع من الكسب يكفيها ذلَّ السؤال أو المَنّ. وقد تكون الأسرة هي التي تحتاج إلى عملها كأن تعاون زوجها، أو تربي أولادها أو إخوتها الصغار، أو تساعد أباها في شيخوخته، كما في قصة ابنتي الشيخ الكبير التي ذكرها القرآن الكريم في سورة “القصص”. وكانتا تقومان على غنم أبيهما: {قَالَتَا لا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ} (القصص: 23). وكما ورد أن “أسماء بنت أبي بكر” ذات النطاقَيْنِ، كانت تساعد زوجها “الزبير بن العوام” في سياسة فرسه، ودق النوى لناضحه، حتى إنها لتحمله على رأسها من حائط له -أي بستان- على مسافة من المدينة.
وقد يكون المجتمع نفسه في حاجة إلى عمل المرأة كما في تطبيب النساء، وتمريضهن، وتعليم البنات، ونحو ذلك من كل ما يختص بالمرأة. ومن شروط عمل المرأة في الإسلام:
- 1-أن يكون في ذاته مشروعًا، بمعنى ألا يكون عملها حرامًا في نفسه، أو مُفضيًا إلى ارتكاب حرام.
- 2-أن تلتزم أدب المرأة المسـلمة إذا خرجت من بيتها في الزي، والمشـي، والكـلام والحركة: قال الله -عز وجل-: {وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا ۖ وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَىٰ جُيُوبِهِنَّ ۖ} (الأحزاب :31).
- 3-ألا يكون عمل المرأة على حساب واجبات أخرى، لا يجوز لها إهمالها، كواجبها نحو زوجها، وأولادها؛ وهو واجبها الأول وعملها الأساسي.
وكثير من الناس المتأثرون بالغرب ينتصرون لعمل المرأة خارج البيت، كيفما كان هذا العمل. ولنقرأ لبعض المنصفين من الكُتَّاب الغربيين، يقول سامويل سمايلس الإنجليزي: “إن النظام الذي يقضي بتشغيل المرأة في المعامل، مهما نشأ عنه من الثروة للبلاد، فإن نتيجته كانت هادمة لبناء الحياة المنزلية؛ لأنه هاجم هيكل المنزل، وقَوَضَّ أركان الأسرة، ومزَّق الروابط الاجتماعية؛ فإنه يسلب الزوجة من زوجها، والأولاد من أقاربهم. فصار بنوع خاص لا نتيجة له، إلا تسفيل أخلاق المرأة؛ إذ وظيفة المرأة الحقيقية هي القيام بالواجبات المنزلية، مثل: ترتيب مسكنها، وتربية أولادها، والاقتصاد في وسائل معيشتها، مع القيام بالاحتياجات البيتية. ولكن المعامل تسلخها من كل هذه الواجبات، بحيث أصبحت المنازل خالية، وأضْحَت الأولاد تشِب على عدم التربية، وتُلقى في زوايا الإهمال، وطُفئت المحبة الزوجية، وخرجت المرأة عن كونها الزوجة الظريفة، والقرينة المحبة للرجل، وصارت زميلته في العمل والمشاق، وباتت معرَّضة للتأثيرات التي تمحو غالبًا التواضع الفكري، والأخلاقي الذي عليه مدار حفظ الفضيلة”.
قالت “مارلين مونرو” -إحدى أشهر ممثلات هوليود-: “إني أتعس امرأة على هذه الأرض .. لم أستطع أن أكون أُمًّا .. إني امرأة أُفَضِّل البيت! .. لقد ظَلَمَنِي كل الناس. وإن العمل في السينما يجعل المرأة سلعةً رخيصةً، تافهةً مهما نَالَتْ من المجد، والشهرة الزائفة”. (وُجِدَ ذلك القول في رسالة لها بعدما انتحرت! نقلًا عن كتاب “المرأة بين الفقه والقانون” للدكتور مصطفى السباعي.
ونشَرَتْ الدكتورة “أيدا أيلين” بحثًا بيَّنَتْ فيه: “إن سبب الأزمات العائلية في أمريكا، وسر كثرة الجرائم في المجتمع هو أن الزوجة تركت بيتها لتضاعف دخل الأسرة، فزاد الدخلُ، وانخفض مستوى الأخلاق، ثم قالت: إن التجارِب أثبتت أن عودة المرأة إلى الحريم، هو الطريقة الوحيدة لإنقاذ الجيل الجديد من التدهور الذي يسير فيه”
ودون أن نطيل الحديث عن الترجيح بين مصالح ومفاسد عمل المرأة خارج البيت، وأيهما أفضل؟ نقول إن الرجال والنساء إذا قضوا حياتهم في أعمال لا يرغبون فيها، فغالبًا ما يقضون حياتهم في صراع ومعاناة؛ لأنهم يقضون معظم حياتهم في وظائف وأعمال، لا تتناسب مع نقاط قوتهم، أو مجالات تفوقهم. يقول ابن حزم في هذا السياق في تعبير بليغ: “مَن شغل نفسه بأدنى العلوم، وترك أعلاها، وهو قادر عليه، كان كزارع الذرة في الأرض التي يجود فيها البُر، وكغارس الشَّعراء، حيث يزكو النخل والزيتون”. [الشَّعراء: ثمر حامض تميل إليه الإبل] انظر: الأخلاق والسِير في مداوة النفوس، صـ 22.
وإذا عدنا إلى التخصصات الجامعية، نشير إلى هذه الإحصائيات: أثبتت بعض الدراسات في الولايات المتحدة الأمريكية أن نسبة 80% من خريجي الجامعات في “الولايات المتحدة الأمريكية” يعملون في مجالات لا علاقة لها بتخصصاتهم، وذلك بعد عشر سنوات من تخرجهم. ترى ماذا يعني هذا؟ تعني هذه المعلومة عدة أمور؛ فلعل منها:
- أن تلك النسبة 80% من مخصصات التعليم العالي في الولايات المتحدة فقط تذهب هدرًا.
- أن نسبة 80% من الشباب الأمريكي لا يعرفون حقيقة مواهبهم الفطرية.
- أن هناك 10 سنوات يُضيٍعها خريجو الجامعات الأمريكيون، دون إظهار مواهبهم، ومَلَكاتِهم الإبداعية. (وهذه المعطيات مذكورة في عدة مواقع إلكترونية)
وإذا كان هذا في أمريكا التي نظامها التعليمي جدُّ متقدم، مقارنة بالدول العالم الثالث، فكيف الحال بالدول المتخلفة في ميدان التعليم والبحث العلمي.
ويقول “روبين شاورما”: “أكثر ما يُحزن في الحياة، هو أن يلتفت المرء في نهايتها، ويعرف أنه كان بوسعِهِ أن يعيشها أفضل، ويعمل أفضل، ويحظى بالأفضل”. لكن للأسف ومن سوء الحظ تقول بعض الإحصائيات أن حوالي 95% من الناس يعيشون بما هو دون طموحاتهم، ويتقدمون بأقل من قدراتهم بكثير، ويواجهون مصاعب في معظم المجالات، وأن حوالي 5% فقط هم الذين يعيشون وفق طموحاتهم، وهم المؤثرون في العالم.
وأورد “كين روبنسون” -وهو استشاري- كلَّفتْه “الحكومة البريطانية” عام 1997 بإجراء دراسات عن الإبداع والاقتصاد والتعليم، في كتابه “صناعة العقل”: “إن السبب الرئيس في هدر الطاقات أثناء فترة التعليم، يكْمُن في العقلية الأكاديمية التي تركز على تطوير الإمكانات المتعلقة بنواحٍ علمية معينة دون غيرها”. فهذا الجانب الأكاديمي يربط مفهوم الذكاء والقدرات على حد مجالات محصورة حصرًا، مما يؤدي بالحتمية إلى هدرٍ كبيرٍ من المواهب والطاقات لدى المتعلم، وهذا ثمن باهظ، لم يعد بالإمكان احتماله بعد الآن.
إن اكتشاف مواهب الطفل منذ الصغر، ورعايتها من طرف أسرته، ومدرسته، وتشجيعه من طرف المجتمع جديرة بأن تُكوِّن لنا جيلًا مُبدعًا، ومُتميزًا في تخصصه. كما يقول “نابليون هيل”: “الحلقة المفقودة في كل أنظمة التعليم المعروفة للحضارة اليوم، تتجلى على الأحرى في فشل المؤسسات التعليمية في تعليم الطلاب كيف يُنظمون، ويستخدمون المعرفة بعد حصولهم عليها”. كتاب: فَكِّر وازدد ثراءً، صـ 66.
وكما تقول القصة في كتاب “الأب الغني والأب الفقير”، حينما سأل الابن أباه الفقير: أبي، لماذا لم تصبح ثريًّا حتى الآن؟ .. فأجابني: ذلك لأنني اخترت أن أسلك مجال التدريس، والمعلمون لا يفكرون حقيقةً في الثراء؛ إذ نحب التدريس وحسب. وأتمنى لو كنت أستطيع تقديم العون لك، ولكنني لا أدري كيفية جني المال”. روبرت.ت. كيوساكي، الأب الغني والأب الفقير، صـ13.
لذلك الأشخاص الذين لا يكتشفون مواهبهم وقدراتهم؛ غالبًا ما يقضون حياتهم في صراع ومعاناة، لأنهم يقضون معظم حياتهم في وظائف وأعمال لا تتناسب مع نقاط قوتهم، ومجالات تفوقهم.
لذلك “عندما تركز معظم وقتك وطاقتك على القيام بالأشياء التي تتفوق وتتألق فيها حقًّا، فسوف تجني مكاسب ومميزات كبيرة في آخر الأمر. وهذه حقيقة أساسية، وهي ضرورية للغاية لنجاحك المستقبلي”. جاك كانفيلد، قوة التركيز، صـ 43.
كان ينبغي الاشارة إلى ان القصة الواردة من كتاب الأب الغني و الأب فقير وردت في سياق الدعوة الى احراز أكبر قدر من المال و هذه هي رسالة الكتاب المذكور الأساسية وليست الدعوة فيه إلى أن يمارس الانسان ما يحب أو ما يجيد