قوة التفاصيل: كيف تستثمر القليل وتحقق الكثير؟

ما أكثر ما نخطئ حينما نظنّ الإنجازات العظيمة هي وليدة القرارات الكبيرة، والحقّ أن التاريخ يهمس بأن الإنجازات العظيمة تنبت في تربة التفاصيل الصغيرة. تلك التفاصيل هي اللَّبنات الخفية التي تصنع الفارق بين النجاح والفشل، وبين إتقان العمل والإخفاق. حين نقرأ لغة التفاصيل في حياتنا، نرى كيف أن كثيرًا منها أحدث تغييرًا هائلًا في حياتنا.

 تُرى، كيف يمكن لإتقان التفاصيل البسيطة أن تصنع التميز وتساهم في الإنجازات العظيمة؟ وكيف إذا أُهملت كانت سببًا للإخفاق والفشل؟ هذا ما نستكشفه سويًا في هذا المقال.

لا تحقرن من المعروف شيئًا

لا تحقرن من المعروف شيئًا

كثير من الناس يَتَهَيَّبون مواقعة الأمور العظام، ويحذرونها، ويستعدون لإنجاز الأعمال الشاقة، ويتحملون ذلك، ولكنهم لا يلتفتون لصغار الأمور وتفاصيلها، بدعوى أنها غير مهمة، والتفريط فيها لا يترتب عليها عواقب وخيمة!!

لكن المتأمل في أحكام الإسلام وتشريعاتها، يجدها تهتم بأصوله، كما تهتم بفروعه، تُولي العناية للكليات، كما تهتم بالجزئيات، وإن كانت متفاوتة في الأجر والثواب. قال الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ ۖ وَإِن تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِن لَّدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا} [سورة النساء: 40].

«قوله تعالى: {إن الله لا يظلم مثقال ذرة} أي لا يبخسهم ولا ينقصهم من ثواب عملهم وزن ذرة بل يجازيهم بها ويثيبهم عليها. والمراد من الكلام أن الله تعالى لا يظلم قليلًا ولا كثيرًا، كما قال الله تعالى: {إن الله لا يظلم الناس شيئًا} [يونس: 44]. والذرة: النملة الحمراء، عن ابن عباس وغيره، وهي أصغر النمل. وعنه أيضًا رأس النملة».1

والاهتمام بالتفاصيل جزء من كمال الإيمان وصدقه، وهو دليل على حب المسلم لدينه وحرصه على تطبيقه كما أراده الله، وتحقيق الخير لنفسه ولمجتمعه. فكما جاء في الحديث: ((عَنْ أَبِي ذَرٍّ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ لي النبي صلى الله عليه وسلم: لا تحقرن من المعروف شيئًا، ولو أن تلقى أخاك بوجه طلق)) [صحيح مسلم: 2626].

إيّاكم ومحقرات الذنوب!

كما يُحَذِّر الإسلام من كبائر الذنوب، كما يُحذر من صغائرها ومحقراتها. ومثال ذلك: ((قَالَ رَسُولُ اللهِ  صَلَّى اللهُ  عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إيَّاكُم ومحقَّراتِ الذُّنوبِ فإنَّهنَّ يجتمِعنَ على الرَّجلِ حتَّى يُهلِكنَهُ كرجلٍ كانَ بأرضِ فلاةٍ فحضرَ صنيعُ القومِ فجعلَ الرَّجلُ يجيءُ بالعودِ والرَّجلُ يجيءُ بالعودِ حتَّى جمعوا من ذلِكَ سوادًا وأجَّجوا نارًا فأنضجوا ما فيها)) [مسند أحمد: 3818].

«حذر النبي صلى الله عليه وسلم أمته من الذنوب كلها صغيرها وكبيرها؛ لأنه إذا كانت الكبائر ظاهرة، وأثرها واضحًا، فإن صغائر الذنوب قد تكثر في فعل الإنسان دون أن يشعر، فتصبح مهلكة له.

لأنها أسباب تؤدي إلى ارتكاب الكبائر، فصغار الذنوب تجر بعضها بعضًا حتى تهلك المرء إذا لم يُكفّر عنها “كمثل قوم نزلوا أرض فلاة”، أي: ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم مثلًا طلبًا لمزيد من الفهم، بقوم نزلوا صحراء، “فحضر صنيع القوم فجعل الرجل ينطلق فيجيء بالعود والرجل يجيء بالعود”، والعود هو صغار فروع الأشجار الجافة “حتى جمعوا سواداً”، أي: كمًا كبيرًا “فأججوا نارًا” بإشعالها “وأنضجوا ما قذفوا فيها” أي: أنضجوا ما وضعوه في النار كالطعام وغيره، أي: أن الصغائر إذا انضمت وتراكمت استعظم أمرها، وكان وبالًا على صاحبها».2 ولأن اعتيادها يؤدي إلى ارتكاب الكبائر، فمن حام حول الحمى يوشك أن يقع فيه، فيكون الهلاك بالكبائر التي تؤدي إليها الصغائر. 

ومن أعظم مصائب هذه المحقرات أن اعتيادها يؤدي إلى قلة المبالاة بها، وأنها تُظلِم القلب وتُسوِّده، إذا لم يتب منها صاحبها، ويستغفر الله تعالى.

وكما قال الشاعر:

خَلِّ الذُنوبَ صَغيرَها … وَكَبيرَها فَهوَ التُقى
كُن فَوقَ ماشٍ فَوقَ أَر … ضِ الشَوكِ يَحذُرُ ما يَرى
لا تَحقِرَنَّ صَغيرَةً … إِنَّ الجِبالَ مِنَ الحَصى

خواطر صغيرة تقود إلى عادات كبيرة!

الاستهانة بالخواطر -التي تبدو صغيرة- واستدعاؤها للنفس والركون إليها والاستئناس بها، فيه خطر عظيم، كما قال ابن القيم: «وأما الخطرات فشأنها أصعب، فإنّها مبدأ الخير والشرّ، ومنها تتولّد الإرادات والهمم والعزائم. فمن راعى خطراتِه ملَكَ زمامَ نفسه، وقهر هواه. ومن غلبته خطراتُه فهواه ونفسه له أغلَب، ومن استهان بالخطرات؛ قادته قسرًا إلى الهلكات».3

إذن الخطرات الصغيرة قد يستهين بها المرء، فتتولد إرادات وهمم وعزائم، يصعب التخلص منها؛ لذلك ينصح ابن قيّم الجوزية بقوله: «دَافع الخطرة فَإِن لم تفعل صَارَت فكرة، فدافع الفكرة، فان لم تفعل صَارَت شَهْوَة، فحاربها فَإِن لم تفعل صَارَت عَزِيمَة وهِمَّة، فَإِن لم تدافعها صَارَت فعلًا، فَإِن لم تتداركه بضدّه صَار عَادَة، فيصعب عَلَيْك الِانْتِقَال عَنْهَا».4 

ومثال ذلك استهانة كثير من الناس بالنظر إلى ما حرم الله، واعتبار ذلك شيئًا هينًا، مما قد يتولد عنه الحسرات «والنظر أصل عامّة الحوادث التي تصيب الإنسان، فإنّ النظرة تولّد خطرةً، ثم تولّد الخطرة فكرةً، ثم تولّد الفكرة شهوةً، ثم تولّد الشهوة إرادةً، ثم تقوى فتصير عزيمةً جازمةً، فيقع الفعل، ولا بدّ، ما لم يمنع منه مانع. وفي هذا قيل: الصبر على غضّ البصر، أيسرُ من الصبر على ألم ما بعده.

كما قال الشاعر:

كلُّ الحوادث مبداها من النظرِ … ومعظمُ النار من مستصغَر الشررِ
كم نظرةٍ بلغت من قلب صاحبها … كمبلغ السهم بين القوس والوتَرِ»5

لا تُهمل التفاصيل الصغيرة في حياتك اليومية

لا تُهمل التفاصيل الصغيرة في حياتك اليومية

يُحكى أن كارثة تَحَطُّم مكوك الفضاء تشالنجر (Space Shuttle Challenger disaster)‏ التي وقعت في 28 يناير 1986م، عندما أطلقت ناسا مكوك تشالنجر في رحلة الفضاء، فانفجر المكوك بعد إطلاقه بـ73 ثانية، مما أدى إلى مقتل جميع أفراد طاقم المكوك السبعة ودُمِر المكوك فوق المحيط الأطلسي قبالة ساحل كيب كانفرال في ولاية فلوريدا جنوب شرق الولايات المتحدة، تَسَبَّب في حدوثها عدم إحكام غلق حلقة دائرية، قَدَّر الخبراء قيمتها بسبعين سِنْتًا. لقد تسببت تفصيلة بدت تافهة في نهاية مروعة لحياة أشخاص.كما أن جُزئيًا واحدًا من الرواسب لو علق بمحرك مركبة السباق فورمولا 1 (Formule 1) قد يكلفهم خسارة السباق بكامله، أو الأسوأ من ذلك، وقد يُنتج عنه خسارة حياة، فعليًا.

«إن اتخاذ قرار أفضل بنسبة 1% أو أسوأ يبدو عديم الأهمية الآن، لكن على مدار اللحظات التي تؤلف عُمرًا، فإن هذه الخيارات تُحدِد الفارق بين ما أنت عليه الآن، وما يمكنك أن تكُونَه. فالنجاح نِتاج للعادات اليومية، وليس التحولات التي تحدث مرة واحدة في العمر».6                                                                              

وكما تقول الحكمة اليابانية: بسبب مسمار ضاعت حدوة الحصان، وبسبب حدوة الحصان ضاع الحصان، وبسبب الحصان ضاع الفارس، وبضياع الفارس لم تصل الرسالة، وبسبب ضياع الرسالة خسرنا الحرب!

استراتيجية “المكاسب الصغيرة”

«يُعد أسلوب “المكاسب الصغيرة” من الطرق الفعالة التي تساعد على التحلي بالمرونة. فالأهداف الكبيرة تبدو بعيدة المنال، وغالبًا تتفترعزيمة الناس حتى قبل البداية في سبيل تحقيقها. من اللطيف أن نحلم في الحياة حُلمًا كبيرًا، ولكن حين يكون الحلم كبيرًا يرهبنا أحيانًا حجمه. وأفضل الطرق للتعامل مع هذا الشعور هي أن نُركِّز على الأهداف الصغيرة السريعة التي تؤدي إلى نجاح يمكن قياسه بالنسبة للهدف الأكبر».7

لذلك تجد شركة صناعة الأغذية تستعين بخبراء في المجال، من أجل التدقيق في أدق التفاصيل في الأغذية التي تصنعها من أجل جذب المستهلكين، مثل  لون الطعام أو المشروب، ونسبة الأملاح والدهون، والسكريات والبروتينات فيه، وغيرها من المكونات التي تستحث دماغ المستهلك، وتجعله يرغب فيه مجددًا.
والاستهانة بصغائر الأمور قد يُودي بحياة المرء «بَيْد أن المرء الذي يخشى على حياته أن يتناول جرعة كبيرة من السم -لوضوح خطرها- قد يستهين بتناول أجزاء دقيقة منها تكون مطوية في أطعمة مكشوفة، أو أطباق قذرة، أو أيدِ ملوثة، أو ما شابه ذلك. ومن ثَمَّ يصيب بدنه من العلل ما قد يُودي به، مثلما تُودي به رصاصة قاتلة، أو طعنة غادرة».8 

العادات الذرية تصنع الشخصية

العادات الذرية تصنع الشخصية

شخصية الإنسان في نهاية المطاف هي نتيجة مجموعة من العادات الذرية والصغيرة التي اكتسبها مع مرور الزمن، والعادات عند التحقيق كانت في بدايتها مجرد خواطر، فإذا كانت خواطر سيئة أنتجت عادات سيئة = شخصية سيئة. وإذا كانت خواطر حسنة، أنتجت عادات جيدة = شخصية جيدة.

«فالعادات أشبه بذرات حياتنا. وكل عادة تُعَدُّ وحدة جوهرية تُسهم في تَحَسُّنك الإجمالي. في البداية تبدو هذه العادات الروتينية البسيطة غير مؤثرة، لكن سرعان ما تتراكم على بعضها، وتُشكِّل نواة مكاسب أكبر تتعاظم وصولًا إلى درجة تفوق تكاليف الاستثمار المبدئي المبذول فيها. فهي صغيرة وقوية في الآن عينه».9 

خذ مثالًا عادة “القراءة” لو بدأت بقراءة 10 صفحات يوميًا، وهي عادة صغيرة، فإنك تستطيع قراءة كتاب من حجم 300 صفحة كل شهر، والنتيجة كما يقول “جاك كانفيلد” إذا قرأت كتابًا واحدًا كل شهر، في النشاط أو المجال الذي تعمل فيه، ففي عشر سنوات تكون قد قرأت مائة وعشرين كتابًا، وهو الأمر الذي سوف يجعلك من الصفوة في مجالك.10

وكما يقول “روبن شارما”: «التحسينات اليوميّة الصَغيرة إنْ تمّت على نحوٍ مُستمر سَتؤدي بِمرور الوَقت إلى نتائجَ مُدهشة».11

ومن هنا، فإننا لسنا بحاجة إلى خطواتٍ كبيرة فحسب، بل إلى نفس لها موهبة إتقان الأشياء الصغيرة، وعينٍ لا تزدري ما يبدو عاديًا، وذهنٍ يُدرِك أن الطريق إلى التميز والإبداع، ليس طريقًا مفروشًا بالإنجازات الكبيرة، بل بآلاف التفاصيل التي تشكّل في مجملها الإطار العام لتلك الإنجازات.

الخاتمة.. عبرة من الخنافس

قص علينا “ديل كارنيجي” في كتابه (لا تقلق) حكاية شجرة ضخمة نبتت منذ أربعمائة عام، وخلال حياتها أصابها البرق أكثر من أربع عشرة مرة، ومرات لا تُحصى من العواصف والرعد. ولكنها نجت منها جميعًا، وفي النهاية هجم عليها جيش من الخنافس وسقطت على الأرض، فقد وجدت الحشرات طريقًا إلى داخل اللِّحاء، وبالتدريج دمرت قوتها الداخلية بهجومها الضئيل المتواصل، فعملاق الغابة التي لم يَذْوِ عمرها الرعد ولا البرق ولا العواصف، تمكنت منها الخنافس الصغيرة الضئيلة التي يمكن للإنسان سحقها بين يديه.12

ومن الدروس المستفادة من القصة: 

  • أحيانًا لا يكون الخطر الحقيقي في المصائب الكبرى التي تواجهنا، بل في المشاكل الصغيرة والمتكررة، التي إذا أهملناها وتراكمت مع الوقت، قد تضعفنا وتؤذينا أكثر من الكوارث الكبيرة التي يمكن أن نواجهها ونتغلب عليها.
  • ما يهدم الإنسان ليس دائمًا ما يأتي من خارجها، بل ما يتسلل إلى داخلها ببطء ويعمل على إضعافها من الداخل، مثل القلق، والحسد، والغضب، والمشاكل الصغيرة التي لا نجد لها حلولًا، فهي تستنزف القوى الداخلية بطريقة لا نحس بها إلا بعد فوات الأوان.
  • لا تستهن بالمشكلات الصغيرة: تجاهل المشكلات الصغيرة أو الاستخفاف بها قد يؤدي إلى تراكمها وتحوّلها إلى مشاكل كبيرة يصعب السيطرة عليها لاحقًا.
  • القوة وحدها لا تكفي إن أهملنا التفاصيل الصغيرة: حتى القوي يمكن أن ينهار إن لم ينتبه للجوانب الصغيرة في حياته أو عمله؛ فالقوة الظاهرية قد تخفي ضعفًا متناميًا في العمق.كما أن الشجرة القوية من الخارج هزمتها الآفات من الداخل، كذلك الإنسان قد يبدو قويًا في مظهره، لكنه مستنزف داخليًا بالهموم والأوجاع الصغيرة.

فلنعلم إذن، أن كل عظمة تبدأ من نقطة، وكل رحلة من خطوة، وكل إنجازٍ كبير يبدأ من التفاصيل الصغيرة التي لا يراها إلا الموهوبون والمبدعون الذين يهتمون بأدق التفاصيل، فربما تلك التفاصيل هي الفرق الذي يصنع الفارق في الإنجازات العظيمة.

الهوامش

  1. القرطبي أبو عبد الله، الجامع لأحكام القرآن، تحقيق: أحمد البردوني وإبراهيم أطفيش، دار الكتب المصرية – القاهرة، الطبعة: الثانية، 1384 هـ – 1964م، ج5/195. ↩︎
  2. موقع الدرر السنية. ↩︎
  3. ابن القيم الجوزية، الداء والدواء، ص353. ↩︎
  4. ابن القيم الجوزية، الفوائد، ص31. ↩︎
  5. ابن القيم الجوزية، الداء والدواء، ص351. ↩︎
  6. جيمس كلير، العادات الذرية، ص27. ↩︎
  7. سابرا إي بروك، الرجال يتجهون نحو الشرق، والنساء نحو اليمين، ص113. ↩︎
  8. محمد الغزالي، جدد حياتك، ص67. ↩︎
  9. جيمس كلير، العادات الذرية ص39. ↩︎
  10. جاك كانفليد، قوة التركيز، ص28. ↩︎
  11. روبن شارما، نادي الخامسة صباحا ص63. ↩︎
  12. ديل كارنيجي، لا تقلق ص110. ↩︎

د. لحرش عبد السلام

أستاذ باحث، وكاتب ومُدوِّن مغربي، دكتوراه في الدراسات الإسلامية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى