النموذج الفرعوني ليس في السياسة فقط

لعل مشاكل البشرية جميعًا تؤول إلى وتنبع من سيادة “النموذج الفرعوني” في كافة مناحي الحياة.. يبدو هذا الأمر واضحًا للغاية في نظام الحكم، فلقد سرد الله علينا في القرآن كيف يبلغ الطغيان بالفرد حتى يصير فرعونًا يدعي لنفسه الألوهية ويصيح في الناس (أنا ربكم الأعلى)..

وإذا واجهته مشكلة كان من أيسر الأمور عنده أن يقتل (وَقَالَ الْمَلأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ).

فالحاكم الفرعون يبلغ من الطغيان حدَّ أن يصدق كونه يملك الحياة والموت (إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ).

النظام السياسي الإسلامي

لذلك كان النظام السياسي الإسلامي قائمًا على أمور تمنع من هذه الفرعونية، منها:

1. تقوية المجتمع: بتغذية وتمتين روابط الرحم والجيرة فضلًا عن الرابطة الإسلامية العامة، لكي يكون المجتمع أقوى من نزوات الحاكم الفاسد وعاصمًا له من الظلم والاستبداد.

2. تقوية المجتمع: بالعبادات والتكاليف الشرعية التي تزيد من تماسكه وتلاحمه، بكثرة اجتماع الناس (الصلوات اليومية، الجمعة الأسبوعية، الحج والأعياد السنوية).. وبالعبادات والتكاليف الشرعية التي تجمعه على الخير مثل الزكاة والصدقات والأوقاف والتي تتحول بطبيعة الحال إلى مؤسسات ونظم يحافظ بها المجتمع على نفسه وتقاربه وتلاحمه، ويطور بها من نفسه ومؤسساته ومشاريعه الحضارية.

3. نزع التشريع من الحاكم وجعله لله، وجعل العلماء شركاء للحكام في مسمَّى “ولي الأمر”، وجعلهم مرجعية عليا للمجتمع والحاكم معًا.. وحيث لم يكن للعلماء في الإسلام تنظيم هرمي أو نظام كهنوتي فإن العلماء كانوا تيارًا حقيقيًا فاعلًا لا يمكن السيطرة عليه ولا تحجيمه ولا تنظيمه على نحو ما حدث في الكنيسة أو في الأنظمة الفرعونية.. وظل العلماء فاعلون في مقاومة تغول السلطة حتى انكسار المجتمع الإسلامي كله أمام الهجمة الغربية الحديثة.

وهذا النظام السياسي الإسلامي في تقوية جميع أطراف المجتمع يخالف ويناقض تمامًا النظام الغربي الذي يجعل السلطة هي المحتكر الوحيد لعوامل القوة، فيجعل السلطة هي الإله الحقيقي في المجتمع.. فيما تظل الأكثرية من الناس في حكم العبودية حقًا.. إما بالقهر (كما في حال الكنيسة والإقطاع قديمًا أو النظام الشيوعي حديثًا) أو بالخداع (كما في النمط الرأسمالي حديثًا).

النموذج الفرعوني

هذا النموذج الفرعوني الذي يبدو في السياسة، هو كذلك مرفوض في ميزان الإسلام في سائر المجالات الأخرى:
ففي مجال الاقتصاد، قضى الله بتعاليم في الزكاة والصدقات والإنفاق لأجل ألا يكون المال في يد طائفة قليلة من الناس (كي لا يكون دُولَةً بين الأغنياء منكم).. فنهى عن كل ما يفضي إلى ذلك كالربا والاحتكار والغش والتدخل بالتسعير في غير حال الضرورة.

وفي مجال العلم نهى الله عن كتم العلم و”احتكاره” بين الناس، فقال تعالى (إنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنْ الْبَيِّنَات وَالْهُدَى مِنْ بَعْد مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَاب أُولَئِكَ يَلْعَنهُمْ اللَّه وَيَلْعَنهُمْ اللَّاعِنُونَ) ويشتد هذا في وقت الحاجة والضرورة أو عند السؤال، قال النبي -صلى الله عليه وسلم-:

من كتم علمًا ألجمه الله بلجام من نار يوم القيامة.

والمقصود من كل ما سبق أن النظام الذي فيه “كتم” أو “احتكار” أو “أثرة” أو “استحواذ” على شيء يحتاجه الناس من دونهم هو نقيض المنهج الإسلامي في الحياة..

وأزمة أمتنا المعاصرة يكمن كثير منها في هذا الكتم والحجب.. فنحن ممنوعون من الاطلاع على تقنيات بعينها، وثمة أجهزة نحن ممنوعون من استيرادها واستخدامها، بل ثمة مكونات بعينها تستخدم في الأجهزة نحن ممنوعون من استيرادها..

وكذلك فإن ثمة جامعات ومراكز بحثية لا يدخلها الطلاب العرب والمسلمون في الغرب، وتصنف على أن ما يدرس فيها “أمن قومي”.. بل وفي مكتبة الكونجرس نفسها وثائق تتاح للجميع ما عدا الباحثون من بلاد بعينها في مواضيع بعينها.

ولهذا فإن انتشار “البرامج مفتوحة المصدر” هو فتح ورحمة على العالمين ضد الاحتكاريين وشركات البرمجة التي تستعبد الناس وتستغل حاجتهم وتمتص أموالهم، وربما صنعت هي الفيروس لتبيع الأنتي فيروس، ولربما لم تتقن المنتج لكي تبيع المنتج التالي الخالي من هذا العيب.. وأهل الاقتصاد يستطيعون سرد الكثير الكثير من هذه الألاعيب لسلب أموال الناس.

وكذلك انتشار العلم.. فإن كثيرًا من العلوم المادية بل والاجتماعية محجوبة عن أمتنا، ولقد حدثني أحد الأساتذة قبل أيام أن العالم العربي كله ليس فيه مكان يدرس العلوم الاستراتيجية إلا في جامعة نايف للعلوم الأمنية (فقط: العسكريون ورجال المخابرات في بلادنا هم من يدرسون هذا العلم) ثم إنه لا يوجد في كل العالم العربي مركز واحد متخصص في العلوم الاستراتيجية في حين يحفل العالم بـ 480 مركزًا منها 200 في أمريكا و90 في روسيا و 22 في إسرائيل و8 في إيران واثنان في تركيا! يعني حتى الجامعة الوحيدة التي يدرس فيها هذا العلم لا يدخلها إلا الأمنيون ورجال المخابرات!

هذا الانترنت نفسه من فتوح الله ونعمه الكبرى على الأمة، وبه تحقق لجميع الفاعلين فيها ما لم يكونوا يحلمون به، إن في تلقي العلم أو في العمل به أو في التعاون بين العاملين، أو في تلاقي الطاقات المتباعدة المتناثرة.

الخلاصة

وكي لا أطيل أكثر من ذلك فإن أهم ما في هذا الموضوع ثلاثة خلاصات:

1. إن الذين أتاح الله لهم أن يتعلموا علومًا لم توجد في بلادنا عليهم مسؤولية عظيمة في نقل هذه العلوم إلى أمتهم.. مسؤولية عظيمة ضخمة بعِظَم وضخامة الفارق بين التقدم والتخلف.. وبهذا وحده يتبين من عمل للآخرة ممن عمل للدنيا، ومن كان همه دينه وأمته ممن كان همه أمواله ومركزه.

2. إن أهل العلم من أمتنا (وأعنى أهل العلم المادي) عليهم أن يفكروا باتجاه تطوير العلوم بما يسمح بانتشارها واتساعها.. فعلى من يفكر في تطوير التسليح أن يفكر بمنهج “كيف يكون السلاح منتشرًا وسهلًا وميسورًا بين كل أفراد الأمة” (فبهذا تتحقق القوة المجتمعية والتوازن بين السلطة والناس).. وعلى من يفكر في تطوير البرامج أن يفكر باتجاه نشر وتيسير وسائل البرمجة وإنشاء هياكل عامة تصلح للاستخدام في مجالات متعددة، وعلى من يعمل على تطوير العلوم أن يفكر باتجاه استعمال المواد والخامات الموجودة في البيئة الطبيعية وبين الناس بحيث يكون هذا التطوير في متناول الجميع.

وهنا أتوجه بالشكر مرارًا وتكرارًا وليلًا ونهارًا وفي كل ساعة لكل من يصور كتابًا ويرفعه على الانترنت فيتيحه لخلق الله جميعًا ويكسر احتكار دور النشر البغيض، فينفع بذلك ما لا يعلمه إلا الله.

3. أن أي تطوير علمي أو اقتصادي أو اجتماعي لن ينجح في ظل منظومة سياسية فرعونية.. فالنظام السياسي هو دائمًا أهم ما في الأنظمة والمجتمعات، وهو العامل الأهم والأخطر والأكبر، ودوره في التأثير والتغيير يفوق كل تأثير آخر. قال عثمان بن عفان رضي الله عنه: “إن الله يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن”.. وقالت العرب: “الناس على دين ملوكهم”.. ولم يتطور مجتمع قط إلا بعد أن تولى أمره المخلصون له، وكانت بدايات نهضات الأمم ثورات على الحكام الفاسدين والعملاء.. ولم تتقدم أمة يحكمها مفسد أو عميل.

محمد إلهامي

باحث ومؤرّخ في التاريخ والحضارة الإسلامية، كاتب بعدد من الدوريات العربية ومهتم بالشأن الإسلامي.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى