قراءة في محددات شرعية النظام الحاكم ودور الوعي في الفكر السياسي
السياسية في ظل الدولة؛ هي فعل شيء من الحاكم لمصلحة يراها، تقع الاستفادة منها على عموم الشعب، نعم هنا يتجلى الفهم الحقيقي للسياسة للإمام والحاكم، يوم أن تكون الدولة مستقلة بقرارها؛ وليست مرتهنة بصفقات سياسية واتفاقيات أمنية، ناتجة عن تحالفات سياسية وعسكرية أو اقتصادية، هدفها تركيع الشعوب وتجويعهم ليبقى الحاكم على رأس الدولة، فمن الواجب ألّا يكون رأس الدولة ومؤسساته تابعة للنظام الدولي الجديد، لأن النظام الدولي الجديد صيغت أهدافه لإلغاء المصلحة العامة الذي يراها الراعي أو الحاكم فيها مصلحة لرعيته، فالأصل في سياسة الراعي، أن تكون المصلحة العامة والعليا تحقيق شؤون الرعية، وهي الهدف الأساسي بل جوهر سياسته ونظام حكمه.
لكن أي حاكم أو راعي فعل ذلك في وجود التغول للنظام الدولي الجديد، تناوبت عليه قوانين النظام الدولي الجائر، والتي تعتاش على الاستبداد والظلم والقمع؛ ليبقى كل قطر تحت السيطرة، فلابد أن تعمل أقطار الأمة حكاماً ومجتمعاً؛ على حالة الاستقلالية من التبعية للنظام الدولي المهيمن على مقدرات الأمة، وليعملوا كل الساسة على تدبير ورعاية وتأديب وإصلاح الأمر، إن رأس إصلاح الأمر اليوم يتجلى في الانعتاق من النظام الدولي الجديد والتي تحتله الحركة الصهيوأمريكية، إن السياسة وأنظمتها، وعلى رأسهم قادتها وحكامها، يجب أن تُعلي مصلحة شعوبها ورعايتها رعاية أمينة، وتعمل على أن تكون عباد لله ليس لليهود والأمريكان، وأن جُلَ إصلاحُ الأمر، أن تستقل استقلالٌ تامٌ بمصلحتها العامة عن مصلحة النظام الدولي الجديد، وأن تتطلع للمصلحة العامة؛ وإقامة العدل والإحسان، وعدم الظلم للمجتمع والشعب، فهي خطوة البداية في إصلاح الأمر.
إن النظام الجديد لا يعمل من أجل الأمة العربية والإسلامية، بل يعمل لتكريس سطوته على بلاد الإسلام والمسلمين، فمن أبرز أهدافه هو السيطرة على ثروات الأمة العربية والإسلامية، لذا يعتبر مقدرات الأمة الإسلامية وثرواتها هي ملكاً له، فيَعمُد النظام الدولي الجديد لإدارة الحروب في منطقتنا، ليتسنى له فرض الوصاية من خلال قرارات تجمع بالإجماع؛ أو أن يتم تمريرها بسطوة السلاح، أو التدخل الناعم ليجمع القوى الغربية لتؤيد ما يتم إقراره في الأمة، وعليه استطاع أن يفرض حالة من التبعية له في كثير من الدول العربية والإسلامية، واستطاع أن يقوم بتدريب مؤسسات الدولة الحامية لحكامها وأنظمتها، وخاصة المؤسسات الأمنية في الوطن العربي والإسلامي.
فيبرم النظام الدولي الاتفاقيات الأمنية السرية منها والعلنية؛ للحفاظ على مشروعه المسمى الصهيوأمريكي، من خلال أجهزة أمنية تفي بالدور المناط لها في المنطقة، فعلى سبيل المثال اختراع محاربة الإرهاب مصطلح فضفاض، يطول كل من يعي الحقيقة ويستند للفهم الإيماني للقرآن الكريم ولو بشيء قليل، ويطال كل من لم يرضى بالظلم والاستبداد من الراعي والحاكم، وكل من يرشد الأمة لمصلحتها العليا الذي جاء الحاكم أصلا بناء عليها، ليكون أجيرا عند شعبه؟
ليتحول الحاكم إلى دكتاتور يعمل من أجل بقائه على العرش ومتنفذ لدى شعبه، ويجعل الشعب خادمًا لمصالحه ومصالح بطانته، وهنا يستعين بمفاعيل القوى وعلى رأسها أمريكا الذي ترعى اليهود وتقدم حمايتهم في مشروع متكامل وخطة محكمة، فيلجأ للتحالف معها ليحافظ على عرشه وكرسيه، ومن ثم يدخل في الاتفاقيات والمعاهدات والقوانين التي رسمت بإحكام لتقيد حكام العرب والمسلمين، ليصبحوا أسرى في النظام الدول الجديد، وهنا تكون مشروعية الحاكم باطلة لسقوط شرط مشروعيته وهو العمل لمصلحة شعبه وتحقيق العدل الذي جاء حاكم من أجله، فمشروعية أي حاكم اليوم لدى شعبه هو الانعتاق من النظام الدولي الجديد والانفلات من سطوة المشروع الصهيوأمريكي في المنطقة، ليحقق شرط مشروعيته في إدارة شؤون رعيته وشعبه.
يقول ابن القيم:”ومن له ذوق في الشريعة، وإطلاع على كمالاتها، وتضمنها لغاية مصالح العباد في المعاش والمعاد ومجيئها بغاية العدل الذي يسع الخلائق، وأنه لا عدل فوق عدلها، ولا مصلحة فوق ما تضمنته من المصالح، تبين له أن السياسة العادلة جزء من أجزائها وفرع من فروعها، وأن من له معرفة بمقاصدها ووضعها، وحسن فهمه فيها؛ لم يحتج معها إلى سياسة غيرها البتة، فإن السياسة نوعان: سياسة ظالمة فالشريعة تحرمها، وسياسة عادلة تخرج الحق من الظالم الفاجر، فهي من الشرعية، علمها من علمها وجهلها من جهلها’، إلى أن يقول: ‘فلا يقال: إن السياسة العادلة مخالفة لما نطق به الشرع، بل هي موافقة لما جاء به، بل هي جزء من أجزائه، ونحن نسميها سياسة تبعًا لمصطلحهم، وإنما هي عدل الله ورسوله”.
الخطة السياسية وعلاقتها بمكونات الفكر السياسي
لا حظنا مما تقدم، أن الفهم السياسي وإدارة نظام سياسي، يحتاج لخطة سياسية واضحة، تبدأ من فهم عناصر ومكونات النظام السياسي*، والمتمثلة بالثابت (الشريعة) والمتحول (الواقع) والمتجول أو المتحرك (المعطيات السياسية)، الهدف منه المصلحة العليا العامة، ويقاس بإنشاء الخطة السياسية، والتي من أجلها يسوس السياسيون الأمر، فتتجلى الحكمة والمبادئ الإسلامية (الأخلاق) في ربط مكونات العملية، كفاصل لتحقيق مصلحة عامة، تضمن نتائج أفضل مما كان عليه حال الواقع، فالخروج عن استبعاد أي مكون من مكونات العملية السياسية المذكورة آنفاً، أو النظر للأهداف الشخصية، وترك الهدف العام كمصلحة جامعة وعامة، أو إتباع الهوى النفسي لتعصب قومي، أو قطري، أو قبلي، أو حزبي أو التنظيمي، يشكل عامل ضار بالقرار السياسي؛ لما ينتجه من الإضرار العام بمصلحة المجتمع، فيكون ارتكب مخالفة للسياسة الشرعية، والتي تسبب إعطاء فرصة للعدو من التمكن وبسط سيطرته.
فالقرار السياسي يعتمد على أن يكون المتحول أي الواقع، يوافق نتائج الثابت أي الشريعة، على أن يستخدم المتجول أي المعطيات السياسية؛ في خطة سياسية محكمة، هدفها الأكبر ألّا يترتب مفسدة أكبر من الواقع الأصلي، ويتجلى هدفه في تحقيق المنفعة العامة كمصلحة رافعة لواقع الحال، مما ينتج متحرك جديد من المعطيات السياسية، والتي تستخدم في تطوير رافعة جديدة للمصلحة العامة، والتي تحقق إفشال جديد لخطط العدو، وبناء واقع يرقى على المواجه، وإسناد ذلك بكل العوامل لإنجاح الخطة السياسة، مما تنتج فعل سياسي يجابه تحديات العدو، والثبات على ما تم انجازه، كما أن الفعل السياسي هو الضامن لعدم الرجوع للخلف، وتدمير المنجز السياسي، وتكون أعمالنا تصب في مصلحة العدو، وهنا نحتاج لتقييم وتقويم.
فالشريعة الإسلامية، هي شريعة الله، مورد لمن شاء أن يرتوي إيماناً وخلقاً وحكماً، وهو مورد ظاهر معين لا يبعد على طالب، ولا ينأى عن راغب وهي طريق مستقيم، لا عوج فيه ولا أمت، فعليه تكون الشريعة الناظم بين المتحول (الواقع)، والمتحرك (المعطيات السياسية)، لتشكل الإطار الحامي للقرار السياسي، معتمداً على الخبرة، ودراسة الواقع الذي يسمى فقه الواقع، أي تفاصيل الواقع بكليته مع استنباط واستنتاج المعطيات السياسية؛ لكل واقع مدروس، أو ما نتج من معطيات غير محسوبة من طرف الأعداء؟
إن أعظم الخطط السياسية هي التي تبني نفسية عقلية، وآليات تفكير، تنصب نحو تحقيق الهدف العام؛ للمصلحة الجامعة بين شرائح المجتمع، والتي تكون أساسها إقامة العدل والإحسان، ويتجنب الفهم السياسي بناء النفسية العقلية المرتهنة بأهدافها الخاصة، أو تحقيق مصالحها الشخصية، هذا ما أطرحه؛ هو جوهر وحقيقة السياسة الشرعية، والتي تقف حائلاً لبناء نفسية عقلية لا تتساوق مع أهوائها، وإن حَدَثَ يكون تجاوز للفهم السياسي الشرعي، فلربما تنجز في وقت قريب، فسيكون انجازها عائقٌ في طريق تحقيق المصلحة العامة، بل لربما تكون انجازاتها تصب في خدمة أعدائها، وفعلها السياسي الذي يحقق ممارستها السياسية تقع في طريق مسدود أو مصير مجهول تدفع ثمنه من دماء رعيتها.
يقول الدكتور يوسف القرضاوي: “إن السياسة الشرعية هي السياسة القائمة على سياسة الشرع، وأحكامه، وتوجيهاته، فليس كل سياسة نحكم عليها بأنها شرعية، فكثيرٌ من السياسات تعادي الشرع، وتمضي في طريقها وفقًا لتصورات أصحابها وأهوائهم…”، ومن هنا وجب على حكام الدول العربية الإسلامية أن يستجيبوا لتصورات الدين وأحكام الشريعة ويبنوا سياستهم على أن تكون أهوائهم تبعاً لما جاء به سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم.
الوعي السياسي وعلاقته بالفكر السياسي
إن الفكر السياسي الواعي، والذي يعتمد على جمع المعلومات وتفنيدها، ووضع خطة لتنفيذها، لا يختلف مع الاعتماد على الله، وأن النصر بيد الله، فأعتقد أن الارتباط بالواقع وفقهه، والاعتراف على الصعيد العقلي في واقعنا اليوم، بأن الموازين الدولية موجودة كالنظام الدولي العنصري، فإنه يساعد في عمل الخطة السياسية، والتي تعتمد على تفنيد الأحلاف، وتحديد المحايدين، واستهداف الأعداء، وتجنب بعض الخصوم، فهو وعي حقيقي لمكون أساسي وهو المتحول من الواقع وتحليل المعطيات السياسية، فهو قمة السياسة لحل القضايا… فنجد أن السياسة عند الإسلاميين، ما زالت لا تعي حقيقة المعادلة التي تم طرحها، وهي ادراكات الفهم لكل من الثابت والمتحول والمتحرك، فهناك من تعلم وهناك من بقي يجهل مقاصد السياسة الشرعية، فإذا ما طرحت قضية لم تكن في صالحنا، خونوا القائمين عليها وأصابتنا أمراض الاستعلاء والإقصاء، واحتقار الآخرين، مما زاد في تراكمية الفعل السياسي غير الناضج، والذي ينعكس بممارسات لا ترقى لتحقيق الهدف المنشود، واستزادة في فعل سياسي يمضي في طريق مسدود.
استطاع النظام الدولي الجديد، والحركة الصهيوأمريكية الأكثر استيلاء عليه، أن تستفيد من الإسلام السياسي؛ الذي يبنى الانفصال التام عن مكون الدين، ويبني نفسية عقلية بعدم تقبل المسلمين، على خلاف الفهم الذي نطرحه، بتعانق مكونات الفكر السياسي الذي يرقى بصون جميع حقوق عوام المسلمين، ليحقق المصلحة العامة! فالإسلام السياسي من أكبر مشكلاته لم يتجاوز الحزبية والفئوية.
في ظل اتحاد كامل لقوى التحالف الشرقي والغربي بقيادة صهيوأمريكية، لتنزع من عموم المسلمين صدقية الإسلام وفطرة العقيدة، الذي يعتبر أي تعدي على حقوق المسلمين، واجب على الكل الإسلامي الوقوف أمامه، والذي يرقى ليكون فعل سياسياً، مستندًا لفعل عملي هادر، يقلع كل من يسيء للمصلحة العامة للمسلمين، إن هذا الفهم يرقى ليوحد النموذج العام للفهم السياسي، الذي ينتج ممارسة سياسية، لا تقبل بالهيمنة والغطرسة للأعداء، وتبني فكراً سياسياً موحداً ضد العدو الرئيس، وتجمع كل معطياتها السياسية، للوقوف أمام الاستبداد الظالم والناخر في الأمة.
فعلى الجماعات الإسلامية ألّا تبني العقول على جزئيات فكرية، لها دلالات إسلامية سطحية، بل تبني على النظام الشامل المتكامل العميق المتكامل للإسلام… الذي يحفظ حق عموم المسلمين في المواجهة، لا يعمل على فصل الأمة عن أحقية الصراع، ولهذا يتطلب من الخطة السياسية، تفعيل طاقات وقدرات عموم المسلمين، لإيجاد فرصة التلاحم بالمعرفة والوعي، وإدراك خطة الفكر السياسي، وإدراك حقيقة العدو وأحلافه، حتى لا تقع فريسة التغرير لعملاء النظام الدولي الجديد، إن الإسلام السياسي تجرد من فهم المعادلة، والمنظومة الكلية التي نطرحها، وبالتالي لربما في لحظة من اللحظات يكون دوره وظيفياً ولاعباً أساسياً لصالح الأعداء، فاليقظة مطلوبة والتقييم والتقويم مهم.
وقال ابن تيمية:”قصة الخضر مع موسى لم تكن مخالفة لشرع الله وأمره ، … بل ما فعله الخضر هو مأمور به في الشرع بشرط أن يعلم من مصلحته ما علمه الخضر؛ فإنَّه لم يفعل محرما مطلقا، ولكن خرق السفينة وقتل الغلام وأقام الجدار؛ فان إتلاف بعض المال لصلاح أكثره هو أمر مشروع دائما ، وكذلك قتل الإنسان الصائل لحفظ دين غيره أمر مشروع … فهذه القضية تدل على أنَّه يكون من الأمور ما ظاهره فساد؛ فيحرِّمه من لم يعرف الحكمة التي لأجلها فعل، وهو مباح في الشرع باطناً وظاهراً لمن علم ما فيه من الحكمة التي توجب حسنه وإباحته…”، فالربط بين مكونات الخطة ومعرفة نتائجها شيء رئيس لتحديد النتائج الشرعية، والتي تغيب عن أذهان عموم المسلمين، وبالتالي يجب استحسان النتائج لتصب في مصلحة العموم.