أثر الحياة الاجتماعية على اللهجات العربية

ها هو موسم الحج قد أتى يتسابق العرب إليه زرافات ووحدانا؛ بغية التشرف بزيارة الكعبة وما حولها مع بعض الأهداف التجارية والاجتماعية الملحقة بالزيارة، لو صعدت جبل الصفا فسترى الآن قوافل جمة من مختلف البقاع: أهل العراق والشام واليمن وقراها وبطونها وقبائلها محملة بنتاج هذه البلاد، وعلى رأسها أعلامهم وأشرافهم، لا تنزل عن الجبل ظلّ مكانك حتى تصل القوافل ويبدأ الالتقاء والتواصل بين تلك القبائل، وراقب أهل البادية خصوصا، ألا تسمع؟!

أنصت قليلا، أهل البادية ما بهم يَميلون إلى إمالة الكلمة بدل فتحها، وإلى ضمها بدل كسرها، وإلى الأصوات الشديدة بدل الرقيقة مخالفين أهل الحضر؟ أراك تبتسم مما سمعت، ولا عجب و«ذلك لأن العرب وإن كانوا كثيرًا منتشرين، وخلقًا عظيمًا في أرض الله غير متحجرين ولا متضاغطين، فإنهم بتجاورهم وتلاقيهم وتزاورهم يجرون مجرى الجماعة في دار واحدة، فبعضهم يلاحظ ويراعي أمر لغته، كما يراعي ذلك من مهم أمره».1

البداية

قبائل العرب

لما كانت الأصوات و«الألفاظ العربية كالعرب أنفسهم، تتجمع في قبائل وأسر معروفة الأنساب، وتحمل هذه الألفاظ دليل معناها وأصلها وميسم نسبها»2، وكانت تلك القبائل والأسر إما بدوية صحراوية وإما مدنية حضرية، فالأولى لا دور للأب في تلقين أبنائه فهو عنهم بعيد «فلا يسمع هذا الطفل من الكبار حوله إلا قليلا، ولا يجد منهم من يصلح نطقه أو يهديه في كلامه، فينشأ هذا الطفل معتمدا على نفسه حينا وعلى الصغار من أمثاله حينا آخر… وينطق بالأصوات منحرفة بعض الانحراف، فلا يجد من يقوّم له نطقه، ويشب عليه دون شعور منه أو ممن حوله من الكبار»3، ولا استقرار يُمكّن اللغة من الاستواء والتسامي بل هي حياة الترحال الدائمة، مع العزلة التامة فلا يُتاح للغة التطور والتأثر بغيرها.

وأما الثانية -المدنية الحضرية- فحظك من المكانة الاجتماعية بحسب تمكنك من نواصي اللغة وفنون العبارات، والصغير فيها مدلل بين أبيه وأمه يرفعون لغته ويسمون بها، وقوافل التجارة داخلة خارجة يتصلون بهذه القوافل بكل ثقافة ويتأثرون بلهجات غيرهم؛ ولهذا علل الفراء مكانة لغة قريش بقوله: «كانت العرب تحضر الموسم في كل عام، وتحج البيت في الجاهلية، وقريش يسمعون لغات العرب فما استحسنوه من لغاتهم تكلموا به، فصاروا أفصح العرب، وخلت لغتهم من مستبشع اللغات ومستقبح الألفاظ».4

فبين خصائص القبائل البدوية والحضرية من الفروقات ما جعلهما بهذا التباين، وأنتج اختلافات صوتية ونحوية، وأصبحا حالة دراسية يتتبع فيها الباحث نقاط الاتفاق والافتراق ويرى هل للخصائص الحياتية أثر في تلك الاختلافات؟

التذكير والتأنيث

من المباحث الصعبة في علوم اللغة مبحث “التذكير والتأنيث”، ولا يكتسب المبحث صعوبته من التأنيث والتذكير الحقيقي الذي هو إطلاق لفظ المذكر/المؤنث على المذكر/المؤنث الحقيقي من إنسان أو حيوان، وإنما من التذكير والتأنيث المجازي الذي هو في معظمه إلحاق الجمادات بأحد القسمين.

والبحث طويل بل للعلماء فيه مصنفات خاصة كابن الأنباري وابن جني، ونشير سريعا إلى نقطة مستفادة من كتاب دراسات في فقه اللغة للدكتور صبحي الصالح:

من الآراء المشهورة أن مبحث التذكير والتأنيث المجازي لا يعتمد في غالبه على المنطق والعقل بل على العرف المشهور، لكن أرجع بعض المستشرقين التأنيث المجازي إلى الخيال الذي نتصور به الأشياء، وأن الساميين والعرب خاصة رأوا في المرأة غموضا وسحرا فألحقوا بها كل الظواهر الطبيعية التي تصوروها قريبة من طبيعة المرأة في السحر والغموض.

وقد أوردت معاجم اللغة اختلاف القبائل في إطلاق التأنيث أو التذكير على الكلمة الواحدة -نكتفي بالفروق بين أهل الحجاز وبني تميم-، فمثلا: يذكر السيوطي في المزهر أن أهل الحجاز يؤنثون التمر والذهب والبر والشعير والبسر وتميم تذكر ذلك كله، ومنها أيضا أعضاء الجسم كالعنق والعضد فهي مؤنثة عند الحجازيين مذكرة عند بني تميم، كذا في أسماء الأماكن كالسبيل والطريق والصراط فتأنيثها حجازي وتذكيرها تميمي.

والملاحظ هنا أن بني تميم تميل للتذكير غالبا بعكس الحجازيين، فلما كان التميميون أهل بداوة مالوا إلى التذكير لشدة الحياة وبأسها، بعكس الحجازيين أهل الحضارة والرفاهية فمالوا إلى التأنيث.

الإمالة

الإمالة هي «نطق الفتحة بين الفتحة والكسرة، ونطق الألف بين الألف والياء»5، ويقابلها الفتح وهو إعطاء الفتحة والألف حقهما من الحركة دون إمالة، ونترك لمهارة الاستنتاج لديك أن تحدد أي القبائل تجنح للإمالة وأيها تجنح للفتح؟

يساعدك الدكتور صبحي الصالح بقوله: «وقد يبدو غريبًا لأول وهلة أن يجنح التميميون إلى الإمالة -وهي صوت مائل إلى الكسرة- بينما يحتفظ الحجازيون بالفتح. إلّا أن بعض النظر كافٍ في إظهار الفرق بين الموضوعين… بين الإمالة والفتح، فالأخف هو الفتح، ولا سيما لأنّ الإمالة ليست كسرة خالصة… وفي الإمالة… ضرب من الاشتراك الصوتي لا يُعْطَى به اللفظ الممال حقه من النغم الخاص به، ومثل هذا الاشتراك في النطق بالأصوات لا يستغرب من قبيلة بدوية كتميم، وإنما يستغرب منها العكس؛ لأن تحقيق جميع أصوات اللفظ وإعطاءها حقها من النغم طور نهائي في صقل اللغة واستكمال أدواتها، فهو أجدر أن يكون وظيفة اللغة الأدبية المصطفاة، لا وظيفة من البدو الرحَّل، قابلة للتغير والتأثير والعدوى تبعًا لتنقلات أصحابها الذين لا يستقرون في مكان»6، فالفتح طور متقدم لا يصل إليه إلا من كانت بيئته مستقرة تسمح بارتقاء الأصوات.

ومن هنا تعلم سبب فشو الإمالة في قراءة أئمة أهل الكوفة كحمزة والكسائي من بعده، ثم خلف بدرجة أقل، فهؤلاء الأئمة تأثروا بقبائل البادية التي انتشرت في العراق قادمة من وسط وشرق الجزيرة كطيء وتميم وأسد.

وقد نربط بين هذه النقطة تحديدا -أي أخذ الكوفيون من البدو بعد هجرتهم- وبين ما نراه عند المحدثين من نقدهم لمدرسة الكوفة الحديثية بسبب عدم اعتنائها بالمرويات والحرص على انتقائها، ومنه قول الحاكم: «وأكثر المحدثين تدليسا أهل الكوفة ونفر يسير من أهل البصرة»7، ومنه الأثر الذي حكاه أبو موسى محمد بن المثنى عن عبد الرحمن بن مهدي أنه قال له: «يا أبا موسى، أهل الكوفة يحدثون عن كل أحد»8.

يسر الإسلام

ليلة القدر .. تحرير وتنوير 

ومن المباحث التي يمكن إرجاعها للبيئة الاجتماعية أيضا الضم والكسر، والإدغام، والجهر والهمس، والتفخيم والترقيق، والسرعة في النطق، وغيرها، بيد أننا قد نطلق حكما عاما مما سبق «أن تميمًا تجنح إلى الأشد الأفخم؛ لأنها بدوية، وأن قريشًا تختار الأرق الأنعم؛ لأنها حضرية».9

فلعلك الآن تبصر جمالية الإسلام ومحاسنه المتمثلة في قول النبي صلى الله عليه وسلم: ((إنَّ هذا القرآنَ نزل على سبعةِ أحرُفٍ، فأيُّ ذلك قرأتم أصبتم، فلا تُماروا في القرآنِ، فإنَّ مِراءً فيه كُفرٌ))؛10 تيسيرا على الأمة العربية، وحفاظا على هويتها، ودفعا لأعظم المفاسد الفرقة والتنازع والمراء، وجلبا لأعظم المصالح تلاوة كتاب الله وتدبره والعمل به.

المراجع

  1. ابن جني، الخصائص. ↩︎
  2. محمد المبارك، فقه اللغة. ↩︎
  3. إبراهيم أنيس، اللهجات. ↩︎
  4. منقول من كتاب دراسات في فقه اللغة. ↩︎
  5. سليمان العيوني، الصرف الصغير. ↩︎
  6. صبحي الصالح، دراسات في فقه اللغة. ↩︎
  7. الحاكم، معرفة علوم الحديث. ↩︎
  8. عبد الله بن أحمد بن حنبل، العلل. ↩︎
  9. صبحي الصالح، دراسات في فقه اللغة. ↩︎
  10. الحديث بهذا النص عند ابن كثير في فضائل القرآن، وله شواهد ومتابعات من المسند والصحيحين. ↩︎

عمار يسري

مهتم باللغة والفكر

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى