ملامح مرحلة جديدة تتبلور في الأفق

فور إتمام قوات الاحتلال الأمريكي سيطرتها على مدينة الرقة السورية أطلت علينا قناة CNN الأمريكية بنشر مقطع فيديو حصري (الرقة من الجو) يصور حجم الدمار الذي ألحقه المحتلون الجدد بمدينة الرشيد.

أول جملة كتبت في مقطع الفيديو كانت:” تحولت المباني إلى حطام على الأرض بسبب القذائف”! كما أن القناة الأمريكية نفسها كانت قد بثت مقطع فيديو حصري يصور حجم الدمار الذي لحق بمدينة الموصل بعد احتلالهم لها وكيف أن الجثث كانت ملقاة بالشوارع!

ثم بعد ذلك راحوا “بلسان الناصح المشفق” يهددون كل مدينة أو قرية تحاول الخروج من حضيرة العبودية بمصير يشابه مصير الموصل. نفس الأسلوب كان قد انتهجه المحتل الروسي في توثيقهم للدمار الذي ألحقوه بمدينتي حمص وحلب السوريتين وبثت قناة روسيا اليوم تلك الفيديوهات! تشابهت أفعالهم، بل ربما يكون نفس المخطط!

لكن السؤال الذي يطرح نفسه لماذا يوثقون هذه الجرائم ويبثونها علينا؟! هنالك ثلاثة أجوبة محتملة على هذا السؤال: الاحتمال الأول أنهم يجمعون الأدلة ليحاسبوا أنفسهم في محكمتهم محكمة الجنايات “الصليبية” الدولية!!

أو أنهم يتمتعون بتعذيب الآخرين ومشاهدة آلامهم وآلام أطفالهم كما كان أسلافهم الصليبيون من قبل. نقل أحمد رضا بك ما روته (آن كونين) ابنة إمبراطور القسطنطينية المسيحي “أن ألذ ملاهيهم -أي الصليبيين- أن يقتلوا جميع الأطفال المسلمين الذين يصادفونهم ويصلوهم نارا ثم يأكلوا لحومهم”1.

كذلك الصليبيون اليوم فالتاريخ يعيد نفسه؛ نفس الأحقاد ونفس الأساليب ونفس الإجرام. وقد أفضت في فضح تفرعنهم وعداوتهم لأطفال المسلمين وإرادة قتلهم في مقالتي التي حملت العنوان ((هل هي حرب عالمية أم عملية إحلال ديموغرافي؟!))2

حرب نفسية وعمليات غسيل دماغي على المسلمين

أما الاحتمال الثالث فهو: أنهم بتوثيقهم لهذه المشاهد الوحشية وعرضهم إياها علينا عبر قنواتهم الناطقة بالعربية يمارسون علينا نوعا من الحرب النفسية! هذه الحرب النفسية التي يمارسونها لها غايتان أساسيتان: أما الغاية الأولى فهم لديهم رسالة يريدون إيصالها إلينا: وهي نشر الرعب والخوف في أوساطنا وإرهابنا لتمكين الشعور باليأس من نفوسنا وتعميم مشاعر الإحباط في مجتمعاتنا الإسلامية وتحطيم الروح المعنوية لمجاهدينا؛ لنستسلم ونخضع لهم مرة أخرى ونعود إلى حضيرة العبودية لهم.

كان هذا المغزى وهذه الرسالة واضحة جلية في تصريح وزير دفاع الاحتلال الروسي سيرغي شويغو عندما قال: “قتلنا 35 ألف مقاتل في سوريا وكسرنا ثورات المنطقة” وهو يشرف على التهجير القسري لأهل حلب من مدينتهم، بينما كانت قناة روسيا اليوم تبث مقاطع الفيديو الحصرية لتدميرهم مدينة حلب.

هذا العرض لكم الدمار مع التصريح -قتلنا السوريين وكسرنا الثورات- هو عين ما قاله صموئيل هانتنجتون عن كيفية إنهاء الحروب وجعل الأطراف المشاركة في الحرب تتنازل عن مبادئها وغاياتها وتستلم، قال:” عندما تصل الخسائر إلى عشرات أو مئات الألوف ويصل عدد اللاجئين إلى مئات الألوف وتتحول مدن مثل ((بيروت)) و((غروزني)) و ((فوكوفار)) إلى أنقاض، يبدأ الناس في الصراخ ((…جنون…جنون…كفى…كفى!!)).”3

الحرب على الإسلام

الملاحظ أنه وتزامنا مع هذا الإجرام وعرضه علينا صباح مساء بدأت الأصوات تعلو بمحاربة الإسلام وضرورة انتزاعه من صدور 1.7 مليار إنسان وهذه هي الغاية الثانية من الظهور بهذه الوحشية والاسراف في القتل وممارسة كل هذا العنف والدمار والإذلال وبثهم لكل هذه الجرائم علينا بهذا الزخم الإعلامي.

وهي إيصالنا لحالة من الذعر والتوتر والإرهاق والانهيار العصبي والنفسي لزعزعة إيماننا وإدخال الشك والحيرة في نفوسنا وتهيئتنا لعمليات التحوير الفكري وتغيير المعتقدات فيما يسمى بغسيل الدماغ الجماهيري.

“لكي يكون التحويل -الديني و السياسي- مؤثِّرًا يجب أن تستثار انفعالات الشخص حتى يَصِل إلى درجة شاذَّة من درجات الغضب أو الخوف أو النشوة، فإذا أمكن الاحتفاظ بهذه الحالة أو أمكن زيادة حدَّتها بوسيلة أو بأخرى، فقد ينتهي الأمر بالشخص إلى حالة من حالات الهستيريا.

وحينئذٍ يصبح الإنسان أكثر استعدادًا لتلقِّي الإيحاءات التي قد لا يتقبَّلها في الظروف العاديَّة، وقد يحدُث بديلاً عن ذلك مرحلة من المراحل: “المتعادلة” أو “المتناقضة” أو “شديدة التناقض”، أو قد يَحدث “انهيار امتناعي كامل” يقضي على كلِّ المعتقدات السابقة”4.

فبعدما كان الغرب وعملاؤه لفترة طويلة يتسترون خلف الأقنعة ويدعون أن حربهم ليست مع الإسلام وإنما مع مجموعات لديها فهم خاطئ عن الإسلام بدأت اليوم الهجمات على الإسلام من قبل الغرب وعملائه علانية وبشكل صريح. غرد دكتور أكرم حجازي:” الصراع اليوم مع النظام الدولي وقوى الاستبداد لم يعد على الهيمنة ولا مع الثورات أو الجماعات الجهادية. بل على الإسلام بنصوصه وأحكامه وتشريعاته”.

ومن يراقب التصريحات والفتاوى اليوم من مفتي تونس بإقرار زواج المسلمة من الكافر مرورا بمصر الأزهر وتهجم السيسي المستمر على الإسلام ولن تكون النهاية في دولة الإمارات.

موجة استشراق بلحية وعمامة

هذا الوضوح في الصراع مع الإسلام وثوابته وكل مذاهبه ومدارسه السنية أشبه ما يكون بموجة استشراق جديدة لكن هذه المرة بلحية وعمامة! وكل من لا يقف مع “المستشرقين الجدد” فسيكون مصيره كمصير الشيخ سلمان العودة ورفاقه؛ بالرغم من أن الشيخ سلمان العودة ورفاقه ما كانوا ينكرون على حكوماتهم شيئا في العلن.

وكأنهم سجنوهم لأنهم يشكون ان لديهم أضعف الإيمان وأنهم مازالوا ينكرون المنكر بقلوبهم! وهذا كله خير للأمة؛ فمرحلة السنوات الخادعات التي يصدق فيها الكاذب و يؤتمن فيها الخائن قد أوشكت على الانتهاء؛ وقد استعلن الخونة اليوم بخيانتهم وارتموا علانية في أحضان بني إسرائيل وكأننا أمام تجسيد عملي لمرحلة زمنية وصفها النبي صلى الله عليه وسلم عندما ذكر فتن آخر الزمان؛

قال:” ثُمَّ فِتْنَةُ الدُّهَيْمَاءِ لَا تَدَعُ أَحَدًا مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ إِلَّا لَطَمَتْهُ لَطْمَةً فَإِذَا قِيلَ انْقَضَتْ تَمَادَتْ يُصْبِحُ الرَّجُلُ فِيهَا مُؤْمِنًا وَيُمْسِي كَافِرًا حَتَّى يَصِيرَ النَّاسُ إِلَى فُسْطَاطَيْنِ فُسْطَاطِ إِيمَانٍ لَا نِفَاقَ فِيهِ وَفُسْطَاطِ نِفَاقٍ لَا إِيمَانَ فِيهِ فَإِذَا كَانَ ذَاكُمْ فَانْتَظِرُوا الدَّجَّالَ مِنْ يَوْمِهِ أَوْ مِنْ غَدِهِ”5.

فهل ستأتي عمليات غسيل الدماغ الجماهيري هذه بنتيجة؟؛ أقول جازما على مستوى الجماهير إن ممارسات الشيوعيين الكوريين لعمليات الغسيل الدماغي على الأسرى الأتراك -الذين كانوا بعيدين كل البعد عن الإسلام – لم تأت بشيء؛ بل ظل الجنود الأتراك ثابتين على عقائدهم؛ فكيف اليوم ونحن نرى عودة الناس لدينهم وتمسكهم به.

يقول فهمي النجار: “ليس من السهل غَسْل عقل الإنسان؛ لأنه ليس دماغًا أو جهازًا عصبيًّا فقط، والتأثير ممكن عن طريق الاستهواء على أناس يَفقِدون من القوى الروحية الإيمانية، التي تُثبِّت الإنسانَ في أوقات الشدائد، والدليل على ذلك أن التأثير الشيوعي بعد الحرب الكورية، كان فاعلاً في جنود الولايات المتحدة الأمريكية وجنود بريطانيا، فقد انهارت نسبة كبيرة منهم، بينما لم يتراجَع أي جندي تركي مسلم آنذاك”6

في الحقيقة هذه الاستراتيجية استراتيجية الإرهاب وتمكين اليأس من النفوس عن طريق القتل وممارسة الإجرام والدمار وما يتلوها من تحوير للعقائد وتغيير للأفكار كان يمكن أن تأتي بنتيجة لو وقفت عند حد معين، لكنهم أسرفوا في القتل والتدمير وتخطوا عتبة الإرهاب وادخلوا الأمة في مرحلة وجود أو لا وجود، وهذا من مكر الله بهم (( وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ ﴿50﴾ فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ ﴿51﴾))7 وها قد لاحت في الأفق معالم استدراج الله لهم وكيده بهم، وقد بدأ سحرهم ينقلب عليهم ويحيق مكرهم السيء بهم.

فهم بارتكابهم لكل هذا التدمير للحجر والشجر -بل حتى الحيوانات لم تسلم منهم- وقطعهم لكل أسباب الحياة إضافة لانكشاف المنافقين وانحيازهم العلني لعدوة أعداء الأمة اذهبوا عن الأمة الأسباب التي كانت تعيقها عن الجهاد وتقعدها عنه. قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إِذَا تَبَايَعْتُمْ بِالْعِينَةِ ، وَأَخَذْتُمْ أَذْنَابَ الْبَقَرِ ، وَرَضِيتُمْ بِالزَّرْعِ ، وَتَرَكْتُمْ الْجِهَادَ ، سَلَّطَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ ذُلًّا لَا يَنْزِعُهُ حَتَّى تَرْجِعُوا إِلَى دِينِكُمْ)8. فلم يتركوا لنا بقرا ولا زرعا ليقعدنا عن الجهاد.

كما أنهم بارتكابهم لكل هذه الجرائم من قتل للأطفال والنساء والشيوخ وتدمير للبيوت على رؤوس قاطنيها أخرجوا الأمة من حالة حب الدنيا وكراهية الموت – التي هي سبب هوان الأمة- وادخلوها في حالة كراهية الحياة الدنيا وحب الموت.

قال النبي صلى الله عليه وسلم: «يوشك الأمم أن تداعى عليكم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها»، فقال قائل: ومِن قلة نحن يومئذ؟ قال: «بل أنتم يومئذٍ كثير، ولكنكم غثاء كغثاء السيل، ولينزعن الله من صدور عدوكم المهابة منكم، وليقذفن في قلوبكم الوهن»، فقال قائل: يا رسول الله وما الوهن ؟ قال: «حب الدنيا، وكراهية الموت»9.

ولقد صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم في توصيف حالنا في المرحلة التي بدأت بالأفول. أما من يراقب حال الأمة اليوم فيرى هذا الخير العظيم مقبلا، والذل والهوان مدبرا؛ بدأ الناس يرجعون إلى دين الله أفواجا، وبدأ حب الجهاد والاستشهاد في سبيل الله يتغلغل في قلوب هؤلاء العائدين إلى دين الله؛ علقت مجلة ((ذي إيكونوميست)) على ما جاء في التقرير الأممي ((الشباب وآفاق التنمية الإنسانية في واقع متغير))

الصادر في نهاية العام الماضي: “وفقا لما ورد في التقرير الأممي من أن حركات الاحتجاج العربية تأتي في دورات مدتها خمس سنوات، وفي كل مرة تكون أكثر حدة من سابقتها وأنه يبدو أن هناك موجة جديدة من الاحتجاجات يوشك أن تندلع “.

كما نشر الصحفي السوري أحمد موفق زيدان مقالة بعنوان ((الشام والعراق على أبواب موجة الثورة الثانية))10 يتوقع فيها انطلاق موجة جديدة من الثورات تكون أكثر حدة من سابقاتها.

أما أنا فيبدو لي أن الأمر سيمتد لأكثر من الشام والعراق وأن المرحلة التي كان يقاوم فيها أفراد وجماعات محدودة من المسلمين ضد أدوات الهيمنة والاحتلال الصليبي لبلدان المسلمين قد شارفت على الانتهاء، وبدأت ملامح مرحلة جديدة تتبلور في الأفق.

المرحلة التي يقول فيها الدكتور سفر الحوالي أن الأمة تهب هبة رجل واحد للدفاع عن النفس والمقدسات والحرمات كما كان الواقع إبان الحروب الصليبية، ثم تكون النتيجة النصر والنهضة للمسلمين كما كانت من قبل في أيام صلاح الدين وغيره من القادة العظماء.


المصادر:

1-الخيبة الأدبية للسياسة الغربية في الشرق
2-تبيان
3-صدام الحضارات
4-الحرب النفسية فهمي النجار
5-سنن أبي داود
6-الحرب النفسية فهمي النجار
7-سورة النمل
8-مسند أحمد وسنن أبي داود
9- سنن أبي داود
10-العرب القطرية

حسين الخلف

درست الطب، لكن وجدت أن معالجة قضايا الأمة أولى من معالجة أعراض مرضية! كاتب مهتم… المزيد »

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى