عدَّة الداعي إلى الله في ظلِّ غزو فكريٍ عقدي 

في ظلِّ الحملة الشرسة المسعورة التي تقودها الصليبي‍‍َّ‍‍ة‌‌ المعاصرة على الإسلام والمسلمين بشتى الوسائل والأدوات،‌‌ مستغلَّةً كل النفوذ والمال والعتاد في حرب شعواء ضروس،‌‌ حرب عسكرية تارة وإعلامية فكرية تارة أخرى، والمتبصّر يعلم‌‌ تمام العلم أن الثانية‍‍َ‌‌ لا تقلُّ خطورة‍‍ً‌‌ عن الأولى أبداً‍‍، لأنها النار‍‍ُ‌‌ الباردة التي تصل إلى قلوب الشباب وعقولهم، وتسُلُّهم من‌‌ صف المؤمنين وتجندهم جنوداً أوفياء في‌‌ ‌‌صف أعداء الملّة‌‌ والدين.‌ 

في ظل هذه الحرب الهوجاء يبرُز دور‍‍ُ‌‌ الدعاة إلى الله، ح‍‍َ‍‍م‍‍َ‍‍لة‍‍ِ‌‌ الرسالة ونوّاب النبي صلى الله عليه وسلم، الذين أخذوا على‌‌ عاتقهم وحملوا على كواهلهم همَّ الدين والأمة فاستحق‍‍ُّ‍‍وا بذلك‌‌ أن ينال‍‍هم تخصيص الله تعالى لهم من عموم الأمة بالخيرية‌‌ والمكانة الرفيعة‌‌.‌ 

يقول الحقُّ تبارك وتعالى: {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} [التوبة‌: 122]

إنّ هذه المعاني السابقة توضّح مكانة الدعاة إلى الله‌‌ وشرف‍‍َ‍‍هم ‌‌ومنزلت‍‍َ‍‍هم الرفيعة في دين الله، ‌‌ولكن هذا‌‌ التشريف يقابله ويوازيه تكليفٌ يماثله في القدر والأهمية‌‌.‌ 

وكما تبُين القاعدة الشرعية “الغُنْم بالغرم” فكما أن الداعي إلى الله تبارك وتعالى له قدره ومقداره وأجره وثواب‍‍ه،‌‌ فكذلك عليه من الواجبات والالتزامات التي لا ي‍‍ُ‍‍قب‍‍َ‍‍ل منه‌‌ تجاوزها أو العمل بدون الانطلاق من خلالها.‌ 

الفهم الدقيق

العلم الشرعي

وهاهنا بيان لأهم تلك‍‍ُ‍‍م الأركان التي‌‌ لابدَّ أن‌‌ ينطلق الداعي إلى الله من خلالها‌ ولعلَّ أول ما يجب التنبيه والتنب‍‍ُّ‍‍ه له هو ‌‌الفهم الدقيق‌‌ لدين الله تعالى الذي خرج هذا الداعي ي‍‍دعو الناس له،‌‌ سواء كان المدعوُّ مسلماً ندَّ وابتعد عن تعاليم دينه، أو غير‍‍َ‌‌ مسلم ‌‌أراد ‌‌الداعي بدعوته له الدخول في سَعَة الإسلام.‌ 

إنّ الفهم ثمرة‍‍ُ‌‌ العلم ولا يتأتّى بدونه، فكيف يوصل الفكرة‍‍َ‌‌ من لا يملك تصوراً صحيحاً كافياً عنها، أم كيف يجالد في‌‌ سبيل نشر الفكرة من لم يفقه معناها أو يدرك مقاصدها؟!

ولما كان دين الله تعالى‌‌ ‌‌-بعقيدته وشريعته وسلوكياته‌‌-‌‌ ربانيَّ المصدر، وكان القرآن الكريم كلام الله تعالى مع‌‌ السنة النبوية المطهَّرة هما مصدرا هذا الدين،‌‌ كان‌‌ ‌‌الفهم‌‌ الذي نتكلم عنه‌‌ ‌‌بالضرورة ‌‌هو‌‌ تدبُّر هذا القرآن ومدارسة‌‌ هذه السنَّة.‌ 

فالداعي إلى الله لا بدَّ له من دوام تلاوة ودوام تدبّر لكلام‌‌ ربّ العالمين، كما لا بدّ له من مداومة س‍‍َ‍‍ب‍‍ْ‍‍ر لسنّة الحبيب‌‌ المصطفى صلوات ربي وسلامه عليه؛ لأنهما المادة‍‍ُ‌‌ العلمي‍‍َّ‍‍ة‌‌ والمنطلق الفكري لدعوته التي يسير بها.‌ 

ثم إن العلم لا بد له من عمل وإلا فإنه يكون حُجَّة على‌‌ الداعي لا ح‍‍ُ‍‍ج‍‍َّ‍‍ة له، ‌‌ولك أن تتخيل داعياً إلى المعروف لا‌‌ يأتيه أو ناهياً عن المنكر يأتيه، لك أن تتخيل مدى استجابة‌‌ الناس لداعية من هذا النوع، ثم لك أن تتخيل تلك الصورة‌‌ المخيفة التي أخبر عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم‌‌ كما عند البخاري ومسلم من حديث أسامة بن زيد رضي‌‌ الله عنهما الذي قال فيه: ((يُجاء بالرجل يوم القيامة فيُلقى‌‌ في النار، فتندلق أقتابه في النار، فيدور كما يدور الحمار‌‌ برحاه، فيجتمع أهل النار عليه فيقولون: أي فلان، ما‌‌ شأنك؟! أليس كنتَ تأمرنا بالمعروف وتنهانا عن المنكر،‌‌ قال: كنت آمركم بالمعروف ولا آتيه وأنهاكم عن المنكر‌‌ وآتيه))، فلا بدّ للداعية إلى الله تعالى من العلم بدين الله والعمل‌‌ به، فهما جناحا طائر لا يطير بأحدهما دون الآخر.‌ 

ومن العلم الضروري للداعية ولا ي‍‍ُ‍‍ستغن‍‍َ‍‍ى عنه أبداً ما يسميه‌‌ العلماء (فقه الواقع) ومعرفة حال الناس وأحوال المجتمع‌‌ الذي يعيش فيه ليكون قادراً على رسم الخطة الناجعة‌‌ وتقدير الأولويات حسب الحاجة.‌ 

الإيمان العميق

 عدَّة الداعي إلى الله في ظلِّ غزو فكريٍ عقدي

فإذا رَس‍‍َ‍‍خ الإنسان في م‍‍َ‍‍يدان العلم‌‌ بأوامر الله تعالى‌‌ ونواهيه‌‌ والعمل‌‌ بها‌‌ فإن سلاحه قد اكتمل ولا بدّ من‌‌ الذخيرة‍‍،‌‌ ولا ذخيرة‍‍َ‌‌ أنجع من ‌‌الإيمان العميق‌‌ الذي تضرب‌‌ جذوره في القلب والنفس كما تضرب أصول الشجرة‌‌ الطيبة في الأرض، وعندها فقط يصل ف‍‍َ‍‍رع‍‍ُ‍‍ها إلى السماء.

إن الإيمان بالله تباركت أسماؤه هو ماء الحياة للقلوب‌‌ والمحرك للجوارح والأركان يبعث فيها الجد والاجتهاد على‌‌ العمل والدأب والبذل، وأنّى لمن خالط قلب‍‍َ‍‍ه الشكُّ أو‌‌ الريب أن يضحيَ بساعات يومه أو سنيِّ حياته في سبيل‌‌ الدعوة إلى الله تبارك وتعالى بل وكيف لمن هذا حاله أن‌‌ يصبر على الأذى والبلاء وهو يمشي في دروب الدعوة إلى الله تعالى؟!‌ 

لذا كان الإيمان الصادق الجازم شرطاً لازماً وركناً ركيناً‌‌ لكل من أراد أن يسير في درب الصد‍‍ّ‍‍يقين ويعمل عمل‌‌ النبيين، لأن الإيمان يثمر‌‌ ‌‌المحبة‌‌ ‌‌الخالصة في القلب، ولعلّك‌‌ تعلم ما تصنع المحبة إذا ما خالطت القلب ولامست‌‌ بشاشت‍‍َ‍‍ه.

إن التضحية لا تقوم إلا على ركن متين من الحب‌‌ الصادق، فكيف إذا ما اكتمل إيمان العبد وطار إلى ربه‌‌ سبحانه‌‌ ‌‌بالخوف والرجاء‍‍، ‌‌عندها لن توقف المعوّقات إعصار هذا الداعي الذي سقى قلب‍‍َ‍‍ه وقود‍‍َ‌‌ ‌‌الإيمان، فسرَت‌‌ المحبة في الشرايين وامتزج الخوف والرجاء في سويداء‌‌ قلبه، فمثل هذا من يصده عن الدعوة إلى الله تبارك‌‌ وتعالى؟!‌ 

الاتصال الوثيق

فإذا ما تكاملت للعبد هذه الخصال المذكورة فقد صار أهلاً‌‌ للانطلاق بإذن الله إلى ميادين الأمر بالمعروف والنهي عن‌‌ المنكر يحدوه في مسيرته المباركة‌‌ ‌‌اتصال وثيق ‌‌بعلّام‌‌ الغيوب‌ فلا غناء للعبد عن الاستعانة بالله دوماً، يطلب منه العون‌‌ ويظهر له الافتقار وينطرح على أبواب اللجأة إليه سبحانه‌‌ ليعينه ويسدد خطواته ويلهمه الصواب في كل قول وفعل‌‌ ونيّة، أما سمعت كليم الله موسى وهو يطلب من الله عز‌‌ وجل وقد أوكل إليه هذه المهمة العظيمة وهذا الشرف‌‌ الرفيع، كما أخبرنا الله سبحانه في كتابه العزيز: {قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي (٢٥) وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي (٢٦) وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي (٢٧) يَفْقَهُوا قَوْلِي (٢٨)} [طه‌] فإذا كان هذا حال أولي العزم من الرسل، فما أحوج‌‌ الداعية إلى الله لباب الاستعانة والتوكل، وما أحوجه لطاعة‌‌ السر والخفاء‍‍،‌‌ وصلاة الليل مع البكاء، ما أحوجه إلى ورد‌‌ القرآن والأذكار. 

واسأل من‌‌ أكرمه الله تعالى بشرف‌‌ الدعوة إليه‌‌ ‌‌فإنه ‌‌يعلم ويرى الفرق والبون الشاسع بين‌‌ دعوة‍‍ِ‌‌ يوم ‌‌سبقته ليلة‍‍ٌ‌‌ أحياها بالقيام والدعاء‍‍،‌‌ وبين يوم‌‌ قضى ليلت‍‍َ‍‍ه نائماً،‌‌ ‌‌{إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلا} [المزّمل‌: 6] 

إن هذه الآية عنوان عريض لا يمكن لداعٍ إلى الله أن يغفل‌‌ عنها أو ينساها، كيف لا وهي من أوائل ما نزل من القرآن‌‌ على نبينا صلوات ربي وسلامه عليه، تُبيّن له معالم الطريق‌‌ وترسم له منار السبيل، فهذه الأوراد من الذكر وتلاوة‌‌ القرآن والدعاء والقيام لله إنما هي الزاد الذي يعين على‌‌ مواصلة المسير، وتتيح للعبد متابعة الخ‍‍َ‍‍طو‍‍ِ‌‌ في طريق‌‌ الدعوة، وهي في حقيقتها الح‍‍ِ‍‍رز والدرع من كيد شياطين‌‌ الإنس والجن تدفع عن صاحبها كيدهم وشرورهم.‌ 

أخلاق الداعية

أخلاق الداعي إلى الله

ثم لا بدَّ لمن سلك هذا الدرب أن يتخلَّق بأخلاق س‍‍َ‍‍ل‍‍َ‍‍فه من‌‌ الأنبياء عليهم السلام والصحابة رضوان الله تعالى عليهم، إذ‌‌ الأخلاق ثمرة الدين التي تدعو الآخرين إلى تصديق هذه‌‌ الدعوة وتجذبهم إلى الاستجابة لها، إذ أن أخلاق الداعية‌‌ محطُّ نظر المدعوين وأول رسائله إليهم، ولذلك فقد حذّر‌‌ المولى سبحانه وتعالى من الغلظة والفظاظة وأخبر أن‌‌ أمثال هذه الأخلاق أصل من أصول تنفير الخلق من الدعوة‌‌ والداعي، {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ} [آل عمران‌: 159] 

ورأس أخلاق الداعية إلى الله تبارك وتعالى‌‌ ‌‌الصدق ‌‌بل هو‌‌ رأس أخلاق المسلم على الإطلاق وأعظمها وأشرفها، وهو‌‌ دليل على الشجاعة والثقة‍‍،‌‌ كما أن الكذب دليل على ‌‌الجبن‌‌ والخَوَر. 

ومن الأخلاق التي لا بدّ للداعية إلى الله أن يتكمّل‌‌ ويتحلّى بها‌‌ ‌‌الصبر ‌‌وهو مرتبط بالدعوة ارتباطاً وثيقاً لا‌‌ انفكاك فيه، انظر إلى قوله جلَّ وعلا في سورة العصر:‌‌ {إِلا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ}‌ [العصر: 3] فجعل التواصي بالصبر قريناً للتواصي بالحق الذي إنما هو‌‌ الدعوة إلى الخير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

ولعلّ من المناسب‌‌ ‌‌إيراد ما قاله ورقة بن‌‌ نوفل للنبي صلى الله عليه وسلم‌‌ ‌‌في هذا المقام -كما عند البخاري في‌‌ صحيحه من حديث أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها-‌‌ ‌‌وقد جاءه يسأل‍‍ُ‍‍ه عن الذي رآه في الغار من نزول جبريل‌‌ عليه السلام، فقال له ورقة بن نوفل: ((يا ليتني فيها جذعاً،‌‌ ليتني أكون حيّاً إذ يخرجك قوم‍‍ُ‍‍ك، فقال رسول الله صلى‌‌ الله عليه وسلم: أوَ مُخرجيَّ هم، قال: نعم، لم يأت رجل‌‌ قط بمثل ما جئت به إلا عُودي)) 

فلا بدّ للداعية إلى الله‌‌ تبارك وتعالى أن يوط‍‍ِّ‍‍ن نفسَه ويجهزها ‌‌لجفاء القريب‌‌ وعداوة البعيد، ويستعد بعدة الصبر بعد الاستعانة بالله‌‌ والتوكل عليه على ما سيلاقيه لا محالة في هذا الدرب‌‌ الصعب الشائك الذي وإن كان فيه غريباً وحيداً إلا أن ثقته‌‌ بموعودات الله‌‌ ‌‌فيه ‌‌لن تسمح للهزيمة أن تتسلل إلى‌‌ العزيمة.‌ 

ثم إن من الأخلاق التي لا بد للداعية أن يتأسّى برسوله‌‌ صلوات ربي وسلامه عليه‌‌ فيها ‌‌الرحمة ‌‌فهو الخ‍‍ُ‍‍ل‍‍ُ‍‍ق‌‌ الذي‌‌ يعينه‌‌ على الصبر على أذى المعارضين، لأنه ينظر إليهم نظرة‌‌ الطبيب المداوي للمريض المصاب، يدعو الله لهم بالهداية‌‌ قبل أن يدعو على من اعتدى منهم بالعقاب، يحمد الله‌‌ على ما منَّ‌‌ به‌‌ عليه من نعمة الهداية‍‍،‌‌ ويرجوه أن يكرم‌‌ الناس بما أكرمه به، فلا يتكبر عليهم ولا ينظر إليهم نظرة‌‌  ازدراء أو احتقار‍‍،‌‌ بل يتحلّى ‌‌بالتواضع ‌‌كما كانت سِيَرُ‌‌ الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم جميعاً.‌ 

والحمد لله رب العالمين.‌ 

المرجع

كتاب أصول الدعوة للدكتور عبد الكريم زيدان

مقالات ذات صلة

تعليق واحد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى