في ظلال الحروب الصليبية: معادلة الصراع بين الشرق والغرب
تعتبر منطقة حوض البحر الأبيض المتوسط الحيز الجغرافي الذي تلتقي فيه قارات العالم القديم (آسيا وافريقيا وأوروبا) وحضاراته العريقة، كما أنه يشكل خط الصراع بين الشرق والغرب عبر التاريخ، وتعتبر الحروب الصليبية ضمن معادلة هذا الصراع. لكن يجب علينا أولاً تحديد مفهومي “الشرق” و”الغرب” وصراعهما ضمن النطاق التاريخي والحضاري، وكيف شكلت “الحروب الصليبية” إحدى محطات هذا الصراع الطويل.
في المعنى التاريخي “للشرق” و”الغرب”
تبلورت معظم الحضارات الإنسانية منذ فجر التاريخ في النصف الشرقي من خريطة الأرض، وهذا ما جعل المؤرخون يصفونه بمفهوم “الشرق”، ويشمل حضارة كل من الفراعنة والبابليين والكنعانيين وغيرهم ، وذلك في بلدان مثل مصر وفارس والشام وبلاد الرافدين، بالإضافة إلى الصين والهند القديمتين والتي يصطلح عليهما ب”الشرق الأقصى”، أما “الغرب” في الزمن القديم فكانت تمثله بلاد اليونان والحضارة الإغريقية، ثم روما وريثتها التي أسست إحدى أقوى الامبراطوريات في التاريخ، والتي كانت تفرض سيطرتها على البحر المتوسط أواخر العصور القديمة.
لكن بظهور الإسلام وتوسعه في العصور الوسطى صار مصطلح “الشرق” يتمثل في أقلام الأدبيات الغربية في الإسلام وحضارته وعالمه، وذلك لكون الحضارة الإسلامية قد شملت جل مناطق الشرق القديم في آسيا، وصار “الشرق الأدنى” يطلق على المناطق التي فتحها المسلمون باتجاه الغرب كبلاد الشام ومصر والأناضول وشمال افريقيا، وقد تمثل “الغرب” حينئذ في أوروبا المسيحية بكنيستيها روما والقسطنطينية.
وقد توسع الغرب جغرافياً بسيطرة أوروبا على العالم الجديد وقارة أمريكا مع بداية العصور الحديثة، في حين تراجع الشرق والعالم الإسلامي، وأصبح الغرب بنزعته الاستعمارية والامبريالية يتمدد ليسيطر على العالم، وعلى الأمة الإسلامية بالخصوص؛ لاسيما في منطقة القلب منها والتي أصبحت تعرف في وقتنا الحالي ب “الشرق الأوسط”.
الصراع بين الشرق والغرب: الوجوه والمحطات
العصور القديمة
يرجح كثير من المؤرخون إلى أن بدايات الصدام والصراع بين “الشرق” و”الغرب”؛ يتجلى بوضوح في فترة “الحروب الميدية” بين الإمبراطورية الفارسية والمدن اليونانية في القرن الخامس قبل الميلاد، والتي جاءت كنتيجة لتوسعات فارس إلى الشام ومصر والأناضول، وباتت تهدد بلاد الاغريق والعالم الغربي القديم الممثل في الحضارة اليونانية، وقد تبلور هذا الصراع من جديد في حملات الاسكندر المقدوني الواسعة في آسيا والبلاد الشرقية في القرن الرابع قبل الميلاد، حيث اجتاح الشام ومصر والعراق ثم فارس وآسيا الوسطى حتى وصل إلى تخوم بلاد الهند.
ليستمر الصراع طيلة العصور القديمة بين حضارة فارس التي كانت تمثل الشرق والامبراطورية الرومانية وريثة الاغريق مجسدةً الغرب، والتي حكمت جميع بلدان البحر المتوسط، وبعد انهيارها في القرن الخامس الميلادي استمر امتدادها الشرقي المتجلي في الإمبراطورية البيزنطية في مواصلة الحرب ضد الفرس الساسانيين في مناطق الشام والعراق، التي كانت تجسد خط الصدام الطويل بينهما والذي امتد حتى البعثة النبوية.
العصر الوسيط
أصاب بلاد الشرق تحول هائل وكبير في حقبة العصور الوسطى بعد ظهور الإسلام في شبه الجزيرة العربية وانطلاقه وتوسعه السريع، وقد أخدت الحضارة الإسلامية –منذ ذاك الوقت-مكان معظم الحضارات الشرقية القديمة، بل امتدت حضارة الإسلام إلى الأماكن الجغرافية التي كانت تدخل ضمن العالم الغربي (وذلك لكون الإسلام دعوة عالمية لجميع الأمم والجهات)، مثل شبه الجزيرة الأيبيرية (الأندلس) في أوروبا، بعد تمكن المسلمين من فتح واجتياز الشمال الأفريقي.ق
وكان الصراع الإسلامي محتدماً ضد القوى النصرانية والتي مثلت الغرب في أوروبا المسيحية، في كل من كنيسة بيزنطة التي انهزمت في الشام ومصر وسواحل افريقيا الشمالية، ثم كنيسة روما التي باتت تشعر بالخطر بعد عبور الجيوش الإسلامية الأندلس إلى بلاد الفرنجة، ثم استمر الصراع في آسيا الصغرى بين الدولة الإسلامية والروم البيزنطيين من جهة، وفي الأندلس بين القوى النصرانية الكاثوليكية والمسلمين من جهة أخرى، وبين هذا وذاك؛ حدث نوع أخر من حلقات هذا الصدام، وذلك في أواخر القرن الحادي عشر الميلادي، وهي الحملات الصليبية الشهيرة والتي تعرف كثيرا باسم “الحروب الصليبية” (والتي سنركز عليها لاحقاً).
وقد اختتم الصراع الإسلامي النصراني في القرون الوسطى بانهزام الكنيسة الأرثوذكسية مع الفتح الإسلامي للقسطنطينية عام 1453م، ثم بانتصار الصليبية الكاثوليكية على المسلمين في الأندلس والتي سقطت بالكلية بسقوط غرناطة عام 1492م.
العصور الحديثة والمعاصرة
بدأ العصر الحديث بنوع من التوازن بين الشرق والغرب، إلا أنه سرعان ما ستترجح كفة الغرب والقوى الصليبية التي لم تعد تستهدف المسلمين وحدهم بل حتى شعوب أخرى، وذلك باحتلالها للعالم الجديد الذي سيصير جزئه الشمالي ضمن جغرافية العالم الغربي، وقد تبين فيما بعد أنها كانت خطة لتطويق العالم الإسلامي (الشرق) واحتلال أطرافه، وما لبثت أوروبا أن تعرضت لتغيرات بعد “عصر النهضة” في الوقت الذي تتراجع فيه الحضارة الإسلامية؛ مما أدى إلى الهجوم الغربي المتواصل على العالم الشرقي (الإسلامي بالدرجة الأولى)، مما سيؤدي إلى الاحتلال والسيطرة الغربية على بلدان الشرق والأمة الإسلامية، عن طريق الاستعمار والامبريالية التي مازالت تهيمن وتستأثر.
موقع “الحروب الصليبية” في صيرورة المعادلة الصراعية بين الشرق والغرب
“الحروب الصليبية” –وهي التي ستهمنا هنا بدءاً من الآن-اعتبرها الكثيرون احدى أبرز معالم النزاع والاصطدام بين العالمين الغربي والشرقي في حقبة العصور الوسطى، والتي اتسمت بالطابع الديني في “عصر الإيمان” كما يسميه المؤرخون الغربيون، كما يذهب الكثير من الباحثين وكتّاب التاريخ إلى تصنيف هذه الحروب في نسق زمني تاريخي معين، يتجلى في القرنين الثاني عشر والثالث عشر الميلاديين، والذي انطلق بالحملات التي أعلنتها كنسية روما على بلاد المشرق الإسلامي وأراضيه المقدسة (1096-1291م).
والحقيقة التاريخية أن الحروب الصليبية -بمفهومها الواسع والشامل-هي تلك الحملة الكبرى الممتدة والمتصلة التي شنها العالم المسيحي على العالم الإسلامي، منذ أن تحول الأول من موقع الدفاع إلى موقع الهجوم، كما هو الحال في الهجمات الواسعة المضادة للتي بدأتها الدولة البيزنطية على المسلمين في آسيا الصغرى وبلاد الشام في القرنين العاشر والحادي عشر الميلاديين، أو ما عرف “بحروب الاسترداد” الطويلة في الأندلس، ثم كذلك الهجمات التي شنها النصارى على جزر البحر المتوسط الإسلامية.
ليتضح لنا أن الحروب الصليبية بدأت بذاك الصراع الذي شنه الغرب المسيحي على الشرق المسلم في العصر الوسيط، لتمتد نتائجه في العصر الحديث وتتخذ أشكالاً أخرى، كما يعتقد الكثيرون أن هذه الحروب ما زالت مستمرة في عصرنا الحالي، وهذا ما سنحاول معرفته في مقالات قادمة –إن شاء الله-لنقوم بكشف ظلال الحروب الصليبية وأبعادها وامتداداتها عبر تاريخنا من الماضي إلى الحاضر.