اختيارات المحرر

غابت الشمس.. فكيف أشرقت الأمة؟ وفاة النبي ﷺ واستمرار الحركات الإسلامية بعد فَقدِ قادتها

في ذلك اليوم المشهود كان الصحابة يواجهون أعظم امتحان لصدق إيمانهم: كيف تستمر الأمة بدون النبي صلى الله عليه وسلم؟ تجلّت الكارثة في عيون عمر بن الخطاب رضي الله عنه وهو يهتف في ذهول: «إنّ رجالاً من المنافقين يزعمون أنّ رسول الله مات!»، بينما كان أبو بكر الصديق رضي الله عنه يخطو خطوته التاريخية نحو المنبر، حاملاً في صوته المرتجف حقيقةً أقسى من الموت نفسه: «ألا من كان يعبد محمدًا فإنّ محمدًا قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حيّ لا يموت» [صحيح البخاري: 3667].

لكن المفارقة الكبرى لم تكن في الموت، بل في الحياة التي تلته. فما إن استقر التراب على القبر النبوي، حتى بدأ الصحابة يكتبون أعظم ملحمة في تاريخ القيادة: تحوّلَ الأتباع إلى قادة، والمقلدون إلى مجتهدين، والتلاميذ إلى أساتذة.

اليوم، بعد أربعة عشر قرنًا، تعيدنا استشهادات قادة مثل يحيى السنوار إلى نفس السؤال المصيري: هل تموت المشاريع الكبرى بموت أصحابها؟ ولماذا تنهار بعض الحركات بينما تزدهر أخرى بعد فقدان قادتها؟

هذا المقال ليس مجرد سرد تاريخي، بل بحث في سرّ البقاء. من المدينة المنورة إلى غزة، نرى كيف تتحول لحظة الفقد إلى لحظة ميلاد، وكيف تنتصر الرسالة حين تتحرر من شخصنة القيادة؟!

بين الفرد والرسالة: هل تموت المشاريع بموت أصحابها؟

استمرار الرسالة

المشاريع التي تتمحور حول القائد وحده، مهما بلغت عبقريته، تشبه الأبراج الشاهقة التي تُبنى على عمود واحد… يكفي أن يسقط العمود حتى ينهار البناء. قد ينجح القائد صاحب الكاريزما في جمع الصفوف وتوحيد الجهود، لكنه إن لم يبنِ مؤسسات، ويُخرّج قادة بدلاء، فموته يعني كتابة شهادة وفاة المشروع معه. ومن نتائج هذا ما رأيناه في العصر الحديث من انهيار حركات تحررٍ عربية عديدة بموت قادتها؛ لأنها اختزلت الدعوة في “صوت الزعيم”.

أما حين يكون القائد مجرد حاملٍ للرسالة، لا الرسالة نفسها، يصبح غيابه حدثًا مؤلمًا لكنه غير قاتل. هنا يتحوّل القائد من كونه “المشروع” إلى كونه “المُلهِم” الذي يُطلق شرارة، ثم يترك للأمة أن تصون النار وتبني حولها المواقد. قال الله تعالى: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ} [آل عمران: 144].

لقد أدرك النبي ﷺ أنّ شخصه لن يبقَ، لكن رسالته خالدة، فربّى أصحابه على حمل الرسالة لا التعلق به وحده. حين مات، لم يسألوا: “من يملأ مكانه؟” بل سألوا: “كيف نُكمل ما بدأه؟”. تلك الفلسفة هي التي حوّلت جيل الصحابة من أتباع إلى صنّاع تاريخ.

وفي واقعنا المعاصر، نرى كيف أنّ حركات مقاومة أو مشاريع دعوية انهارت سريعًا بعد فقدان قائدها لأنها كانت أسيرة شخصه. وفي المقابل، نرى تجارب صمدت، بل واشتدت قوتها، لأنّ قائدها أورثهم خطة، وهيكلًا، وثقافة، لا مجرد خطب حماسية.

هنا يتضح الدرس: القيادة الحقيقية ليست لحظة احتضار فكرة بموت رجل، بل هي لحظة ولادة رجال من رحم الفكرة. 

عندما تُصنع القيادات من رحم الرسالة

لم يكن النبي ﷺ شمسًا تحجب كواكبها، بل كان قمرًا يضيء ليل الأمة حتى تظهر فيها نجوم القيادة. لقد أدرك أنّ الرسالة التي نزلت عليه ستبقى بعد رحيله، وأنّ ضمان بقائها لا يكون إلا برجال ونساء يعرفون كيف يقودون حين يغيب هو عن المشهد.

انظر إلى معركة مؤتة… ثلاثة قادة يسقطون الواحد تلو الآخر، ثم يتقدم خالد بن الوليد رضي الله عنه، الذي لم يكن حتى من أوائل المهاجرين، ليحمل اللواء وينسحب بالجيش في مناورة أنقذت الموقف. هذه ليست صدفة، بل ثمرة إعداد أكثر من رجل من الصف ليكون قادرًا على الإمساك بالراية في لحظة الخطر.

وفي غزوة تبوك، أقام ﷺ في المدينة محمدَ بن مسلمة رضي الله عنه حارسًا للثغور، وجعل عليًا رضي الله عنه درعًا يحمي البيوت، ووزع المهام بدقة بين من يسير معه ومن يبقى في الخلف. لقد علّمهم أنّ القيادة الحقيقية هي أن تكون غائبًا فتشعر الأمّة أنك حاضر في كل موقع.

حتى قبل ذلك، في الهجرة نفسها، لم يكن كل شيء يدور حول شخص النبي ﷺ، بل كانت هناك عيون ساهرة: عبد الله بن أبي بكر رضي الله عنه، فقد رُوي أنه كان يسهر ليستمع إلى حديث قريش في ناديهم، ثم يأتي النبي ﷺ فيحدثه بما سمع. وكانت هناك أقدام تضيء الطريق: عامر بن فهيرة رضي الله عنه، الذي كان يزودهما بألبان من غنمه، ويتتبّع آثار أقدامهما ليطمس أي أثر قد يقود المشركين إلى مكانهما. ولا ننسى صنيع أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنها، وشجاعة علي رضي الله عنه في نومه في فراش النبي ﷺ. 

كل حلقة في هذه السلسلة كانت تدرك أنها تحمل جزءًا من مصير الأمة، لا مجرد تنفيذ لأوامر عليا. وكان النبي ﷺ يعلمهم أنّ النصر مشروع جماعي، وأنّ القيادة وظيفة، لا امتيازًا شخصيًا.

هذه المدرسة هي التي جعلت أبا بكر رضي الله عنه يتسلّم زمام الأمة في لحظة الصدمة الكبرى، وعمر رضي الله عنه يقود بعده، وعثمان وعلي رضي الله عنهما من بعدهم… من غير ارتباك ولا فراغ قيادي. الرسالة صنعت القادة، والقادة حَموا الرسالة.

وفي غزة اليوم، تجد صدى هذه المدرسة النبوية واضحًا: استشهاد القادة لا يوقف المعركة، لأنّ الصف الثاني والثالث يعرفون أدوارهم قبل أن تُطلب منهم. السنوار نفسه كان ثمرة هذا الإعداد الطويل، وهو الذي أعدّ غيره ليأتي بعده، بنفس الهدوء، ونفس الإصرار، وكأنّ شيئًا لم يتغير إلا الاسم.

القائد الذي لا يُعدّ غيره، يكتب وصية موته بيده. أما القائد الذي يرى نفسه حلقة في سلسلة، فإنه يبني جدارًا لا يسقط بسقوطه.

الصحابة بعد النبي ﷺ: دولة لا تموت بموت رأسها

حين أُسدِل الستر على قبر النبي ﷺ، ومع قول أنس رضي الله عنه: «فَلَمَّا كَانَ الْيَوْمُ الَّذِي مَاتَ فِيهِ أَظْلَمَ مِنْهَا كُلُّ شَيْءٍ، وَلَمَّا نَفَضْنَا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْأَيْدِي وَإِنَّا لَفِي دَفْنِهِ حَتَّى أَنْكَرْنَا قُلُوبَنَا» [جامع الترمذي: 3618]، لم يدخل الصحابة في حدادٍ يشلّ الحركة، بل دخلوا في عملٍ يحمي الرسالة. كان الموقف حرجًا، والمدينة تشتعل بالشائعات، لكن أبا بكر رضي الله عنه وقف، وكأنه خُلق لهذه اللحظة، ليقول كلمته الخالدة التي أعادت العقول إلى رشدها والقلوب إلى ثباتها: «من كان يعبد محمدًا فإن محمدًا قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حيّ لا يموت».

لم يكتفِ بهذا، بل دعاهم مباشرة لاختيار خليفة، فتمت البيعة له في نفس اليوم، وكأنّ الأمة قالت للعالم: “مات القائد، لكن الدولة حيّة”. لم تتأخر الفتوحات، ولم تُغلق الجبهات، بل انطلقت الحملات إلى العراق والشام، وأُنفذ بعث أسامة بن زيد رضي الله عنه، وقوبلت ردة العرب بعزم لا يلين حتى قال: «واللَّهِ لو مَنَعُونِي عَنَاقًا كَانُوا يُؤَدُّونَهَا إلى رَسولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ لَقَاتَلْتُهُمْ علَى مَنْعِهَا» [صحيح البخاري: 1399]. لم تكن تلك انطلاقة جديدة، بل استمرارًا للمشروع الذي ربّاهم عليه ﷺ: أن الرسالة أكبر من أي إنسان، وأنّ القائد الحقيقي هو الذي يُهيّئ أمته ليوم غيابه.

متى تموت الحركات؟ هشاشة التنظيم أم غياب الرسالة؟

ليست كل الحركات التي تفقد قائدها تنهض من جديد. بعض المشاريع تشبه الخيام التي يقوم عمودها على رجل واحد؛ فإذا سقط العمود، انهارت الخيمة على من فيها.

في تاريخنا المعاصر، رأينا حركات كانت تملأ السمع والبصر، لكنها ما إن غاب قائدها حتى تحوّلت إلى ذكرى. ليس لأنّ العدو أقوى، بل لأنّ بنيانها كان هشًّا؛ القرار في يد شخص واحد، والرؤية لا يعرفها إلا هو، والخطط محفوظة في صدره لا في صدور الرجال.

هذه هي “مركزية القرار” حين تتحول من أداة تنظيمية إلى قيد يكمم المشروع كله. ومعها تأتي آفة “الكاريزما المفرطة”؛ حين تتعلق العيون بالقائد أكثر من الفكرة، وتغدو الطاعة لشخصه لا لرسالةٍ أكبر منه.

حتى في الحركات الإسلامية، وقع هذا الخطأ. كم من جماعة ضاعت بوصلتها بعد غياب المؤسس، لأنّ الرؤية كانت تُختزل في خطبه واجتماعاته، لا في مؤسساتٍ تُعيد إنتاج القيادة جيلاً بعد جيل. وعلى النقيض، حين تكون الرسالة حاضرة في العقول والقلوب، يصبح غياب القائد حدثًا مؤلمًا، لكنه لا يوقف المسير.

إنّ الرسالة التي لا تُغرس في النفوس، والتنظيم الذي لا يُبنى على الشورى وتوزيع الأدوار، كلاهما يحمل في داخله بذور موته… ينتظر فقط صدمة الغياب لينهار.

السنوار… حين تُولد القيادة من بين الأنقاض

القائد الشهيد يحيى السنوار

في صباح ذلك اليوم، كانت غزة تودّع عقلها المدبّر وقلبها النابض. العالم كله شاهد يحيى السنوار وهو يترجل من ميدان القيادة إلى سجل الشهداء، وكأنهم كانوا يتوقعون أن تنطفئ شعلة المقاومة مع آخر أنفاسه.

لكن غزة -كعادتها- قلبت التوقعات. لم يكن غياب السنوار نهاية الخطة، بل كان بداية فصل جديد منها. فالقيادة عندهم لا تُولد في المكاتب المكيفة، ولا تُصنع بقرارات فوقية، بل تُنحت في الأزقة المهدّمة، وتُختبر تحت القصف، وتُصقل في زنازين العدو.

منذ سنوات، بنت المقاومة بنيتها على مبدأ “القيادة الموزعة”؛ كل قائد يعرف أنّ يومه قد يأتي في أي لحظة، وكل خلية تملك ما يكفي لتستمر حتى لو انقطعت عن مركز القرار. تمامًا كما كان جيش النبي ﷺ في مُؤتة، لا يسقط بسقوط القائد الأول، بل ينهض من بين الصفوف من يحمل الراية.

لقد فهمت المقاومة درس السيرة: أنّ القائد جزء من الرسالة، لكنه ليس الرسالة كلها. ولذلك، كان استشهاد السنوار صدمة، لكنه لم يكن فراغًا. خرج من بين الركام قادة يعرفون الطريق كما يعرفون قائدهم، لأنهم ساروا فيه معه من قبل، لا خلفه فقط.

غزة لم تنتظر “قائدًا جديدًا” ليأمرها بالثبات… كانت تعرف أنّ الطريق واحد، وأنّ الدم الذي سال ليس نهايةً، بل توقيعًا على استمرار العهد.

من النبوّة إلى النهوض: كيف نُورّث القيادة؟

صمود الرسالة

في عالم الإدارة المعاصر، يتحدثون عن “خطة التعاقب القيادي” (Succession Planning)، وعن “القائد الذي يصنع قادة” (Leader-Maker)، ويقيمون لها المؤتمرات والبرامج التدريبية، ثم ينفقون المليارات على تطوير “الصف الثاني” من المديرين. لكننا نحن المسلمون عرفنا هذا قبل قرون، يوم أسّس النبي ﷺ مشروعًا لا يتوقف عند شخصه، بل يمتد في كل من آمن به وحمل رسالته.

النبي ﷺ لم يترك الأمة لتبحث عن خليفة بعد موته بلا استعداد؛ بل كان يعدّهم واحدًا واحدًا. في بدر وأحد والخندق وتبوك، كان يضع الرجل المناسب في المكان المناسب، ويفوضه بالصلاحيات الكاملة. وهذا ما يسميه خبراء الإدارة اليوم “تمكين القادة” (Empowerment)؛ أن تمنح الشخص السلطة قبل أن تحتاجه، ليكون جاهزًا حين يغيب من فوقه.

المقاومة في غزة فعلت الشيء نفسه دون أن تحضر دورات في “Harvard Business School”. بنَت شبكة قيادة متعددة الطبقات (Multi-layered Leadership)، بحيث إذا استُشهد القائد الأول، تولّى الثاني، وإن سقط الثاني، تقدّم الثالث… تمامًا كما أوصى النبي ﷺ في جيش مؤتة: ((إنْ قُتِلَ زَيْدٌ فَجَعْفَرٌ، وإنْ قُتِلَ جَعْفَرٌ فَعَبْدُ اللَّهِ بنُ رَوَاحَةَ)) [صحيح البخاري: 4216].

الفرق بين المشروع الذي يموت والمشروع الذي يبقى هو هذا: الأول يقدّس الفرد حتى يشلّه غيابه، والثاني يقدّس الفكرة حتى يضاعفها الغياب. في كتب القيادة يسمّونها “القيادة المؤسسية” (Institutional Leadership)، وفي لغتنا نسميها:  أن تكون الرسالة أكبر من حاملها.

المشاريع الخالدة لا تُبنى على أكتاف القائد، بل على أكتاف المدرسة التي أنشأها. وحين ننجح في توزيع مركز الثقل (Decentralization) على كوادر تعرف الهدف وتملك الأدوات، نكون قد حوّلنا موت القائد من نهاية إلى بداية. ولهذا، فإن السؤال الحقيقي ليس: هل نملك قائدًا عظيمًا؟ بل: هل نصنع عشرة عظماء آخرين منه؟

الخاتمة: لا تموت الأمم… إن لم تمت رسالتها

الأمم لا تُقاس بعمر قادتها، بل بعمر رسالتها. قد يسقط القائد، وقد تغيب الشمس، لكن الفجر لا يعرف أسماء من أشرقت عليهم شموسه بالأمس.

يوم مات النبي ﷺ، لم تمُت المدينة، ولم تُطوَ راية الإسلام، لأنّ الراية لم تكن في يد رجل واحد، بل في قلوب أمة بأكملها. ويوم اغتيل يحيى السنوار أمام العالم، لم تتوقف المقاومة، لأنهم صنعوا منه مدرسة لا مجرد شخص، وأودعوا فكرته في صدور رجال ونساء وأطفال يعرفون أنّ الرسالة لا تُدفن مع صاحبها.

المشاريع التي تموت مع أصحابها هي التي بُنيت حول صورتهم، لا حول فكرتهم. أما تلك التي تحيا بعدهم، فهي التي أسست بنية حيّة تتغذى من الفكرة وتتكيف مع الزمن، فتظل تتجدد كما يتجدد النهر، مهما تغيّرت مجاريه.

إنّ سرّ البقاء ليس أن نحيا مع قائدنا، بل أن نحيا برسالته من بعده. وحين نصنع جيلاً يرى في نفسه حاملًا للراية، لا تابعًا لها، نكون قد كتبنا للأمة عمرًا آخر. فالراية التي رُفعت في بدر، وحُملت في مؤتة، ورفرفت فوق خيبر، ومرّت من يد أبي بكر إلى عمر رضي الله عنهما، ومن جيل الصحابة إلى جيل المقاومة، لا تسقط بموت رجل… بل تسقط فقط إذا ماتت في القلوب.

علي جاد المولى

كاتب مصري ومهندس نظم مقيم في تونس، حاصل على بكالوريوس الهندسة من جامعة الأزهر، وشهادة… المزيد »

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى