في الذكرى المئوية للثورة العربية الكبرى: دلالة المواقف البريطانية

الثورة العربية الكبرى بعيون بريطانية

  • لورنس العرب

يقول جيمس نيكلسون James Nicholson في كتابه سكة حديد الحجاز The Hejaz Railway: “إنه بعد اندلاع الثورة العربية الكبرى بأشهر تراجع أداؤها في مواجهة التحصينات العثمانية في المدينة المنورة وقررت القيادة العليا البريطانية في القاهرة أن الثورة لم تكن سوى حادثة ثانوية غير مدروسة (طائشة) ذات قيمة ضئيلة للمجهود الحربي العام (في الحرب الكبرى الأولى)، ورفضت تلك القيادة التدخل لنصرتها”

وبحلول شهر أكتوبر/ تشرين الأول أصبحت قوات فيصل المحبطة والمتناقصة بسرعة في وادي صفراء هي خط الدفاع الحقيقي النهائي، وبدا أن الثورة العربية التي بدأت بنجاح باهر قبل أربعة أشهر فقط، أصبحت على حافة الانهيار. ولدى وصول لورنس العرب من القاهرة، كانت الثورة العربية على حافة الكارثة، وكان تدخل الضباط الإنجليز هو البداية الحقيقية للحرب على سكة الحجاز ، وحضور الإنجليز وحده هو الذي أفقد الأتراك المهاجِمين أعصابهم ، وعن مكانة لورنس يقول المؤلف نفسه:

“إنه امتلك إمكانات مكنته من التأثير على الحوادث في زاوية صغيرة (هي موطن الثورة) في الحرب لصالح الحلفاء”[17].

http://gty.im/463975087

ويؤكد الدكتور حسن صبري الخولي ما سبق بالقول نقلاً عن جورج أنطونيوس في كتابه يقظة العرب:

“وكان القائد البريطاني العام سير أرشيبولد موراي على قدر كبير من الغرور والضعف وكان قليل الثقة في الثورة العربية ونظر إليها أول الأمر (أي قبل التدخل البريطاني كما مر) في شيء من التحقير على أنها عمل جانبي يثير مضايقات لقوات بريطانيا وحليفاتها”[18].

ويقول دزموند ستيوارت إن الثورة العربية كانت “ذات قيمة كبيرة للحلفاء، ذلك بأن رفض أمير أقدس مدينة إسلامية للجهاد، ساعد على منع حركة تمرد في الجيش الهندي، ثم إن احتلال مكة وجدة اضطر الأتراك وحلفاءهم الألمان إلى إرسال الجنود والذخائر إلى الجنوب وإهمال خططهم الأخرى ضد قناة السويس.

  • عرب الحجاز في عين المفاوِض

بدا عرب الحجاز في نظر رونالد ستورز-مسئول المكتب العربي البريطاني الذي قام بدور هام في التفاوض مع الشريف حسين لإقناعه بالثورة-جبناء وغير منظمين. كانت الثورة العربية ذات قيمة للحلفاء، وخصوصاً لبريطانيا التي بالغت في تقدير فتح جبهة جديدة في بحر مجهول، فجاءت الثورة مقويًا حين كانت المعنويات العامة منخفضة. إن نهوض أبناء الصحراء الشجعان لتأييد بريطانيا عوض عن المذابح المستمرة في الجبهة الشرقية”

الشريف حسين
الشريف حسين

ويعلق الدكتور حسين مؤنس بقوله:

“وليت الحسين بن علي وأنصاره كسبوا فخر هذا العمل الذي قاموا به في نظر الإنجليز والفرنسيين الذين قدموا إليهم-دون أن ينتبهوا-خدمة لا تقدر”

مستشهداً بقول ستيوارت

“ذلك أن البطل الحقيقي لهذه المأساة كان -في نظر الغرب- رجلًا إنجليزيًا غريب الأطوار هو الكولونيل لورنس “[19].

التحالف مع الأجانب بين الأحلام والحقائق وصحوة فوات الأوان

  • مغزى الثورة العربية على الأتراك:

يقول الدكتور حسين مؤنس إن ممثل بريطانيا في مصر هنري مكماهون أدرك مغزى الثورة العربية على الأتراك:

فوافق موافقة شكلية على مطالب القوميين العرب المتحمسين وأصحاب الخيالات والأوهام ليدخلهم في الفخ، وكان موقفه منهم استعماريًا بريطانيًا، وقد أدرك العرب خداع مكماهون.

وحسب المؤرخ دزموند ستيوارت فقد قيدوا أنفسهم بقيدين على استقلالهم هما: معاهدة دفاعية تربط الدولة العربية ببريطانيا ومنح بريطانيا مكانة مفضلة في هذه الدولة، ولكن هناك أيضًا:

  • التحفظات على استقلال بعض الأجزاء العربية في آسيا الصغرى وسوريا والكويت وحماية الأماكن المقدسة.
  • الاستعانة بالمستشارين الإنجليز.
  • القبول بإدارة خاصة في بغداد والبصرة والتنازل عن عدن.
  • استثناء الجناح الغربي في شمال إفريقيا كله بداية من مصر من مطالب الاستقلال العربي.

وفي نهاية الأمر يرى دزموند ستيوارت أن:

” إسرائيل أصبحت هي معضلة العرب الكبرى، وهي نتيجة مباشرة لهذه الخطوة التي خطاها الحسين بن علي، لأن تركيا لم يكن قد انقطع الرجاء فيها (واستشهد بانتصاراتها في غاليبولي 1915)”

في ذلك الظرف قام الحسين بن علي بحركته فهدم الجبهة التركية الشرقية هدمًا، وتبين الأتراك أن العرب هم سبب الهزيمة، ورجل مثل مصطفى كمال نفض يده من العرب من ذلك الحين…وكان لذلك نتائجه الوخيمة…وهكذا –وإرضاء لمطامح حفنة من العرب وأوهام حفنة من الخطباء المتحمسين على منابر دمشق دفع العرب-كل العرب-ثمنًا باهظًا ولا زالوا يدفعونه.

  • تقاسُم الميراث

5يونيو (حزيران/ جوان) 1916 كان دون شك يومًا مشؤومًا… وتلك هي بداية ما سماه أمين سعيد بالثورة العربية الكبرى. لقد تقاسمت فرنسا وإنجلترا ميراث الدولة العثمانية في البلاد العربية، عدا الجزيرة، أما لبنان فقد احتلته فرنسا تحت نفس الاسم، وبدأت تحدث فيه تغييرًا جوهريًا، وهذا التغيير أصبح فيما بعد من أكبر مشاكل لبنان…وإلى يومنا هذا يعاني لبنان من هذا الوضع غير الطبيعي الذي فرضته فرنسا ولا تزال تؤيده “.

http://gty.im/104411786

  • العرب يدفعون الثمن

ويقول المؤرخ دزموند ستيوارت: “كان ثمن الثورة بالنسبة إلى العرب غاليًا في المدى الطويل والقصير، دفعوا جميعًا هذا الثمن مع أن أقل من عشرة بالمائة منهم اشتركوا في الثورة، حتى في الحجاز لم يكن الرأي العام مع الحسين، ولكن خروجه على الأتراك وما تبعه من فرار الضباط العرب وبعض الضباط الأكراد من الجيش العثماني حطم ما تبقى من الفكرة العثمانية وفتح الطريق في المدى البعيد إلى تركيا التركية “.

ويتابع الدكتور حسين مؤنس:

“عندما أدخل العمال الأتراك خط سكة الحديد من القدس إلى مكة فالمدينة، كان الحسين بن علي يحرض الأعراب على تدمير القضبان والمحطات، وقد رحبوا بذلك لأنهم كانوا يعتقدون أن سكة الحديد ستسهل الحج على الحجاج وتوصلهم إلى مكة والمدينة آمنين، فلا يستطيعون ابتزازهم وفرض الإتاوات عليهم ونهبهم.”

ولم يكن تفكير الحسين بن علي بأعلى من ذلك فقد كان يخشى أن سكة الحديد تسهل على الأتراك الوصول إلى الحجاز ومكة والمدينة.

“وإنه لمِمَّا يدعو إلى التعجب ويثير الألم أن سكة حديد الحجاز التي أنشأها الأتراك قام بتدميرها الأعراب ومن ورائهم الشريف حسين “[20].

لم يعترف الحلفاء للشريف حسين بمنصب ملك العرب (1916)، رغم الوعود التي أغدقت عليه كم الحكومة البريطانية ومنته بذلك بل بالخلافة الإسلامية، واقتصر اعترافهم على كونه “ملك الحجاز ” (1917)، كما لم يعترفوا بخلافته العربية التي أعلنها بعد إلغاء الخلافة العثمانية (1924) رغم الجهود الحثيثة التي بذلتها بريطانيا في الدعوة للخلافة العربية لمناوأة العثمانيين، ولكن لما انتهت الخلافة العثمانية لم يعد هناك أهمية للخلافة العربية فنبذت.

وقد صرح لورنس العرب بحقيقة أهداف الغرب من حركة الشريف حسين، ففي تقرير كتبه في يناير/كانون الثاني/جانفي 1916 تحت عنوان سياسات مكة قال: “إن تحرك (الشريف حسين) يبدو مفيداً لنا، لأنه ينسجم مع أهدافنا المباشرة: تحطيم الجبهة الإسلامية الموحدة وهزيمة وتمزيق الامبراطورية العثمانية، ولأن الدول التي سيقيمها (الشريف) خلفاً لتركيا ستكون غير ضارة بنا كما كانت تركيا قبل أن تصبح أداة في أيدي الألمان.

إن العرب أقل توازناً من الأتراك، وإذا عولج أمرهم بشكل مناسب فإنهم سيظلون في حالة من الشرذمة السياسية، نسيج من الإمارات الصغيرة المتحاسدة غير القابلة للتوحد، ومع ذلك يمكنها الاجتماع في مواجهة أية قوة خارجية “[21]

وهذا الاجتماع الذي يقلق لورنس ورؤساءه هو ما يعمل الغرب جاهداً لمنعه منذ تلك الأيام.

ويختم تقريره قائلا إن الشريف حسين:

“يفكر يومًا بالحلول محل السلطة التركية في الحجاز، ولو تمكنا من ترتيب هذا التغير السياسي ليكون بالعنف، سنقضي على خطر الإسلام بجعله ينقسم على نفسه في عقر داره، وسيكون هناك خليفة في تركيا وخليفة في الجزيرة العربية في حالة حرب دينية، وسيصبح عجز الإسلام كما كان عجز البابوية عندما كان الباباوات في أفنيون”[22]

وفترة أفنيون: هي فترة تراجعت فيها هيمنة البابوية وسميت الأسر البابلي للكنيسة 1309-1377 تشبيها بأسر بني إسرائيل على أيدي البابليين في القرن السادس ق.م، وقد أعقبها انقسام وصف بالعظيم نتيجة وجود بابا في روما وآخر في أفنيون 1378-1417.

وليس من العجيب بعد ذلك أن تنكث بريطانيا بوعد إقامة الخلافة العربية بعدما استنفدت أغراضها منها.

  • محاولات لورنس البائسة

يقول المؤرخ يوجين روجان: “مع اقتراب نهاية الحرب العالمية الأولى، كانت الحكومة البريطانية تتطلع إلى إبرام تحالف رسمي مع الملك حسين (بن علي) وأسرته الهاشمية، فأرسلت بريطانيا الكولونيل توماس إدوارد لورنس، الشهير باسم “لورنس العرب ” الذي لعب دور حلقة الوصل بين الحكومة البريطانية والهاشميين خلال الثورة العربية، لفتح باب المفاوضات مع حسين.

 “بين يوليو/ تموز (جويلية) وسبتمبر / أيلول 1921، حاول لورنس عبثاً إقناع الملك حسين بتوقيع معاهدة تقر بالحقائق الجديدة لتسوية ما بعد الحرب، ورفض حسين جميع ملامح الشرق الأوسط بعد الحرب تقريباً باعتبارها خيانة من بريطانيا لوعودها له: رفض أن تقتصر مملكته على الحجاز؛ واعترض على طرد ابنه، الملك فيصل، من دمشق وإعلان الانتداب الفرنسي على سوريا؛ ورفض الانتداب البريطاني على العراق وفلسطين، التي كانت تضم شرق الأردن في ذلك الوقت، واعترض على سياسة إقامة وطن قومي لليهود في فلسطين. أقدم البريطانيون على محاولة أخيرة للتوصل إلى معاهدة في عام 1923، لكن الملك العجوز الصارم رفض التوقيع أيضاً، ونتيجة لذلك خسر الحماية البريطانية في الوقت الذي بدأ فيه ابن سعود حملته لغزو الحجاز “[23].

الملك فيصل الأول بن الحسين وبجواره لورنس وبعض القيادات البريطانية
الملك فيصل الأول بن الحسين وبجواره لورنس العرب
  • الشريف حسين مادة للسخرية البريطانية

وعن وضع الشريف حسين آنذاك يقول المؤرخ جورج أنطونيوس: “ولما وجد نفسه دون معين توجه بنظره إلى إنجلترا فلم تستجب له، عندئذ كان الشعور في  “هوايت هول” (مقر الحكومة البريطانية) قد صرح بمعاداته، وأصبحت الحكومة البريطانية تعده هدفًا للسخرية ومثارًا للإزعاج، وجرت على أن تشيع حكايات مضحكة على نزوات الرجل الشيخ وبوادره، وفيها ما يثير الضحك حقًا، وكلما دارت الحكايات ولدت حكايات أخرى وخلقت رغبة في مزيد، كما هي الحال في القصص المضحكة عادة.

ابن سعود
ابن سعود

وجاء هذا في وقت أصبحت فيه تقارير المعتمد البريطاني الدورية عن الحال في الحجاز مفعمة بمادة للضحك الرسمي، فتلقى رواجًا في مكاتب “هوايت هول ” ويتناقلها الموظفون لما لها من قيمة هزلية، كذا أصبح حسين أضحوكة ولم يعد الموظفون ينظرون إليه بجد. فلما استؤنفت المفاوضات في عام 1923 كان موقف الموظفين منه أولًا مهاودة من يتسلى به، ثم صبرًا برمًا، ثم-بعد أن مرت الشهور وهو متشبث برأيه لا يتحلحل عنه-سخط المغيظ وتقزز المتخم… وحث حسين الحكومة البريطانية على أن تتدخل لتكبح جماح ذلك الرجل المغير (ابن سعود)، كما فعلت في الماضي، ولكن توسلاته ذهبت هباء “[24].

تروي الروايات التاريخية الندم الشديد الذي أصاب الشريف حسيناً في نهاية حياته [25]، وهو أمر طبيعي في ظل ما آلت إليه أحلامه الكبيرة بل وضعه الشخصي.

فهل يتعظ الذين يتحالفون اليوم مع الصهيونية والاستعمار ضد إخوتهم ظانين أن نهايتهم ستكون وردية؟

المصادر

[17] – James Nicholson, the Hejaz Railway, Stacey International, London, 2005, p. 93-96

[18] -دكتور حسن صبري الخولي، سياسة الاستعمار والصهيونية تجاه فلسطين في النصف الأول من القرن العشرين، دار المعارف بمصر، 1973، ج1 ص 167.

[19] -الدكتور حسين مؤنس، تاريخ قريش، دار المناهل للطباعة والنشر والتوزيع والعصر الحديث للنشر والتوزيع، 2002، ص784

[20] نفس المرجع، ص 777-787.

[21] Phillip Knightley and Colin Simpson, The Secret Lives of Lawrence of Arabia, McGraw-Hill Company, New York, 1969, p. 60-61

[22] -نفس المرجع، ص70-71.

[23]-يوجين روجان، ص 232.

[24] -جورج أنطونيوس، يقظة العرب: تاريخ حركة العرب القومية، دار العلم للملايين، بيروت، 1978، ترجمة: الدكتور ناصر الدين الأسد والدكتور إحسان عباس، ص 455.

[25] –مصطفى أرمغان، السلطان عبد الحميد والرقص مع الذئاب، الدار العربية للعلوم ناشرون، بيروت،2012، ترجمة: مصطفى حمزة، ص 144-145.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى