قراءة في كتاب فن الحرب

ينبهر الكثير من فئة الشباب بهذا الكتاب (حتى غير العسكريين منهم)، وقد اعتادوا على تسمية هذا الكتاب بأنه أقدم وأفضل كتاب فكري واستراتيجي عن الحرب. لا أقصد من العنوان الذي وضعته أن أفند فوائد الكتاب، لكن كما يقُال لا يعلم طالب العلم خطأ شيخه حتى يجلس لغيره، والكثير من قُراء الكتاب كما يبدو اقتصروا في الاطلاع على المعارف العسكرية على هذا الكتاب لبساطته وسهولة فهم الكثير من فقراته بالإضافة لبديهية الكثير من فقراته.

غير أنّنا إذا ما قارنّا هذا الكتاب بغيره من كتب فن الحرب ندرك منها حقيقة أن كل كاتبٍ في هذا الفن -دون استثناء- له خلفية فكرية وفلسفية استند عليها في تأليف الكتاب. والفلسفات هي نتاج فكر البشري، فمنها الصالح والطالح ولها جوانب قصور، عدا عن مصادمة بعضها للدين.

هذا عدا عن كون بعض كلام الكتاب لم يعد صالحًا للتطبيق في عصرنا الحديث بصورته الحرفية. وبمعرفتك لهذه الجوانب في الكاتب تستطيع معرفة الحجم الحقيقي والمكان الصحيح لبعض النصائح والفوائد التي يذكرها في الكتاب. فبعض ما قد يراه الكاتب إذا ما دققت فيه لرأيته خاطئًا أو باطلًا أو لا يجوز الأخذ به، أو قد لا يصلح على الأقل الأخذ به على الدوام أو بصورته الحرفية، وتركيزنا في هذه المقالة هي على الفوائد ذات الجانب الفكري والسياسي والاجتماعي فيها.

وراء كل كتاب فلسفة

يتحدث سون تزو عن أول عاملٍ من العوامل الخمسة التي ذكرها في الفصل الأول عمّا يُعرف بالقانون الأخلاقي (التاو أو الطاو)، وما يتضمنه من الانسجام بين القادة والجنود. من هذه الكلمة تستطيع أن تدرك أن الكاتب يؤمن بالعقيدة الطاوية [Taoism)[1)، وهي فلسفة صينية تتضمن فكرة وحدة الأضداد وأن الكون مؤلفٌ من الين واليانج ويتجسد من التوازن بينهما الطاقةُ المُطلقة (الطاو)، ومؤسسو المذهب الأوائل هذا ينكرون وجود الإله، لكن المتأخرين من بعدهم رأوا في هذا الطاو أنّه هو الإله وله تجليات ما دام تحقق التوازن بين الين واليانج، وهذان الأخيران هما كل زوجٍ من ضدين من المخلوقات، يحقق التوازن بينهما الفائدة والحصول على طاقة الإله (أو الحلول تعالى الله عن ذلك)، فهذه العقيدة ضمّن فيها متأخروها عقيدة وحدة الوجود، والأمثلة على الين واليانج كثيرة جدًا في التطبيقات الصينية، فهم يعتبرون الذكورة والشمس والحرارة والنشاط هي الين، بينما الأنوثة والقمر والبرودة والراحة هي اليانج وكل أمور الحياة.

ويتجلى الطاو أو يتم الحصول على الطاقة المطلقة بتحقيق التوازن بينهما، فبالتوازن بين الذكر والأنثى يتحقق التوازن والسعادة في الأسرة. بل وتصل تطبيقات الفكر هذا على الطب الصيني القديم، مثل اعتبار المعدة هي الين (وما تفرزه من الحموضة) والكبد (وما تفرزه من القلويات) هي اليانج وتحقيق التوازن بينهما يحقق سهولة الهضم والصحة الغذائية. والعكس بالعكس، فحدوث أي اضطراب في هذه التوازنات يسبب الضعف.

وهذا اقتباس من موقع السبيل عن العقيدة الطاوية: الطاوية ترى أن الأصل المطلق (طاو) انبثقت عنه “بيضة كونية”، ثم انقسمت إلى نصفين، فتكونت الأرض من نصفها السفلي الثقيل المظلم (ين)، وتكونت السماء من نصفها العلوي الخفيف المضيء (يانغ)، ثم تشكل بينهما الإنسان الأول بان كو.

وتركز الطاوية جل اهتمامها على التوازن الافتراضي بين الين واليانغ، كما تزعم أن الطاقة الكونية “برانا” أو “تشي” ما زالت سارية في الكون كما تسري الروح في الجسد، ولكي تستمر حياة الإنسان فإن على الجسم أن يمتلك البرانا أو التشي، وإلا فإن أي نقص سيؤدي إلى خلل في توازن النقيضين الين واليانغ ومن ثم إصابة الإنسان بالأمراض الجسدية والنفسية.[2]

وبذلك تُدرك سبب تركيز سون تزو على قضية الانسجام بين القادة والجنود على اعتبار القادة هم الين والجنود هم اليانج وجعله لهذا التوازن أول عامل. لا ينكر عاقل أهمية هذا الانسجام داخل الهيكلية العسكرية، لكن من المؤكد ولكل قارئ على اختلاف خلفيته الدينية والفكرية والاجتماعية والحياتية، لن يجعل هذا المبدأ بالضرورة أهم وأول مبدأ من مبادئ الحرب.

الجميع بين النقيضين على نحوٍ فجّ

يحاول كثيرًا المؤلف جمع النقائض والأضداد بهذه الطريقة التي تبدو أحيانًا مثالية أو متناقضة على نحوٍ غير منطقي، كما في المباغتة (نفصل فيها لاحقًا)، وفي الفصل السابع؛ عند المسير كن مثل الريح سريعًا لا تترك أثرًا وكن محكمًا مثل الغابة! والتماسك بين القوات والسرعة في ذلك الوقت تحقيقهما في آن واحدٍ في غاية الصعوبة. وعند الإغارة والسلب يقول كن مثل النار الملتهبة وراسخًا مثل الجبل!

من المثاليات أيضًا في بداية الفصل الثاني:

هكذا فإن القتال والانتصار في جميع المعارك ليس هو قمة المهارة، التفوق الأعظم هو كسر مقاومة العدو دون أي قتال.

وهذا الكلام أيضًا من نتاج الفلسفة الطاوية، فأفضل انتصار في حالة الحرب (الين) هو في حالة السلم (اليانج)، ولا يخفى استحالة انطباق هذا الكلام على واقع الإنسان لما فيه من المثالية المفرطة وما قد يبدو من ظاهره هو التناقض، فلا بد من المعركة في لحظةٍ ما من الحرب.

وإن كان من حقنا معرفة مقصود الكاتب تمامًا، فهل سون تزو مثله مثل المفكرين العسكريين الأخرين ممّن اختلفوا عبر التاريخ على تقديم (أو تأخير) أهمية (المعركة) على ما يسبقها سواءً من مناوراتٍ عسكرية ضمن (الحملة) والتي يسعى منها أحد الطرفين المتقاتلين لوضع خصمه من الطرف الثاني في ظرفٍ غير مواتٍ تدفعه للانسحاب؟ أم ما يسبق كل هذا من مناوراتٍ (سياسية) تضع العدو في وضعٍ يردعه عن الحرب من التحالفات والأحلاف والمعاهدات؟ تبقى في الحياة الواقعية أنه لا بد من المعركة ولها أهمية كبرى عبر التاريخ، ولا يوجد انتصارٌ في التاريخ تحقق بدون دماء.

ومع العصر الحديث ولما أصبحت ساحة الحرب تشمل كامل أراضي الدول المتقاتلة وتطورت وسائط الحروب والأسلحة النارية، لم تخلُ المناورات العملياتية (الحملة في العصر الحديث على وجه التقريب) من عمليات القتل الواسعة والتي قد تزيد على قتلى المعارك؛ فيبقى لنا في هذا العصر استخدام المناورات السياسية، وهي في هذا العصر ممكن تطبيقها بين الدول في بعض أنواعها بإقامة التحالفات والمعاهدات التي تهيئ أوضاعًا سياسية غير مواتية للخصم في الحروب، أو شنّ حروبٍ باردة أو بعض أشكال الحروب الهجينة أو حروب بالوكالة (إذا كنّا نريد تجنب المعركة المباشرة بين دولتين قويتين) كما حدث في فيتنام وحرب أفغانستان والسوفييت، وبالطبع لا يخلو هذا الأسلوب من استنزافٍ للطرفين ماديًا وبشريًا بنسبةٍ ما -وهو ما لا يحبذه سون تزو- ومع ذلك فمن الممكن تحقيق هذا المبدأ نسبيًا.

الجبن الصيني

سور الصين العظيم الذي بني لحماية الإمبراطورية من هجمات المغول والترك.

ولا يخلو تفضيل سون تزو عن الابتعاد عن المعارك أن يكون جزءًا من الميل النفسي الصيني للمسالمة (أو حتى كما يسميه البعض -بلفظٍ أكثر صراحةً- جزءًا من طابع جُبن الصينيين). وفي تفسير سبب ذلك، يرى المارشال مونتغمري في كتاب الحرب عبر التاريخ أن أسباب الحروب (خاصةً في بداية عصر التاريخ) يعود في الغالب للتنافس على ثروات الأرض والمراعي والموارد المائية، أما الصّين فقد حباها الله بثرواتٍ طبيعيةٍ ضخمة جدًا لإطلالها على محيطين ضخمين (الهادئ والهندي) وأرضًا واسعةً جدًا، فأقل تنافسٍ وتدافعٍ على ثروات منطقةٍ معينة في الصين كان يدفع بأحد الطرفين إلى مجرد الترحال لمسافة قريبة للحصول على نفس تلك الثروات في مكانٍ آخر قريب. وهو ما يراه مونتغمري ما أبطأ من تطور فن الحرب لدى الصينيين [3]، وإن كنتُ أرى أنّه دفعهم على الأقل لتفضيل المخادعة والأسلوب غير المبا شر في الحرب على الأسلوب الصدامي المباشر. وما يدل على طبع المسالمة لديهم ما جرى بين ملك الصين ورسل قتيبة بن مسلم الباهلي فليُرجَع إليه.

ومن الضروري أن أنبه أن الصين الحديثة لا تطابق الصين التاريخية، فالصين الحديثة احتلت مساحاتٍ واسعةً خارج مناطق انتشار العرق الرئيسي الذي يُعرف بالهان، الذي عرُف تاريخيًا بهذه الطبيعة المسالمة الصينية.

نصر مضمون على طريقة سون تزو!

أما ما يتعلق في فقرة أن اتباع مشورته تضمن النصر ومخالفتها تضمن الهزيمة [4]، فإن كسب الحروب -حتى عند الغربيين- هي أعقد من مجرد حصرها في اتباع مجموعة من النصائح والحكم والمبادئ العسكرية يلقيها حكيم أو خبير عسكري. وهذا كان مدار خلاف أشهر منظرَي فنون الحرب في عصر النهضة الأوروبية (كلاوزفيتز الألماني وجوميني السويسري) وفارق بين منهجين فلسفيين في تناول تلك العلوم، فالأسلوب الوصائي (لجوميني) في تحديد مجموعة مبادئ تجلب النصر والذي يشبه أسلوب كتابة سون تزو، وقد كان شائعًا في بداية عصر النهضة الأوروبية، إلا أنّنا نستطيع القول بأنّه لا يكفي فهم هذه المبادئ لكسب الحرب، فالحرب أعقد من مجرد وصفة ينبغي اتباعها لتنتج النصر، لما فيه من عوامل الصدفة والحظ وعلم الغيب والضبابية وعوامل النفس ومشاعرها من الخوف والرعب وما يحدثه من تأثير الاحتكاك (كما يسميه كلاوزفيتز) والتي ينبغي مراعاتها أو على الأقل أخذها بالحسبان، وهذا هو منهج كلاوزفيتز في تفسير الحرب، فهو لا يضع وصفة نصر، ولكن يضع آلية فلسفية ليفكر بها الفرد في ماهية الحرب، وهذا النهج الأخير هو المُفضّل اليوم في المدارس الحربية عالميًا.

وتخيل معي ببساطة لو أنّ الطرفان قرأا كتاب سون تزو وهضماه هضمًا كاملًا لجميع مبادئه وقواعده، فيا ترى من سينتصر منهما إذا كان النصر مضمون لمن يصغي لمشورته؟ وبضرب مثالٍ حديث قريبٍ من الأذهان، فقد طُرح مثل هذا السؤال في المدارس العسكرية الأمريكية التي اعتمدت كتابات جوميني، وجاء على هيئة امتحانٍ حقيقي عُرف بالحرب الأهلية الأمريكية، حيث كان الطرفان (قوات الشمال وقوات الجنوب) قد درسوا مبادئ جوميني دون أي مذهبٍ آخر، وكانت النتيجة أعقد من أن يُجاب عنها بمثل تبسيطة سون تزو (مِنْ ربط النصر بإتقان فهم وحفظ مبادئ معينة).

وعودةً على نقد سون تزو في هذه النقطة، فنحن المسلمون ندخل العوامل الإيمانية والغيبية كجزءٍ أساسيٍ في حسباننا لعوامل النصر والهزيمة، وهذه العوامل تغيب في كل كتابات غير المسلمين عن فن الحرب وعوامل النصر، وليس لفردٍ أن يتألى على الله بضمان النصر لطرفٍ ما، فالله يؤتي نصره من يشاء.

المباغتة في العصر الحديث

بالنسبة لمفهوم الخدعة عند سون تزو، فمن الطبيعي موافقته من حيث المبدأ، أما من التفصيل فلا يخلو من المثالية الطاوية ومحاولتها جمع الأضداد دائمًا؛ من إظهار الضعف في حال القوة وإظهار القوة في حال الضعف، وإظهار البعد في حال الاقتراب وإظهار القرب في حال الابتعاد [5]، والسعي لاغتنام مدينة العدو كاملةً بدون تدميرها وأسر الجيش بأكمله بدلًا من تدميره، وقهر العدو دون أي قتال [6].

بعض هذه الخدع جيدة وقد استن بها النبي -صلى الله عليه وسلم- والكثير من قادة الإسلام والقادة الناجحين عبر التاريخ، لكن يستحيل في عصرنا الحديث تطبيق معشار تلك المباغتة والأخاديع خاصةً مع تقدم وسائل الاتصالات والرصد والمراقبة والاستطلاع وتضخّم الجيوش كل هذا التضخم.

الخدعة في هذا العصر أحيانًا تقتصر على مفاجأة العدو باستخدام سلاحٍ جديدٍ أو أسلوبٍ قتاليٍ جديدٍ أو حتى مجرد إخفاء وتمويه الاتجاه الرئيسي للمعركة من بين عدّة اتجاهاتٍ أخرى يحدث عليها القتال. لكن ينبغي الإشارة أنّ هذه الأساليب الخداعية يمكن تطبيقها تمامًا في حرب العصابات، وهو ما يجعل كتابات سون تزو مفضلة لمنظري حرب العصابات، من أمثال ماو تسي تونغ (قائد الثورة الشيوعية الصينية ومؤسس الصين الحديثة).

إطالة الحرب ليست بالأمر السيء دائمًا

يحثّ سون تزو في نهاية الفصل الثاني على أن يكون هم القائد البحث عن النصر السريع، لا إطالة أمد الحرب، ويكرس باقي الفصل لتوضيح أضرار الحرب على الاقتصاد والدولة. ولكن نستطيع أن نقول إن القائد الصيني الشيوعي ماو (وهو من المتأثرين بكتابات سون تزو جدًا) قام بالعكس تمامًا، وقد انتصر على القوميين الصينيين والمحتلين اليابانيين باستخدام عكس هذا المبدأ تمامًا، من سعيه في إطالة أمد الحرب، وله فصلٌ خاص عن فائدة “الحرب طويلة الأمد” في كتابه ستّ مقالاتٍ عسكرية.

وباختصار يعود هذا الأمر إلى أن الطرف الأضعف (لكن الألصق بالأرض والشعب) هو من يستطيع تكلف حربًا طويلةً على عكس الجيوش الغازية والحكومية، خاصةً وأن فارق القوة بين الجيوش الغازية وقوات العصابات وحركات التمرد هائلٌ، ما يجبر تلك الحركات على الاعتماد على البعد الشعبي في نضالها التحرري، واليوم هذه الفكرة (إطالة الحرب) هي سلاحٌ خطير تسعى جميع حركات التحرر والمقاومة لتوظيفها ضدّ خصومها. أما في الجيوش النظامية فكلام سون تزو هو الذي غالبًا ما ينطبق عليها.

عشرةٌ ألا يغلبوا واحدًا؟!

في نسب القوى التي يذكرها في الفصل الثالث، يظهر أثر النفسية الصينية المُسالمة، فهو يذكر في حال كان لديك نسبة قوى لصالحك ضد عدوك 10:1 فينصح سون تزو بالاكتفاء بالحصار! ويُرشد إلى خياراتٍ مختلفة مع انخفاض هذه النسبة لغير صالحك، حتى إذا ما تساوت النسبة أو قلت لغير صالحك فينصح بالهروب [7]، وشتان بين ما نصح به سون تزو وبين التطبيق التاريخي لنسبة القوى في المعارك. وفي كتاب ربنا أمر الله تعالى الصحابة في البداية بثبات الواحد منهم مقابل العشرة، فقال تعالى: (إِن يَكُن مِّنكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ ۚ وَإِن يَكُن مِّنكُم مِّائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفًا مِّنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَّا يَفْقَهُونَ) (الأنفال: 65) وجاء التخفيف بعدها في آية (الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا ۚ فَإِن يَكُن مِّنكُم مِّائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ ۚ وَإِن يَكُن مِّنكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ ۗ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ) (66) فأباح الله للمسلم الفرار أمام أكثر من اثنين فقط بعد أن كان في بداية الإسلام عشرة.

قال محمد بن إسحاق: حدثني ابن أبي نجيح، عن عطاء، عن ابن عباس، قال: لما نزلت هذه الآية ثقلت على المسلمين، وأعظموا أن يقاتل عشرون مائتين، ومائة ألفًا، فخفف الله عنهم فنسخها بالآية الأخرى فقال: (الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا)، فكانوا إذا كانوا على الشطر من عدو لهم لم ينبغ لهم أن يفروا من عدوهم، وإذا كانوا دون ذلك، لم يجب عليهم قتالهم، وجاز لهم أن يتحوزوا عنهم.[8]

ومع ذلك فروايات تاريخ غزوات المسلمين تشير كلها أن المسلمين أخذوا بالعزيمة في كثيرٍ من الأحيان، وثبتوا في أقل الإحصاءات أو التقديرات أمام ما لا يقل عن ثلاثة أضعافهم، محققين انتصارات حاسمة صنعت مجرى التاريخ. وليس المطلوب من القائد المسلم تعريض جنوده للقتل، لكن الجهاد في الإسلام قائمٌ على بذل النفوس والأموال وتحمل المخاطر.

صلاحيات السياسي والعسكري

يذكر سون تزو في الفقرة 17 من الفصل الثالث بأن من ينتصر هو قائد (عسكري) لديه كامل الصلاحيات ولا يتدخل الحاكم (السياسي) معه في حيثيات عمله. ولعل أن هكذا كان نظام الحكم لديهم، بفصل سلطات السياسيين والعسكريين تمامًا في الصين القديمة.

أما عبر التاريخ، فهذا التقسيم والتوازن في السلطات كان على مدى التاريخ خلافًا مستمرًا أثناء الحروب. وقد اشتُهر وطغى مفهوم كلاوزفيتز في أن الحرب استمرار للسياسية في العصر الحديث (أي أن العسكرة تتبع أوامر السياسي لا العكس)، منعًا من تغول الحرب والوصول بها إلى مستويات لا نهائية من العنف.

ولتبيان ما يضمّه أمر الصلاحيات المطلقة للعسكري من مخاطر، فأقرب مثال من كلاوزفيتز هم الألمان الذين جاءوا بعده في الحربين العالميتين الأولى والثانية، فقد خالفوا تلك النصيحة في اتباعهم لنهجٍ سُمي بالحرب الشاملة، وفيه أخضعوا الألمان السياسية لأهداف العسكري. وانتهى بهم أسلوب التفكير هذا إلى ما حدث من التدمير الهائل من جراء تلك الحربين.

بقي أن نذكر أن الخلاف الباقي في العصر الحديث هو؛ هل للسياسي سلطة في التأثير على حيثيات العمل العسكري إذا ما ارتأى العسكري وسائل معينة؟ فمقولة سون تزو في أقل أحوالها لا تسلم اليوم من الجدل، ولا ينبغي التسليم لها كأنّها حقيقةٌ لا نقاش فيها، فكلما ازداد عنف الوسائل التي يتخذها العسكري في الحرب، فقد يدمر كل مساعي السياسي لجني مكاسب ما بعد الحرب بالمفاوضات بدفع العدو للرغبة في المزيد من الانتقام ورفع سقف أهدافهم العسكرية حتى ينتهي الحال إلى حرب لا حدود لها يُهزَم فيها أقل الطرفين قدرة على تحمل الاستنزاف، بينما يخرج الطرف الآخر منها منتصرًا لكن بفاتورةٍ باهظةٍ في الدماء والموارد. والعكس أيضًا قد يكون صحيحًا، فالمبالغة في تقييد صلاحيات العسكري قد تُفشل من عمله، وتكمن الصعوبة إلى يومنا هذا في تحديد ذلك الفاصل بين صلاحيات السياسي والعسكري.

يذكر سون تزو في بداية الفصل الخامس أن طريقة تنظيم وإدارة قوة كبيرة هي ذاتها طريقة تنظيم وإدارة فرقة صغيرة. إن هذا الأمر من الممكن أنه صحَّ في الأزمان القديمة؛ عندما كانت أضخم الجيوش لا تتجاوز بضع عشرات الآلاف، ولا يمكن حتى الفصل والتمييز بين التكتيك والاستراتيجية بسهولة، وكان هناك فصلٌ واضحٌ بين سلطات السياسي والعسكري (كما يُحبّذ سون تزو) في الصّين.

أما في عصرنا الحديث فقد تضخمت الجيوش حتى بلغت مقادير لم تُعرف في تاريخ البشرية، فمثلًا بلغ تعداد الجيش الألماني عام 1940 خمسة ملايين جندي والجيش السوفييتي بعد قيامه بالتعبئة العامة في هذه الحرب بلغ تعداده 30 مليون جندي، وهي أرقام ليس لها مثيل في التّاريخ، وقد عمد المخططون العسكريون نتيجة تعقد الحرب وتضخم الجيوش إلى فصل مستويات التخطيط العسكري إلى ثلاث مستويات متمايزة (تُعمل فيها المؤسسات الإدارية اليوم حتى الآن):

  1. الاستراتيجية (أعلى مستوى).
  2. العملياتية (الوسطى).
  3. التكتيكية (أدنى مستوى).

ولكل مستوى حجم معين من القوات والموارد المطلوب إدارتها من قبل قائد عسكري ذي خبرة ومعرفة ورتبة تؤهله لهذه القيادة، ولا يتأهل كل من عرف القيادة في المستويات الدنيا للقيادة على المستويات الأعلى. هذا عدا أن السياسي اليوم تداخلت مهامه مع مهمة العسكري (تأثرًا بنظرية كلاوزفيتز)، فاليوم كلما ارتفع العسكري رتبةً ومنصبًا في العمل العسكري لاحظ زيادة تأثير عمل السياسيين من فوقه على عمله وصلاحياته، والسياسي سيؤثر على عمل القيادات العسكرية بما يرتضيه من أهدافه ومن بعدها يحدد الوسائل لتلك الأهداف. مع ذلك، فيجب أن نقرّ بأن هناك تشابه يبقى بين قيادة الجموع الكبيرة والصغيرة كما ذكر سون تزو.

وفي الختام يبقى أن لكل شعبٍ ما يناسبه ويتخذه من أساليب الحرب وفنونه، والنظر لما لدى الشعوب يفيد في اكتساب الخبرات. لكن لا يصلح تقليدهم في كل أمرٍ نظرًا للاختلافات في الخلفيات السياسية والاجتماعية والاقتصادية فضلًا عن الدينية، مما يُحتّم اختلاف نظرة تلك الشعوب للحرب وتفسيرها له وتحديد طرق خوضها.

انقر هنا لتحميل نسخة رقمية من الكتاب على موقع رشف.

المصادر

  1. الفصل الأول من الكتاب، الفقرات الرابعة والخامسة والسادسة.
  2. اليوغا.
  3. كتاب الحرب عبر التاريخ، فيلد مارشال مونتغمري، ترجمة العميد فتحي عبد الله النمر، ص526 وص539 بتصرف.
  4. الفصل الأول، الفقرة 15.
  5. الفصل الأول، فقرة 19.
  6. الفصل الثالث، الفقرة الأولى والسادسة.
  7. الفقرتان الثامنة والتاسعة.
  8. تفسير الآية لابن كثير.

عبد الوهاب البغدادي

مترجم وصيدلاني

مقالات ذات صلة

‫3 تعليقات

  1. ما الغريب في الكلام يا أخ فراس؟
    الشواهد التي تذكر طاوية سن تزو أكثر من أن تحصى وللعلم الكثير من الترجمات العربية تذكر ذلك في مقدمتها واكتب اسم سن تزو بالانكليزي مع كلمة Taoism تجد الشواهد في محركات البحث ويتعاملون مع هذا الأمر على أنه عادٍ جدا بل ويعين على فهم كلامه… كل ما أردته أن نفهم كلام سن تزو ضمن هذا السياق حتى نستطيع تمييز ما يصلح لنا مما لا يصلح

    وبصراحة جميلة فكرتك بسحب موضوع الانسجام الى الجانب العقائدي لكن الترجمات التي بين ايدينا لا تدل على ذلك، انما هو مجرد الانسجام النفسي بين الجندي وقائده… وطاوية المبدأ الذي ذكره لا يعني أنه غير مفيد، انما أحببت أن نعلم ما هو المقصود منه وأن نضعه في مكانه الصحيح في الوقت الذي يجعله سن تزو أول وأهم مبدأ حربي ويكرره في الكتاب
    وبالنسبة لإطالة الحرب غير مفيدة دائما فلماذا نجحت الكثير من الحروب العصابات الحديثة-مثل الصين الشيوعية وأفغانستان- وقد اعتمدت مثل هذه الاستراتيجية؟ يجب أن تدرك أثر الفارق المجتمعي والحضاري الذي أدى لهذا الاختلاف…فالحروب قديما كانت في معظمها جهدا منظما مركزيا على مستوى دولة ولم تكن الثورات كثيرة ومنظمة مثل الان في العصر الحديث…واليوم البعد الشعبي-اذا ما تم شحنه لصالح طرف- فسيستطيع به خوض حروب طويلة تؤدي به للانتصار والصين الشيوعية خير دليل على ذلك وماثل أمامك…على عكس حروب الدول التي تعتمد على عمل جيوش نظامية مكلفة ومأجورة

    لعلي أطنبت في هذا الموضوع، لكن من خاض
    الحروب يدركه هذا الأمر…هل مجرد اتقانك لفهم كتاب عسكري يضمن النصر؟ كمسلم جوابك كلا بالطبع…ومن الناحية المادية أيضا هناك الكثير من العوامل تلنفسية التي تجري في الحرب والتي تجعل ابسط المفهومات هي أصعب الأمور خلال المعركة… بكلام آخر التنظير سهل لكن التطبيق أمر مختلف تماما وهذا ما أحببت الاشارة اليه

  2. كلام غريب جدا

    حتى لو تكلم الكاتب عن الطاوية فالعبرة بالفكرة وليست بالطاوية نفسها وكلامه صحيح في مكانه حيث أن وحدة العقيدة في الجيش أمر في غاية الأهمية

    أما إطالة الحرب فهي أمر سيء لا محالة فالناس تترك القضية وتنفض عنها والبلد تتأخر والموارد تستنزف

    أما الاستدراك على الكاتب بقوله: من تبع كلامي فله النصر فاستدارك في غير مكانه بالمرة

    في الحقيقة المقال سطحي جدا وهذا اللفظ للتقييم لا للإساءة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى