التتار.. مسلمون لا نعرفهم

يبقى دائمًا في التاريخ مناطق سوداء معتمة، يصعب معرفة حقيقتها، وإحدى هذه المناطق السوداء هي حضارة التتار. قيل إنها تعود إلى ما قبل الإمبراطورية المنغولية، وكثيرًا ما يتم الخلط بين التتار والمغول، مما يؤدي إلى تضخيم إمكانات هذه الحضارة وتقزيم وجودها؛ فيجد الإنسان نفسه في منطقة يصعب التأكد مما ذُكر فيها. ولكن يمكن للباحث أن يستعرض ما قيل عنها ليتعرف على مسلمين تم تغييب سيرهم.

التتار في الأصل كانوا مجموعة من القبائل التركية التي عاشت في منطقة السهوب الواقعة شمال بحر قزوين والبحر الأسود. لاحقًا، أصبح المصطلح يستخدم لوصف مجموعات أخرى تأثرت بالإمبراطورية المغولية، وخاصة في روسيا. فهم تحالف من القبائل التركية تم غزوها من قبل المغول بقيادة جنكيز خان في القرن الثالث عشر الميلادي، وتعرضت للتنكيل. ورغم ذلك، يعتبر الكثيرون أنهم عرقيات انقرضت، ولم يتبق منها اليوم سوى بعض الأقليات في آسيا الوسطى وكازاخستان وعند نهر الفولغا. ويتحدث التتار لغة خاصة بهم، وهي جزء من اللغات التركية.

اللغة التتارية

اللغة التتارية جزء من مجموعة اللغات التركية، ويعتقد بعض اللغويين بأن التركية هي من عائلة اللغات (الألطية)، وهي تضم ثلاث أُسر لغوية (اللغة التركية، والمنغولية، والمنشورية). وتعتبر اللغة التتارية اللغة الرسمية لإقليم تتارستان، وهذا الإقليم يُعد جزءًا من الاتحاد الروسي. كما تُستخدم أيضًا في عدة مناطق أخرى مثل باشكورتوستان، وماري أل، ودمرتيا، وموردوفيا، والعديد من المناطق الأخرى في روسيا؛ وفي كل من أوزبكستان، وكازاخستان، وأذربيجان، وقيرغيزستان؛ وأيضًا طاجيكستان، وتركمانستان وبعض مناطق الصين.

عدد التتر في روسيا وفقًا لتعداد عام 2021م، يبلغ 4.7 مليون نسمة. وفي روسيا أيضًا يتحدث 3% من سكان روسيا اللغة التتارية، أي ما يزيد عن 4 ملايين شخص، بحسب تعداد عام 2010م. إلا أن العدد انخفض ففي إحصائية عام 2020م، بلغ عدد من يتحدث اللغة التتارية حوالي 3 ملايين شخص تقريبًا. وخارج روسيا هناك أيضًا متحدثون بالتتارية في عدد من البلدان الأخرى، بما في ذلك أوزبكستان (702000)، وكازاخستان (104000)، وتركمانستان (51800)، والصين أيضًا.1

ونظام الكتابة عندهم كان مستندًا على المخطوطات العربية حتى عام 1927م. في عام 1939م فُرضت الأبجدية السيريلية، أي لغة القومية السلافية الروسية، على اللغة التتارية واللغات التركية الأخرى التي يتحدث بها الاتحاد السوفيتي. ولكن قرارًا حديث العهد جعل اللغة تستخدم الأبجدية اللاتينية مرة أخرى. 

الحديث عن اللغة التتارية يجعلنا نقف أمام حقيقة أن التتار قوم يختلفون عن المغول، رغم أن الكثير يخلط بينهما إلا أن هناك فرقًا بين المغول والتتار.

الفرق بين التتار والمغول 

كثيرًا ما يتم الخلط بين المغول والتتار، إلا أن هناك من يفرق بينهما كشعبين مختلفين، وهما أبناء عمومة مع الترك. كان كلاهما يسكن هضبة منغوليا، فيقطن التتار جنوبها جهة الصين، ويسكن المغول شمالها جهة سيبيريا.

وكانت مراعي المغول تمتد صيفًا حتى أقاصي سيبيريا. وقيل إن التتار حضارة بدائية، إلا أن هناك من المؤرخين من يؤكد أن حضارة التتار كانت متقدمة ومتطورة، وكانت هي آخر الأسر الحاكمة لشمال الصين قبل سقوطها على يد (جنكيز خان). 

دخل التتار بعد أن تم قتل العديد منهم تحت حكم المغول في مطلع القرن السابع الهجري، الموافق للثالث عشر الميلادي. وقد سيطر (جنكيز خان) بذلك على بلاد خوارزم وفارس وروسيا وأجزاء من الصين.

وعند المؤرخين المسلمين كثيرًا ما يتم إطلاق لفظ التتار على المغول والتتار على حد سواء لعدة أسباب؛ منها أن التتار كانوا هم طلائع المحاربين للبلاد المسلمة، حيث إن المغول كانوا يقدمونهم لتجنب الخسائر في صفوف المغول، فيضعون في مقدمة الجيش التتار. كما أن المغول اعتادوا على الأجواء الباردة كونهم من سكان هضبة منغوليا وسيبيريا، فكانوا بعد الغزو غالبًا ما يرجعون إلى بلادهم ويتركون البلاد بقيادة التتار. 

بالإضافة إلى أن المغول والتتار يتشابهون شكلًا؛ مما جعل المؤرخين المسلمين ينسبون الجميع إلى التتار فيطلقون على المغول أيضًا اسم التتار.

والتمازج بين التتار ومن جاورهم من القبائل، خاصة المغول، جعل الحديث اليوم عن التتار يختلف عن السابق. فأين التتار بلغتهم وثقافتهم التي اختلفت عن المغول؟

التتار الجدد 

بعد أن تم إبادة التتار على يد (جنكيز خان) وامتزج من تبقى منهم مع قبائل المغول، ظهر ما يسمى التتار الجدد؛ وهم قومية مختلطة (ترك-مغول-تتر)، وهم أسلاف ونواة دولة القبيلة الذهبية التي أسسها حفيد (جنكيز خان). 

امتدت أراضي القبيلة الذهبية في ذروتها من سيبيريا وآسيا الوسطى إلى أجزاء من أوروبا الشرقية، من جبال الأورال إلى نهر الدانوب في الغرب، ومن البحر الأسود إلى بحر قزوين في الجنوب، بينما تحدها جبال القوقاز والبحر الأبيض المتوسط.

هؤلاء التتار الجدد، أسلافهم من المغول كانوا يرفضون أن يُطلق عليهم تسمية التتار وأصولهم مُختلف عليها. بالأصل لم يطلقوا على أنفسهم تسمية التتار، لكن الروس والأوروبيين هم من أطلقوا عليهم التسمية وتقبلوها.

وعليه يمكن اعتبار التتار، بعد إبادتهم من جنكيز خان، جزءًا من المغول، ودولتهم هي التي غزت بلاد المسلمين، وكان لهم نصيب من الإسلام. فكيف عرف التتار الإسلام إذا؟

التتار والإسلام 

التتار والإسلام

لقد انتشر  الإسلام في آسيا منذ القرون الهجرية الأولى على يد القائد المسلم (قتيبة بن مسلم الباهلي) في سنة 94 هـ. قاد قتيبة حملة عسكرية ناجحة أسفرت عن فتح مدن خوارزم، وبخارى، وسمرقند، بولخ، وكاشغر، وكانت تلك الأخيرة آنذاك عاصمة للصين، وهي الآن إحدى أشهر مدن تركمانستان الشرقية التي تخضع للصين. ولكن المسلمين لم يصلوا إلى مناطق أبعد من ذلك.

وعند الحديث عن الإسلام والتتار، الذين كانوا جنودًا في جيش الإمبراطورية المغولية التي أسسها (جنكيز خان)، يجب ذكر (خانيتهم)، وهي القبيلة الذهبية. 

شكلت القبيلة الذهبية الجزء الأكبر من الإمبراطورية المغولية التي أسسها جنكيز خان، وتم تقسيمها بين أولاده وأحفاده بعد وفاته. (باطو بن جوجي) بن جنكيز خان أسس هذه الخانية واحتل مناطق واسعة في بلاد القفجاق والبلقار (الصقالبة) والفولغا، وحتى حدود إيران وآسيا الصغرى.

وقد اعتنق مغول القبيلة الذهبية الإسلام منذ عهد (بركة خان)، شقيق (باطو)، وتبعه السواد الأعظم من رعيته، وأصبحت الخانية دولة إسلامية تحتفظ بعلاقات ودية مع المماليك في مصر والشام. ثم تحالف مع (الظاهر بيبرس) السلطان المملوكي في مصر ضد أسرة (هولاكو) في فارس.

وعندما انتشر المغول في بلاد الصين، اعتنق بعض ملوكهم الإسلام في القرن السابع الهجري وجعلوا مدينة كاشغر عاصمة لدولتهم الجديدة،  ومع تزايد نفوذ المسلمين على مر الزمن، اعتنق كثيرون من حكام المغول الإسلام، مثل: (تكودار أحمد) أحد أبناء هولاكو، الذي اعتنق الديانة الإسلامية في عام 680 هـ، وعمل على جذب أتباعه إلى الإسلام من خلال منح العطايا والمنح ومنحهم ألقاب الشرف في دولته. ومع ذلك، لم يستطع السلطان (أحمد) أن يفرض الإسلام على أتباعه، وتم قتله في عام 683 هـ.

وقد أعلن (قازان) الإسلام دينًا رسميًا للدولة المغولية في إيران أيضًا، حيث أمر بتدمير الكنائس المسيحية والمعابد اليهودية، والأصنام البوذية. كما أمر أهل الذمة بأن يتميزوا بلباس خاص بهم. وهكذا اختلف إسلام (قازان) عن إسلام السلطان (أحمد)، حيث لم يكن إسلامه فرديًا، بل تحول إلى دين رسمي للدولة. وعلى الرغم من ذلك، هاجم (قازان) بجيشه الشام عدة مرات، وأحدث فسادًا في الأرض، مما يشبه تصرفات أسلافه المغول الوثنيين في الدول التي غزوها.

وبعد وفاة (غازان)، تولى من بعده أخوه (أولجاتيو خدابنده)، وصار اسمه (محمد بن أرغون)، وبعد عام تشيع بتأثير أجد كبار الرافضة، وهو (ابن المطهر الحلي). 

وبانتساب العديد من رؤساء المغول وجيوشهم من القبائل التي جاورتهم من التتار والأيغور وغيرهم إلى الإسلام، ترسخ وجود الإسلام في تلك المناطق وسط تلك القبائل والعرقيات. وعلى الرغم من أن كثيرًا من ملوك المغول الذين انتسبوا للإسلام لا يعرفون منه إلا الاسم، إلا أن انتشار الإسلام لم يمنعهم من اقتحام بلاد المسلمين والعبث بها. وتكررت اعتداءاتهم على تلك البلاد بعد عصر (جنكيز خان)، ولم تختلف سيرتهم كثيرًا عن سيرة (جنكيز خان) جدهم الأكبر، مما دفع أهل العلم إلى الفتوى بكفرهم وعدم صحة إسلامهم.

هذا هو تاريخ التتار، فما حكايتهم اليوم وهم ما زالوا بيننا في عدة مناطق لم يسمع الكثير عنهم؟

التتار اليوم 

ليس للتتار حاليًا كيان سياسي مستقل تمامًا، لكن لهم إقليم ذاتي الحكم ضمن روسيا الاتحادية وعددهم فيه مليونان. كما يتوزع الباقي على روسيا وعدد من جمهوريات آسيا الوسطى المستقلة وبلدان أخرى. حيث أنهم يتوزعون في روسيا الاتحادية، وأوكرانيا، وما يُعرف بتتر القرم، وأيضًا في كازاخستان، وأوزبكستان، وأذربيجان، وقيرغيزيا، بالإضافة إلى تركمانستان وتركستان الشرقية التي تحتلها الصين وأصبح اسمها سنجان. أما داخل روسيا، فيتوزعون في جمهورية تتارستان، وهو إقليم له حكم ذاتي، كما هو الحال في جمهورية بشكيريا، وجمهورية أودمورتيا، وأيضًا جمهورية تشوفاشيا، وجمهورية ياقوتيا. كل هذه الجمهوريات تعتبر ضمن النظام الفدرالي الروسي، بالإضافة إلى تتار سيبيريا وتتار الصين.7

يدل تفرق التتار بين عدة أقطار على القمع الذي استمر على هذه العرقية المسلمة، ورغم القمع استطاع عدد منهم الحفاظ على الهوية الإسلامية؛ فقبائل التتار بعد أن كانوا حضارة وتم إبادتهم من قبل المغول، ثم اندماجهم مع المغول، ودخولهم إلى الإسلام في التاريخ القديم، وجدوا أنفسهم بين قوى عالمية لا ترحم في العهد الذي كان الإسلام فيه ضعيفًا، ومقسمًا إلى دويلات. فما إن انهارت الخلافة الإسلامية، ودخلت المنطقة في صراع الاشتراكية والرأسمالية، وبدأ يظهر مفهوم الدولة القومية الحديثة؛ حتى وجدت كل من الصين وروسيا المسلمين لقمة سائغة لابتلاعها، ومحاولة طمس هوية القوميات المسلمة من التتار والأيغور وغيرهم، وفرض الثقافة سواء الروسية أو الصينية عليهم. وبهذا أصبحوا أقلية في عدة مناطق ودول، وكثير منها دول فرضت عليها العلمانية أو الاشتراكية كبديل للإسلام.

التتار كأقلية مضطهدة  

مسلمي التتار

مع ضعف الدولة العثمانية كدولة خلافة إسلامية، بدأ امتداد الروس الذي جاء على حساب مسلمي دول وسط آسيا، التي كان التتار جزءًا منها. فقد تمكن الروس من التوغل في العديد من بلاد وسط آسيا، وقد كانت روسيا في تلك الفترة قيصرية، وشهدت خلال هذا الامتداد العديد من المجازر ضد مسلمي التتار ومن سكن معهم، حيث تم طرد التتار من موسكو بعد أن كانوا هم من يحكمها قرابة 240 عامًا. وبدأ هذا الطرد والاضطهاد في عهد إيفان الثالث ومن جاء بعده من القياصرة، حتى أن البابا طلب تعجيل طرد المسلمين إلى سيبيريا وتشتيتهم. فكان التتار ممن تم إجبارهم على النصرانية، أو الطرد من دولة كانوا هم جزءًا منها لأكثر من 100 عام، فاضطر العديد منهم لإخفاء إسلامه.

واستمر الامتداد الروسي، والاستيلاء على الأراضي، وفرض اللغة والثقافة الروسية على شعوب المنطقة. ورغم هذا كان هناك من يقاوم الاضطهاد؛ إلا أنه كان يُقتل في نهاية الأمر. وما إن تم الإطاحة بالقياصرة الروس، وبدأت الحرب العالمية الأولى، التي لمع معها نجم البلاشفة حتى استمال البلاشفة المسلمين ضد القياصرة، وحصلوا على دعمهم طمعًا في التخلص من ظلم واضطهاد القياصرة.

جاء من بعد البلاشفة النظام الاشتراكي الذي أنشأ الاتحاد السوفيتي، والذي امتد من روسيا وأوكرانيا وبيلاروسيا وما وراء القوقاز، وضم أيضًا أوزبكستان وتركمانستان وطاجيكستان وأذربيجان وكازاخستان وقرغيزستان وغيرها. كما تم تهجير العديد من تتار القرم من موطنهم في حرب إبادة عرقية، بالإضافة إلى تركستان وتترستان، حيث تم توطين الروس في تلك الأراضي وهدم المساجد ومنع أداء الشعائر الدينية.

ولم يعانِ التتار المسلمون فقط من الامتداد الروسي على أراضيهم، بل أيضًا كانت الشيوعية في الصين تنافس الروس على عدة مناطق، من بينها منطقة تركستان الشرقية، التي ما زالت تحت حكم الصينيين بعد أن تنازعوا عليها مع الروس إلى الآن، وما زالت تعاني من التطهير العرقي والحرب على الهوية والثقافة بإحلال الثقافة الصينية بشكل إجباري قمعي.

كما أنه حتى مع تفكك الاتحاد السوفيتي واستقلال بعض الدول، والتي يشكل فيها الإسلام أغلبية، عن الاتحاد السوفيتي؛ إلا أن هذه الدول ما زالت تحت الهيمنة الروسية، وما استقلالها إلا استقلال شكلي، أو تحت الهيمنة الغربية بتسليط حكومات تحارب مظاهر الإسلام، وما زال هناك من يقاوم هذه الهيمنة.

ليبقى التتار جزءًا من أمة إسلامية تعيش حالة من التفكك تحت ما يسمى بالدولة القومية، والتي جعلت من التتار أمة لا تجد لها وطنًا أو كيانًا سياسيًا تمارس فيه إرث الإسلام الذي حملته من أجدادها.

المراجع

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى