سوريا تعانق الحرية! مرارة التجربة وعظمة الدروس
في سوريا.. كان الليل طويلًا، والأفق مظلمًا، لا يبدو لكثير من الناس بصيص من أمل، الظالم طغى وتجبر، وتجاوز كل حدود المعقول في الاستكبار والعتوِّ، أحاط على نفسه جنودًا مجندة تحفظ عرشه، شبيحةً وجواسيسَ، أشاع في الناس الرهبة والخوف والقهر، كان قد آمنَ من جانبهم؛ لأنه قد مسح منهم التفكير في مقاومته -أو هكذا على الأقل كان ظنه- لأن أباه كان قد وطّد له أركان جبروته بالتفرد بالسلطة، وتركيع الناس، وما فعل أبوه حافظ الأسد بحماة ليس عنا ببعيد!!
كانت حماة حدثًا مزلزلًا لمشاعر الناس، أخافهم، وأرهبهم، وهالهم ما عانوه من قسوة آلة القتل والإمعان في الإذلال؛ كل ذلك كان لأجل إسكات وإخافة الناس، لئلا تسوِّل لهم أنفسهم الثورة على نظام الحكم، وكان الابن -بشار- نسخة طبق الأصل من والده في الطغيان والجبروت، فما أن اندلع الربيع العربي عام 2011م ووصلت شرارتها لسوريا حتى سلَّ سيف البغي والبطش، وجمع شُذاذ الآفاق من المليشيات الشيعية؛ لتقتل السوريين بكل حقد وعدوانية، جمعهم من إيران، ولبنان، وأفغانستان، والعراق وباكستان!! واستنجد بالروس فمسحت المدن السورية، وسوَّت حلب وحمص بالأرض “كأن لم تغن بالأمس” تدميرًا يفوق ما قرأناه عن بربرية التتار!!
أسرة آل الأسد من الأب (حافظ) إلى الابن (بشار) حكمت سوريا بالحديد والنار، وأذاقوا الناس الأمرّين، 54 عامًا من القهر والذل، والتصفيات الجسدية، والإخفاء القسري، عذاب لا تصفه الكلمات، فحين تستمع إلى شهادات الناجين من سجون النظام الجهنمية لا تصدق ما تسمع وترى من الوحشية (حتى كلمة الوحشية جريمة في حق الوحوش!! لأن الوحوش لا تفعل شيئًا يضاهي ما فعلوا ولو واحدًا من ألف)!!
قصص مروعة لا تكاد تصدقها، ولا تحويها المجلدات!!
شاهدت عشرات المقاطع التي وصلتني عبر مواقع التواصل الاجتماعي المختلفة، بعضها تصدمك بفظاعتها وشناعة أنواع العذاب التي يتحدث عنها الناجون وهم قلة قليلة ممن تجرأوا الحديث لوسائل الإعلام!!
وأشد من ذلك المقاطع التي وُجدت من هواتف بعض المجرمين الذين أُلقيَ القبض عليهم وتم تفتيش هواتفهم، فإنها توثِّق حد الإجرام الذي مورس ضد الشعب السوري، وكم كانت مأساةً كبيرةً، فبعض المشاهد التي لا تطاوعك النفس على مشاهدتها، تصاب بالغثيان والإغماء أحيانًا، يذبحون الناس بالمناشير، والسكاكين، ويستخرجون قلوبهم في بعض المقاطع، ويبقرون بطونهم، مما يضع علامة استفهام كبيرة حول مغزى التمثيل بعد قتل الضحية، هل كانت مجرد السادية التي تجسدت فيهم، أم أنهم كانوا يتّجرون بأعضاء البشر؟!! سبحان الله! لا حول ولا قوة إلا بالله!
أضف إلى ذلك الحالات التي وثَّقتها عدسة الكاميرات داخل السجون؛ من الدماء، والمشانق، والحبال، والمكابس، والمقابر الجماعية التي تضم آلافًا من المفقودين!
أما من وجودوا داخل الزنازين أحياء فحدّث عنهم ولا حرج، آثار التعذيب والهزال الجسدي بادية في أجسادهم، لكل واحد منهم ألف قصة وقصة من خلف القضبان لا تسعها المجلدات، ولا تستطيع الكلمات شرحها، ولكن عيونهم تحكي كل شيء، وبعضهم أُخْرجوا وقد فقدوا الوعي، لا يدرون شيئًا، هياكل عظمية، جثث متحركة، لا يعرفون شيئًا؛ لا أسماءهم ولا أسماء آبائهم وأمهاتهم، لا شيء!! فلا حول ولا قوة إلا بالله!! لم أكن أتصور، ولم أسمع في التاريخ أن البشر تصل إلى هذه السادية المفرطة إلا ما قرأناه من الكتب حول محاكم التفتيش!
أما بذاءة اللسان، وسبّ المعتلقين، والاغتصاب، والجرأة على كلمات الكفر، فحدث ولا حرج، حتى أني استمعت في أحد المقاطع والجزار يقول للمعتقل وهو يذبحه بالمنشار: ربك بشار!!! فسبحان الله وتعالى عما يقول الكافرون علوًا كبيرًا.
ربما تتساءل لما يحدث كل هذا؟ ما ذنبهم؟ ما هي جريرتهم التي بسببها لاقوا ما لاقوا من العذاب؟!
الخلاصة والزبدة وراء كل هذا {وَمَا نَقَمُواْ مِنۡهُمۡ إِلَّآ أَن يُؤۡمِنُواْ بِٱللَّهِ ٱلۡعَزِيزِ ٱلۡحَمِيدِ} [سورة البروج: 8]، ثم إنهم طالبوا الحرية والكرامة، والعدالة الاجتماعية، والعيش الكريم فوق أرضهم!
ولكن بعض الأسباب حين تسمعها ترفع حواجبك عاليًا من الاستغراب والدهشة، وكيف أن الأسرة وإن شئت الدقة الطائفة النُصَيرية المجرمة تفننت في إهانة الشعب السوري، وإذلاله؛ فهذا طيار رفض قصف حماة في ثمانينيات القرن الماضي، أودع في السجن وكان شابًا في العشرينيات من عمره قضى فيه 44 عامًا، وآخر وضع في السجن لأنه تفوق على باسل الأسد الهالك ابن بشار المجرم الذي لَقِيَ حتفه في حادث سير، فرموا هذا المسكين في السجن وهو لا يعلم ما هي جريمته!! ولا يعلم ذلك إلا بعد هلاك باسل حين تنهال عليه الضربات واللعنات وهو في السجن من خلال السجانين!!
من أجل كل هذا الذل والهوان ثار السوريون ليرفعوا عن أنفسهم أردية الاستعباد والقهر، وذلك في عام 2011م فيما بات يعرف “بالربيع العربي” خرجوا إلى الشوارع يطلبون العدالة والإصلاح أولًا وذلك في مظاهرات سلمية، ثم لما جُوبهوا بالقتل والرصاص، والتعذيب حملوا السلاح سعيًا وراء الحرية أو الشهادة، فمروا بتجربة مريرة خلال 13 عامًا وصفت بالسنوات العجاف!! ولكنهم صُقلوا وهُذبوا، فخرجوا منها منصورين، واستطاعوا خلال 11 يومًا بحملتي “ردع العدوان” ثم “فجر الحرية” في معارك وُصفت بالخاطفة من تحرير كامل تراب سوريا من رجس النصيرية المجرمين، ومن حكم آل الأسد. فاللهم لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك وعظيم سلطانك. {فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا ۚ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الأنعام: 45].
فاللهم بعد هذا العذاب، أبرم لأهل سوريا أمر رشد يُعز فيه أهل طاعتك، ويُهدى به أهل معصيتك، ويُقمع فيه الجبابرة، ويُقتص فيه للمظلومين حقوقهم، فاللهم مكِّن لهم في أرضهم، ومكِّنهم من تطبيق شريعتهم، وبدِّل خوفهم أمنًا وأمانًا، وسلامًا ووفاقًا فيما بينهم. اللهم آمين.
دروس سريعة لما حدث ويحدث في سوريا
إن أحداث سوريا تعلمنا الكثير من الدروس التي لا يمكن حصرها، وإن يوم تحرر دمشق يوم من أيام الله، وفي النقاط التالية سنقف على بعض تلك الدروس منها:
- تجلت في أحداث سوريا أن للكون ملكًا مدبرًا، يدبر الأمور وفق مشيئته وسننه {تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [آل عمران: 26]، فلا تشك يومًا في حكمة الله وراء الأحداث.
- أن “الدنيا دوَّارة” -كما يقال- وأن القوي لا يبقى قويًا وأن الضعيف فيها لا يبقى ضعيفًا، مصداقا لقوله تعالى: {وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ} [آل عمران: 140}، فلا تشك يومًا أن الباطل زائل، وأن قوته ستندحر يومًا ولو بعد حين، فدولة الباطل ساعة ودولة الحق إلى قيام الساعة، {وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ} [القصص: 5].
- أن الباطل مهما كان باطشًا ومتمكنًا من مفاصل القوة الصلبة والناعمة، فإن قوة الله فوق قوته، وتدبير الله فوق تدبيره، {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ} [هود: 102]، ويقول حبيب الحق عليه الصلاة والسلام: ((إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته)) [صحيح البخاري: 4686]، ويقول الحق: {إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ} [البروج: 12]، فلا تشك يومًا أن الظالم إلى مزبلة التاريخ، وأن جبروته وكبرياءه سيضمحل، وأنه {سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ} [القمر: 45].
- أن دعوة المظلوم ستلاحق الظالم، وأن الله لا يخذل المظلومين ولا يتركهم لمصيرهم، بل يستجيب دعوتهم مصداقًا للحديث ((لأنصرك ولو بعد حين)) [جامع الترمذي: 3598]، فلا تشك يومًا في عدالة الله ونصره للمظلوم، ولا تقل كما يقول من لا يقدرون الله حق قدره: “أين الله من تلك الجرائم التي ترتكب في حق الأبرياء العزل؟!” فإن لله حسابًا وتدبيرًا وحكمةً وراء كل حدث في هذا الكون صغيرًا كان أو كبيرًا، مفرحًا كان أو محزنًا، مؤلمًا للبعض أو مثلجًا لصدور البعض.
- أن التمكين لا يكون إلا بعد التضحيات الجسيمة، وأن الحرية الحمراء لا تنال بالأماني والراحة، ولكن لا بد من بذل المُهج والأرواح، ودفع النفيس والغالي مهرًا لها.
- أن هذه الأنظمة الوظيفية العميلة في العالم الإسلامي التي أقامها الاستعمار ودربَّ جيوشها وملكوها، وحرستها -وتحرسها الآن كما فعلت روسيا مع بشار عندما كان على شفا حفرة من السقوط في بداية الثورة- آلتها العسكرية الباطشة واستخباراتها المتغولة؛ أن هذه الأنظمة لا تنفع معها الإصلاح الداخلي والترميم الجزئي، فهي جراثيم متعفنة يجب إسقاطها واستأصالها من جذورها، فهي غير قابلة للإصلاح، وأسياد هذه الأنظمة الطاغوتية من الكفار الغربيين لا يقبلون سقوطها بسهولة، وأنهم يدافعون عنها حتى الرمق الأخير، ويحاولون أن ينفخوا فيها الروح بكل السبل، ولا يتركونها إلا إذا تحققوا أنها لا محالة زائلة، وأن قوتهم لا تمكنهم من الحفاظ عليها.
- ويتفرع من هذا الدرس السابق درس آخر غاية في الأهمية: وهو ما أخذ بالقوة لا يسترد إلا بالقوة، فبلادنا احتلها الكفار بقوة الرصاص والبارود، وأسقطوا الخلافة الإسلامية، وتقاسموا تركة “الرجل المريض” كما أطلقوا على الخلافة العثمانية، وجزّءوا الأرض الواحدة التي كانت تحكمها خلافة واحدة إلى دويلات ضعيفة تابعة، وإمارات وملوك لا تحمل من الإمارة والملك إلا الاسم، كما قال الشاعر:
ألقابُ مملكةٍ في غير موضِعِها كالهرِّ يحكي انفتاخًا صولةَ الأسدِ
- أن الأمة إذا صدقت الإرادة، وقَوِيَ العزم، فلا بد أن تنتصر، مهما طال الطريق أو قصر، فلا أحد يستطيع تركيع أمة صادقة العزيمة، واثقة بنصر ربها؛ فلقد استخدم الروس والإيرانيون والنصيريون وكل شذاذ الآفاق التي جمعوها لترسيخ سلطة الأقلية المجرمة على الأغلبية السنية؛ استخدموا كل الطرق والأساليب الممكنة وغير الممكنة، وحاولوا أخيرًا تلميع صورته، وتأهيله، وتعاون طواغيت العرب معهم في تنظيف ساحته؛ ليظهروه وكأنه انتصر على الأمة، وأن القضية السورية -خلاص- ماتت من غير رجعة!! ولكن {فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الأبْصَارِ} [الحشر: 2]، فسقط النظام المجرم بسرعة أذهلت كل الذين استثمروا فيه طيلة عقود طويلة، ولم يجدوا حيلة لإنقاذه وهو يغرق على أعينهم!!
إذا الشعب يومًا أراد الحياة فلا بد أن يستجيب القدر
- أنه في زمن الاستضعاف وفي بداية طريق التحرر لا بد من تحييد ما يمكن تحييده من أعداء، والتحالف مع ما يمكن التحالف معه، مع صفاء الراية ونقاء الساحة، وعدم الانجرار وراء حروب بالوكالة، لا ناقة للأمة فيها ولا جمل، وأنه لا تجدي نفعًا عقلية استعداء كل الدنيا، فلا بد من الحنكة والدهاء، لأن كثيرًا من الحركات الإسلامية المجاهدة نجحت وانتصرت في ساحات المعارك والرصاص والبسالة، ولكنهم فشلوا في الحكم، والسياسة، ووقعوا بكل سهولة في شباك الأعداء واحدة تلو أخرى.
والسوريون اليوم في امتحان عظيم، ونحن في بداية الطريق فلا يمكن الحكم على تجربتهم، وأعداء ثورتهم أكثر من أن نحصي، ونسأل الله لهم الهداية والسداد والتوفيق، ولكننا نُقر بأنهم نجحوا في إدلب، ولكن حكم إدلب ليس كحكم سوريا بكل طوائفها ومللها ونحلها المختلفة، مع الأعداء المتربصين لها بالمرصاد. فاللهم كن لهم عونًا ونصيرًا.
- أن النصر مفاجئ، وأنه في أحلك ساعات الليل وأشدها سوادًا هي أقرب ساعات الفجر، وأن النصر مع الصبر، وأن الفرج مع الكرب، وأن مع العسر يسرا. نعم النصر آت لا محالة ولو بعد حين. ولكن باستقراء القرآن والسنة والسنن الكونية نجد: أنه يأتي فجأة، مصداقا لقوله تعالى: {حَتَّى إِذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ} [يوسف: 110]، وقوله {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ} [البقرة: 214].
تلك عشرة كاملة. ولكن دروس الشام لا تنقضي. فإن أيامها حُبلى، والقادم بإذن الله أجمل.
ونسأل تعالى بأسمائه الحسنى وصفاته الفضلى أن يتمم نصره، ويوفقهم لما فيه صلاح العباد والبلاد، ويدحر أعداءهم، ويرد كيدهم في نحورهم.