سورة الملك: في أفياء الملك والقدرة.. كيف تمشي وتصل؟
سورة الملك سورة تأخذ بأنظارنا وتفتح عقولنا وقلوبنا على معرض من صور الملك والقدرة الإلهية، معرض دائم متجدد لا يطويه تراكم الزمن، ولا ينقص من جماله المدهش وكماله العلوي قدرَ ذرة كثرةُ النظر ولا ازديادُ العلم أو تعمق الفهم والفكر، بل إن مقابل ذلك هو الصحيح، فالأكثر فهمًا والأعمق فكرًا ومن ينظر بشغف وقلب متدبر لا يزال يرى البهاء حاضرًا، والجمال نابضًا، والقوة مستعلنة، وآفاق الملك بارزة، لا منتهى لها ولا مغالب لها.
وإن هذا الملكوت العظيم الذي ينشأ الإنسان في ظلاله وآفاقه، ليوجب عليه أن يعرف أمورًا ببراهينها ودلائلها المعروضة الواضحة المنوعة، وأن يأتي أمورًا يبينها صاحب هذا الملك، وأن يجتنب أخرى لها عواقب تبلغ الغاية في السوء.
هذا الملك المرهوب، وهذه القدرة التي لا تتناهى، جاءت بك أيها الإنسان لأمر ما، فلتعرف ما هو، ولتحرص على أن تؤديه بأحسن صوره، ولتعرف ماذا سيصيبك إن أعرضت وتكبرت عن سماع مَن أتى بك وامتثال أمره.
فلنمش في أفياء ملك الله وقدرته، ولنتعرَّف على بعض صور هذا المعرض الذي تمتزج فيه العظمة بالرهبة، والأمان بالخشية، وما الذي يتوجب علينا تجاهه؟
تعرف على المَلك
تقدم لنا سورة الملك تعريفا تكرر في سورة واحدة أخرى -وهي سورة الفرقان- وهو «تبارك» فعل متجدد يوحي بالكثرة التي يحدثها التفاعل، بركة لا حدود لها.
هذه صفة ثناء ومدح لصاحب هذا الملكوت، هذا ربنا، لا ينقطع خيره عن هذا الكون الذي تعيش فيه، ولا عن خارجه مما لا تعرف، وهو وحده من بيده الملك كله، فاذهب إلى أي مكان شئت، وتطلع إلى الشرق والغرب، فالملك والعزة والعون والنصر والإمداد، كل ذلك من هذا الإله المقتدر. والمَلك عزيز يقهر كل شيء، فهو من أعد لمن تكبر وطغى عقابا تنخلع القلوب من وصفه، نارا تشهق وتتغيظ وتفور.
والملِك غفور، يعلم ضعفك ويتجاوز عنك إن اجتهدت وأحسنت، وهو لطيف يتوصل إليك بما يصلح حالك وينميك، وهو الخبير الذي لا تخفى عنه خافية، والذي يعلم ما ينطوي عليه صدرك حتى لا تكاد أنت تطلع عليه.
أما أعظم ما تلفتك إليه السورة عن الملِك، فهو أنه رحمن، وما بالنا بالرحمن الذي رغم ملكه العظيم يرحم ويلطف ويدعو ويتقرب!
تعرف على وظيفتك
من أين أنت أيها الإنسان ولماذا أتيت إلى هذه الحياة، وماذا ينبغي أن تفعل فيها؟ أسئلة عن الوجود تعرض للخلق فينزعجون ويتحيرون، وها هو الملِك يجيب عنها بكلمات مختصرة واضحة (خلق-ليبلوكم-أحسن عملا).
يخبرك ربك أنه خلق فيك موتا وحياة تظهر آثارهما فيك، وسيكون لك مع كل منهما شأن. فالموت الذي ابتدأت به ويتوسط رحلتك ليس عدما محضا، بل منه ابتدأت وإليه تصير لمدة مقررة، إنه الوجه الآخر لحقيقتك!
ولكي تكون حقيقة مريحة تسعد بها عليك أن تحسن في حياتك، فما جئت هنا إلا لتختبر ويظهر أثر عملك الذي تنال عليه الدرجات وختم الوصول، فهذا مقصد وجودك وغاية بلائك.
ولقد أمدك خالقك العظيم بما تحتاج لتُحسن، فجعل لك السمع والبصر والفؤاد لكي تستخدمها جميعا فيما خلقك له، فتؤمن به أولا ربا مدبرا حكيما، وتطيعه على إثر ذلك بعمل الصالحات والكف عن الإفساد. وتمشي في الأرض مستخرجا كنوزها، مقرا بنعمته، معترفا بفضله، مجتهدا في إحسان العمل لأنك تعلم أن ربك مطلع وخبير، وهذا هو لب إحسانك ومناط فلاحك؛ أن تخشاه بالغيب.
وخشية الملك بالغيب أشق شيء على الإنسان الغافل اللاهي، لذلك السورة كلها تدفع إلى تجديد الإيمان وإلى التفكر وإلى النظر إلى السماء وما وراء الصور المجردة والظواهر الحسية لتصل من خلالها إلى الاعتبار وإلى خشية الله وإلى تذكر المصير والجزاء وإلى التوكل على صاحب الملك الذي لا يغيب شيء عن قدرته.
تعرف على آثار المُـلك
من البداية، وبعد أن يطلع الإنسان على حقيقة خلقه، يلفته إلى خلق آخر يفوقه عظمة وجلالًا، سبع سماوات متطابقة مهيبة لا يتبدى لنا منها إلا أدناها إلينا، نرى فيها التناسق والإحكام والزينة والقوة الغالبة.
ثم يخبرنا عن عقابه المعدِّ لمن كذب وأعرض، ويصف لنا هوله وشدته وما يصحبه من تبكيت وتحسُّرٍ وعض لأصابع الندم.
وفي المملكة العظيمة نرى مثالًا للقدرة والمُلك معًا، هذا الطير الذي نراه في جو السماء فلا يلفتنا كثيرًا، لم يملك خواص الطيران ولم يرتفع دون سقوط إلا بإعجاز الخالق، والمثال دال على ما فوقه، فما في السماء من أجرام هائلة كما على الأرض من أثقال، يمسكها الله أن تقع ويحوطنا برحمته وعنايته.
هذه الصور اليسيرة من الملك العظيم تعطي درسًا للغافل والجاحد، أنه إن أمسك الرزق فلن يصل إليه أحد وإن أراد الإهلاك فلن ينصر من دونه أحد؛ فليطمئن المؤمن ويستمر على إحسانه وليرتدع المعاند الذي سيسوء وجهه غدا عندما يأتي الموعد المقرر.
تعرف على آفاق القدرة
يظن الإنسان الجاهل المغتر أنه قد صار مقتدرًا إذا تعرف على بعض أسرار الكون، أو أنه بمنأى عن العقوبة، فمعه أسرار الأرض والفضاء التي لم تكن مع الإنسان الأول، فيفضح الله كبره وغروره ويذكره أن الأرض التي يستخرج منها الرزق والتي يجدها طيعة مسخرة، ليست إلا من عطاء صاحب القدرة، وأن هذا الرزق محدود إلى أجل، فهناك رجوع ونشور ومحاسبة.
بل هذه الأرض المذللة اللينة تنقلب وتتزلزل إذا أراد خالقها أن يوقع بالمعاندين عقابًا عاجلًا، وكذلك يقدر إن أراد أن يجعل السماء ذات الإتقان والجمال تصب عليهم حجارة وحمما. ولقد وقع التهديد من قبل وأصاب أقواما ظنوا ما يظن إنسان كل زمان، أنه الأقوى والأرفع بدون إيمان ولا إذعان.
وإذا كان الله بقدرته قد خلق وذرأ البشر وجعل لهم آلات العقل والوصول إليه، وجعل لهم مادة الحياة سهلة قريبة، ومادة الإحياء كذلك معروضة تبهر القلب وتجعله منيبًا شاكرًا، فهو القادر على أن يسلب الحياة ماءها ونورها، وهو الذي سيعيد الخلق كما بدأهم عدلا منه وإحسانًا وفضلًا.
اختر كيف تمشي
تتوافق ملامح سورة الملك وصورها التعبيرية والبيانية لكي تقدم للإنسان المتعرض للاختبار في هذه الحياة أُسسًا كبرى ودلائل واضحة تدفعه للإيمان والاستجابة لمقتضياته من التسليم لله وأداء المطلوب.
وهذه الدلائل تطرق القلب وتحث العقل للتفكير فلا تدع له منفذًا للإنكار، فلا يجد الجاحدين لنعم ربهم ولما وهبهم من وسائل الإدراك إلا أن يتساءلوا عن موعد عقوبتهم المقررة! وهو مسلك كلِّ من أحاطته البراهين لكنه مختوم القلب لا يسمع ولا يعقل.
لذلك تأتي تلك الصورة الملفتة البديعة تعرض لنا حال البشر وسلوكهم إزاء هذا المعرض الإيماني الكبير، صورة من استجاب واتسق مع فطرته ومع الكون المخلوق من حوله، ومن أعرض عن هذا كله وظن أنه يقدر أن يفلت، وهي صورة المشي باستقامة على طريق سوي وصورة المنكب على وجهه لا يبصر ولا ينتبه، لكنه عرض استفهامي يستثير العقل ليفكر ويقرر أيهما أهدى سبيلًا ومن ثم يتفقد حاله وطريقه.
فليختر الإنسان الحرُّ إذن صورته، وهل يحب الإنسان السوي غير الاستقامة والسواء؟ وإذا كانت استقامته ستجلب له سخطَ واستهزاء مَن لا يرى الملك ولا يعرفه، فربه حاضر يعلم به ويرى سعيه، فليتوكل على الرحمن ولينتظر بإحسان العمل موعد التقييم والجزاء الكبير.
خاتمة
في ختام الجولة السريعة والعرض الموجز لسورة الملك، نجد أنها تحمل مفاتيح نجاة الإنسان وفوزه بالنعيم الخالد، فهي تقدم له دليل الخلق وسر الوجود، لينطلق بعدها وقد عرف ما يتوجب عليه.
ولأجل ألا يزيغ ويهلك في أثناء سيره، فهناك معيَّنات يوجهه إليها المَلك؛ كعبادة التفكر التي تقوده إلى الخشية وتعظيم قدر الله، واستحضار الدار الآخرة والجزاء المترتب على الأعمال، وعبادة الشكر على ما وهب الملك القدير.
لذلك كانت هذه السورة هي المنجية وهي المانعة من عذاب القبر إذا صاحبها الإنسان وواظب على قراءتها في كل ليلة، كما ورد في معنى الحديث: ((إنَّ سورَةً مِن القُرآنِ، ثَلاثون آيَةً، شفَعَت لِرَجُلٍ حتى غُفِرَ له، وهي: {تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ المُلْكُ))1، وكما في الحديث الذي أخرجه النسائي عن ابن مسعود: ((كنَّا نُسَمِّيها في عهدِ رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم المانِعَةَ وإنَّها في كتابِ اللهِ سورةٌ مَنْ قَرَأَها في ليلِهِ فقدْ أكثرَ وأَطْيَبَ [أيْ سورةُ تبارَكَ]))2.
فإن قراءتها اليومية مع ما تزخر به من استثارة للعقل وإيقاظ للقلب لكفيلة أن تبني بالقلب يقينا وتزيد به محبة وخشية لربه وتدفعه لإحسان العمل والتوبة والاستغفار من الإساءة والنقص. جعلنا الله من أهل هذه السورة ومن أصحابها الذين تجادل عنهم.
جميل جدا الله يفتح عليك