شخصيات حق علينا معرفتها… مراد الأول شهيد الميدان
كان رحمه الله من المجاهدين الأفذاذ الأتقياء الأنقياء، محبًا للدين مضحيًا لأجل نصرته، شغوفًا بالغزوات، وبناء المدارس والمساجد والملاجئ، ومن فضل الله عليه أن كان حوله مجموعة من خير القادة والخبراء العسكريين، فشكّل منهم مجلسًا للشوري وتوسع في أسيا الصغرى وأوروبا في آن واحد، وقد صرف سنوات حكمه الطويلة التي وصلت ثلاثون سنة في الفتح والغزو والجهاد، ولم يكن يرجو سوي الشهادة في سبيل الله وقد منّ الله عليه بها بعد نصرٍ عزيزٍ مؤزرٍ، كما لو أن الله أراد له أن يستريح بعد عناءٍ طويلٍ وجهادٍ عظيمٍ، وخلَّد اسمه إلى يوم الدين ليكون قدوة لمن أراد أن يأخذ قدوة.
مولده
وُلِدَ عام ٧٢٦ هـ-1326م، وتربي رحمه الله تربية جهادية دينية، ويَفَعَ على كرمِ الأخلاقِ، مُزْدَانًا بحسن الخلق، ووفرة الحلم، وأشركه والده أورخان في كثير من الفتوحات وعوّل عليه الأمر خصوصًا بعد وفاة سليمان باشا رحمه الله.
فتولي الحكم بعد وفاة أبيه أورخان عام 761 هـ وهو له من العمر خمسًا وثلاثين سنة، وكانت مساحة أملاك الدولة حين تولي تبلغ 100000كم تقريبًا فواصل الفتوحات مستفيدًا-بلا أدنى شك-من حالة الفوضى في الدولة البيزنطية حتى وصلت أملاك الدولة في نهاية عهده إلي 400000 كم، وهذا يوضح كم حبه للفتح والجهاد وإيصال رسالة الإسلام في كل مكان من الممكن أن يصل إليه، بل ويؤكد القول إنه لم توجد دولة بعد الأمويين توسعت في الفتوحات مثل العثمانيين.
الفتوحات
ففي أوربا هاجم الجيش العثماني أملاك الدولة البيزنطية ثم فتح مدينة أدرنه في عام (762هـ/ 1360م)، وكانت لتلك المدينة أهمية استراتيجية في البلقان، حيث كانت ثاني مدينة في الإمبراطورية البيزنطية بعد القسطنطينية. واتخذ مراد من هذه المدينة عاصمة للدولة العثمانية منذ عام (768هـ / 1366م)، وبذلك انتقلت العاصمة إلى أوربا، وأصبحت أدرنه عاصمة إسلامية
وبعد فتح أدرنه عام 762هـ لم يقف على وضعها الذي هو عليه بل قام بتطويرها على أفضل وجهٍ لتكون خيرَ واجهة لدولةٍ قويةٍ إسلاميةٍ في مواجهةِ أوروبا، فجمع مراد في هذه العاصمة كل مقومات النهوض بالدولة وأصول الحكم، فتكونت فيها فئات الموظفين وفرق الجيش وطوائف رجال القانون وعلماء الدين، وأقيمت دور المحاكم وشيدت المدارس المدنية والمعاهد العسكرية لتدريب الإنكشارية.
واستمرت أدرنه على هذا الوضع السياسي والعسكري والإداري والثقافي والديني حتى فتح العثمانيون القسطنطينية في عام (857هـ-1453م)، فأصبحت عاصمة لدولتهم.
ومن المؤكد أن نقل العاصمة إلى أدرنه لم يكن محض صدفة وإنما كان تخطيطًا في غاية الجرأة والشجاعة من السلطان مراد ومن معه، إذ أنه بنقل العاصمة إلى هناك يُعدّ إعلانًا صريحًا بنقل منطقة الصراع من أسيا الصغرى إلى مناطق البلقان إي في عقر ديار الدول النصرانية الشرقية كالمجر وبلغاريا والبوسنة والصرب وغيرها، الأمر الذي يُعدّ إعلانا بأن هناك قوة كبيرة تستطيع أن تقف في وجه كل هؤلاء وتشير إلى مدينة القسطنطينية.
وبالفعل بعد ذلك قد اتجه مراد رحمه الله نحو بلاد البلقان فكُتب له ولجنوده المجاهدين فتح هذه البلاد وتلك الحصون.
تحالف صليبي ضد مراد
بعد أن حقق مراد رحمه الله انتصاراته في أوروبا بشكل كبير ومؤثر، للدرجة التي أسمعت القاصي والداني؛ مما دفع حاكم اليونان أن يسعى إلى إبرام معاهدة صلح بينه وبين مراد الأول، بيد أن تلك المعاهدة لم تطل فترة طويلة.
مضى السلطان مراد في حركة الجهاد والدعوة وفتح الأقاليم في أوروبا، وانطلق جيشه يفتح مقدونيا، وكانت لانتصاراته أصداء بعيدة، وكذلك نتيجة لنقل العاصمة إلى أدرنه بعد فتحها؛ تكوّن تحالف أوربي بلقاني صليبي باركه البابا أوربان الخامس، بل كان من الدعاة الرئيسيين لهذا الحلف، كي يكون تحالف عقيدة أكثر من كونه تحالف مصالح، فضم الصربيين والبلغاريين والمجريين، وسكان إقليم والاشيا إضافة إلى جيش جرَّار من اليونان وبوسنه والأفلاق. وقد استطاعت الدول الأعضاء في التحالف الصليبي أن تحشد جيشًا بلغ عدده ستين ألف جندي تصدى لهم القائد العثماني ” لالاشاهين ” بقوة تقل عددًا عن القوات المتحالفة، ولما علم السلطان بذلك أرسل القائد التركي حاجي ايل بكي على رأس قوة مؤلفة من عشرة آلاف رجل لاستطلاع قوة العدو.
مهمة خاصة
لما تحركت فرقة القائد التركي حاجي ايل بكي باتجاه معسكر الصليبين الكبير، ووجد أن جيش الصليبين إنما هو جيش جرار، ففكر بالقيام بمهمة استشهادية تربك صفوف الأعداء وتقلص الأعداد قدر الإمكان، حتى يتمكن القائد لالا شاهين بعد ذلك من ملاقاة هذا العدد الهائل من الجنود المدججين بالأسلحة.
فاقترب من المعسكر حتى خيم الليل وانتهز الفرصة وانقض على الجيش المؤلف من ستين ألف جندي وأثخن فيهم القتل الأمر الذي أربك الجيش بشدة بل شتت شملهم بشكل كبير وقلص عددهم بالفعل حيث حدثت مذبحة كبري قتل فيها أعداد كبيرة من الجيش الصليبي، إي نجحت خطة حاجي ايل بكي.
وكانت المعركة الكبرى التي قابلهم فيها لالا شاهين على مقربة من “تشيرمن” على نهر مارتيزا -عُرِفت هذه المعركة باسم انكسار الصرب- حيث وقعت حرب مروعة وانهزم الجيش المتحالف، وهرب الأميران الصربيان، ولكنهما غرقا في نهر مارتيزا، ونجا ملك المجر بأعجوبة من الموت أما السلطان مراد فكان في هذه الأثناء منشغلًا بالقتال في بلاد آسيا الصغرى، حيث فتح عدة مدن ثم عاد إلى مقر سلطنته لتنظيم ما فتحه من الأقاليم والبلدان كما هو شأن القائد الحكيم، حيث أن الغاية الأساسية ليس فتح البلاد لشهوة ورغبة في العدوان، وذلك عملًا بوصية جده رحمه الله.
وقد عقد لولده با يزيد على بنت حاكم قرمان، بغية أن يجعل الألفة والاتحاد مع حكام آسيا الصغرى، وجرت حفلة النكاح بحضرة نواب سوريا ومصر، ووُزِّعَتْ خلالها على العلماء الكرام والرجال الفخام هدايا ثمينة من أوانٍ ذهبية وفضية مزركشة بالزمرد والياقوت.
وكان يهدف بهذا الزواج السياسي إلى توحيد الصفوف في مواجهة أعداء الإسلام، وذلك لأن نظرته مثل كل الحكام المسلمين على عقيدة صحيحة، وهي النظرة والرغبة في الاتحاد الإسلامي الكبير بعيدًا عن المصالح والأهواء الشخصية، وهذا ما نأمل أن نجده في أيامنا هذه بعيدًا عن القوميات والعصبيات المقيتة.
وقفة
إذا أردنا أن نعرف لماذا تقدم الأوائل وتأخر من أتي بعد ذلك، إذا أردنا أن نفهم لماذا تأخرنا نحن ولماذا وصلنا إلى المستنقع وما زلنا نغرق في هذا الوحل، فإذا أردنا أن نفهم لماذا؛ فعلينا أن نعرف على من يسلط الحكام الأضواء.
فانظر إلى حال السلطان مراد رحمه الله وغفر له، ستجد انه إبان حفل زفاف ابنه با يزيد، فإنه يكرم العلماء وأهل المعرفة ورجال الاقتصاد أي التجار بمصطلحات أهل زماننا، ولكن المكانة الأكبر هي لأهل العلم، وبإسقاط على الواقع الذي نحياه الآن، ستجد أن من يكرم ويرفع شأنه إلى عنان السماء هم أهل والتفاهات والعرى والفسق والفجور، حيث يصلوا إلى مرحلة تكريم ليصبحوا قدوات، ووالله لا يصلحون أن يكونوا حدوات.
فلأن السلطان يعلم أن المجتمع ينظر إلى من يكرم، ويتمنى أن يصير مثله فقد عنى بذلك وأهتم بأهل العلم والمعرفة لذلك تقدم ووصل إلى مبتغاه.
معركة قوصرة
كان السلطان مراد قد توغل في بلاد البلقان بنفسه وعن طريق قادته مما أثار الصرب، فحاولوا في أكثر من مرة استغلال غياب السلطان عن أوروبا في الهجوم على الجيوش العثمانية في البلقان وما جاورها ولكنهم فشلوا في تحقيق انتصارات تذكر على العثمانيين، فتحالف الصرب والبوسنيون والبلغار وأعدوا جيشًا أوروبيًا صليبيًا كثيفًا لحرب السلطان الذي كان قد وصل بجيوشه بعد إعدادها إعدادًا قويًا إلى منطقة كوسوفو في البلقان.
ومن الموافقات التي تذكر -وإن كان لا يجوز التبرك بمثل هذه الموافقات أو فعلها فهذا ما لا يجوز عن قصد، أما وقد حدثت من باب المصادفة بلا مشكلة في ذلك، ولكن لابد ألا تؤخذ موضع الأساس الذي يعول عليه.- أن وزير السلطان مراد الذي كان يحمل معه مصحفًا فتحه على غير قصد فوقع نظره على هذه الآية: {يا أيها النبي حرض المؤمنين على القتال إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين وإن يكن منكم مائة يغلبوا ألفًا من الذين كفروا بأنهم قوم لا يفقهون} فاستبشر بالنصر واستبشر معه المسلمون ولم يلبث أن نشب القتال بين الجمعين وحمي وطيسه واشتدت المعركة وانجلت الحرب عن انتصار المسلمين انتصارًا باهرًا حاسمًا، انتصارًا شتت استقلال الصرب حتى القرن التاسع عشر، بل وترتب عليه دخول أعداد كبيرة في الإسلام.
وقفة
من المُلاحظ على مر التاريخ أن أعداء الأمة لا يتفقون ولا يتحدون إلا في حال وجود عدو مشترك وهو الإسلام، فهم مختلفون حتى ولو ظهر لنا غير ذلك فقوله تعالى ” لَا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا إِلَّا فِي قُرًى مُّحَصَّنَةٍ أَوْ مِن وَرَاءِ جُدُرٍ ۚ بَأْسُهُم بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ ۚ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّىٰ ۚ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَّا يَعْقِلُون”، أي تراهم مجتمعين فتحسبهم مؤتلفين ومتوحدين، وليسوا كذلك في الحقيقة، فهم مختلفون غاية الاختلاف، ولكن إذا ظهر عدو الإسلام في الأرجاء فيحتشَد الأعداء، وينقض الأقرباء، ويجتمع المنافقون؛ لينالوا مِن أمة كرَّمها رب الأرض والسماء، خير أمة أُخرجت للناس، أمة الإسلام، يجتمعوا عليها، وشعارُهم المعلَن صراحة: دمّروا الإسلام أبيدوا أهله.
ولأن اليهود تعلم هذا الأمر جيدًا، بل واستفادت منه تمام الاستفادة في احتلال فلسطين المسلمة، حيث لعبت في العقيدة النصرانية بإنشاء مذهب جديد وهو المذهب البروتستانتي الذي يجعل خلاص للنصارى وظهور المسيح المخلِّص في إنشاء وطن قومي لليهود في فلسطين، الأمر الذي تحول من اتحاد ضد عدو مشترك وهو الإسلام إلى عقيده أساسية تستغلها اليهود
استشهاد السلطان مراد
بعد الانتصار في قوصرة، قام السلطان مراد يتفقد ساحة المعركة ويدور بنفسه بين صفوف القتلى من المسلمين ويدعوا لهم، وفي أثناء تفقده للجرحى قام جندي من الصرب كان قد تظاهر بالموت وأسرع نحو السلطان فتمكن الحراس من القبض عليه، ولكنه تظاهر بأنه جاء يريد محادثة السلطان ويريد أن يعلن إسلامه على يديه، وعند ذلك أشار السلطان للحرس بأن يطلقوه فتظاهر بأنه يريد تقبيل يد السلطان وقام في حركة سريعة بإخراج خنجر مسموم طعن به السلطان فاستشهد رحمه الله في 15 شعبان 791هـ.
الكلمات الأخيرة للسلطان مراد
«لا يسعني حين رحيلي إلا أن أشكر الله إنه علام الغيوب المتقبل دعاء الفقير، أشهد أن لا إله إلا الله، وليس يستحق الشكر والثناء إلا هو، لقد أوشكت حياتي على النهاية ورأيت نصر جند الإسلام. أطيعوا ابني بايزيد، ولا تعذبوا الأسرى ولا تؤذونهم ولا تسلبوهم، وأودعكم منذ هذه اللحظة وأودع جيشنا الظافر العظيم إلى رحمة الله فهو الذي يحفظ دولتنا من كل سوء».
لقد استشهد هذا السلطان العظيم بعد أن بلغ من العمر 65 عامًا، تربَّع فيها على تخت السلطنة مدة ثلاثين عامًا أعلى فيها شأنها، ووسَّع نطاقها، وأوجد العلم العثماني وهيئة الطغراء الشاهانية، وشاد أبنية عظيمة من جوامع ومدارس وقلاع وحصون وغير ذلك، ومن أشهر آثاره سراي أدرنه، وكانت غزواته وفتوحاته ٣٧ ما بين هذا وذاك.
أهم فتوحاته رحمه الله
فتح بعض سواحل البحر الأسود وكذلك فتح تلك القلاع: ديما توكا، بنار حصار، بابا اسكي، لولو بروغازي، كشان، سيزابولو، فيزا، كيرك كليسه، صاموكو، جورلو. كما قام بفتح عدد من المدن مثل:ينجه، يانبولي، إسليميا، فيليباري، آنجه كيز، فيراجك، أجزاء من مقدونيا ونيش، جاتلاجه، إشت، مناصتر، صوفيا، أجزاء من البانيا ادرنه التي أصبحت العاصمة بعد ذلك، وكل هذا إن دل إنما يدل على كثرة الفتوح والجهاد في عهد رحمه الله.
ناهيك عن كسر شوكة الصليبين وتحالفاتهم ضد الدول الإسلامية، ورفع هيبة الإسلام عاليةً خفاقة، ونشر الإسلام في أوروبا بشكل كبير، وتهيئة الأمور لمن جاء بعد ذلك لفتح القسطنطينية. فرحم الله مراد الأول رحمة واسعة.
المصادر
- عزتلو يوسف بك آصاف، تاريخ سلاطين بني عثمان
- أورخان محمد علي-روائع من التاريخ العثماني
- عبد الفتاح حسن أبو علية، الدولة العثمانية والوطن العري الكبير
- على الصلابي، الدولة العثمانية عوامل النهوض والسقوط
- إسماعيل احمد ياغي، الدولة العثمانية في التاريخ الإسلامي الحديث
رحم الله السلطان العثماني واسكنه فسيح جناته وجزاه الله عن المسلمين خير الجزاء كان خير رجل يعلي كلمة الحق وغادر الحياة شهيدا على يد اخس البشر وهم الصرب ولهذا استحق منا احسن الدعاء .