صاعقة الإسلام بايزيد الأول.. شخصيات حق علينا معرفتها
إنه لمن المفارقات أن يولد بايزيد عام 761 هـ وهو العام الذي تولى فيه أبوه السلطنة، التي استمرت ثلاثين عامًا حيث تسلم بايزيد الحكم بعد استشهاد والده رحمه الله مراد الأول، وكان دائم الجهاد يتنقل من أوروبا إلى الأناضول ثم يعود مسرعا إلى أوروبا يحقق نصرًا جديدًا، أو تنظيمًا حديثًا؛ حتى لقب على إثر هذا باسم “يلدرم” أي الصاعقة نظرًا لتلك الحركة السريعة والانقضاض المفاجئ على الأعداء التي يقوم بها دائمًا، وقد أطلق هذا اللقب فعليًا منذ حملة قره مان عام 1378م، وكذلك بفعل سرعته في وضع وتنفيذ الخطط العسكرية.
شخصية بايزيد الأول
كان ذا شخصية متميزة وفذة منذ صغره وهذا ما كان يراه والده رحمه الله فيه؛ فاعتبره وريثًا لعرشه واستمرارًا للملك والفتوحات، حتى إنه عندما كان في الرابعة عشر من عمره منحه والده تفويضًا ليدير دفةَ البلادِ العثمانيةِ خلال غيابه في الجهاد في بلاد الصرب، فقامت سياسته على ثلاث ركائز:
- توحيد منطقة الأناضول تحت الإدارة العثمانية.
- ثانيها محاولة قيادة العالم الإسلامي.
- ثالثها الجهاد في سبيل الله.
وقد كان ورعًا ملتزمًا بصلاة الجماعة، ويُروى أنه شهد يومًا في قضية وكان القاضي هو شمس الدين حمزة الفناري فردَّ شهادة بايزيد، فسأله عن السبب فقال القاضي: إنك تاركٌ لصلاة الجماعة، فقام ببناء جامع أمام قصره عيَّن لنفسه فيه موضعًا ولم يترك الجماعة بعد ذلك. وفى ذلك دلالة رائعة على مكانة العلماء في هذا الزمان والتي تفتقد عطرها ورحيقها هذه الأيام. فموقف القاضي غير إلى الأحسن فجعل الشاب لم يترك صلاة جماعة أبدًا بعد ذلك، فهكذا العلماء وأرباب الحق، يصدعون به ولا يخشون شيئًا، وكان والده قد عينه سابقًا على إمارة قرميان أو كرمان باختلاف اللفظ، عام 1381م فرعى المصالح الشرقية للدولة وأثبت تميزه في المعارك أكثر من مرة.
الوضع بعد توليه الحكم
وبعد أن تولى الحكم رحمه الله، كان المتربصون حوله من كل جانب، داخليًا وخارجيًا، فعلى المستوى الداخلي كان من تبقى من أمراء السلاجقة يترصدون له ويتحينون الفرصةَ للانقضاض عليه وأخذ ما سلب منهم من قبل، واستعادة ملك ضائع، إضافة إلى أخيه الوحيد يعقوب، أما على المستوى الخارجي فكان هناك أكثر من عدو في آن واحد، حيث المصالح النصرانية تتلاقى على ضرورة إخراج الأتراك من أوروبا بالكامل، والمجر على رأس هذا، بدعم من القسطنطينية إضافة إلى الصرب.
أخوه يعقوب
وبداية، بدأ بايزيد بأخيه يعقوب الذي حاول أن ينافسه على السلطة، مما قد يؤدى إلى التمزق، فقتله خشية الانشقاق في الصف، ولأنه يعتبر بذلك خارجًا عليه، وعلى الرغم من قسوة هذا التصرف الذي بدا واضحًا في سياسة خلفاء بني عثمان من قتل الأخوة المنافسين على الحكم كما سنذكر تباعًا، إلا أنه حقق الهدف المرجو منه وهو القضاء نهائيًا على عناصر التقسيم مما يعد تتويجًا لمنطق المركزية، ناهيك عن أن الواقع يؤكد أن الدولة العثمانية لم تتأثر بالنزاعات الأسرية على مدار خمسة قرون.
وقفة مع هذا الحدث
لا بد أن نقف وقفة مع هذه النقطة لأهميتها الشديدة، فبداية يلومنا البعض عند القول إن الدولة العثمانية دولة عظيمة وأن موضوع قتل الأخوة لم يؤثر على قيام الدولة واستقرارها، فنود أن نوضح أن الحقيقة لا بد من ذكرها أيًا كان وضعها، وأن الدولة العثمانية هي بالفعل دولة عظيمة كبيرة وإلا ما استمرت ما يزيد عن ستة قرون، وبسطت نفوذها في ثلاث قارات فيما يزيد عن ثلاثين دولة، ولا بد أن نعلم أن أرباب هذه الدولة إنما هم بشر لهم ما لهم وعليهم ما عليهم وكل يوزن بميزان الإسلام الذي ندين به لله وعلى هذا نقرر أن هذا أخطأ أو أصاب.
فالقتل بصفة عامة غير مبرر إلا بوجه حق، وإلا فيعد جريمة كبرى، وكبيرة من الكبائر قال الله في حقها {مِنْ أَجْلِ ذَٰلِكَ كَتَبْنَا عَلَىٰ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا ۚ وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِّنْهُم بَعْدَ ذَٰلِكَ فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ}، وقوله تعالي: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّه عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا}، وروى مسلم في صحيحه عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في حجة الوداع: ((إن دماءكم وأموالكم حرام عليكم، كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا))، ومن ذلك نخلص إلى أن القتل العمد بغير حق هو جرم كبير لا يبرره أحد ولا يجوز بأي حال أن يحاول إنسان تبريره لتجميل شخصية تاريخية حتى ولو كانت لها إنجازات في التاريخ الإسلامي.
وبإسقاط ذلك على السلطان بايزيد فهنا الوقفة المهمة وهي أن هناك مصادر تؤكد أن أخاه يعقوب قد نازعه في السلطان، وهو ما يعد خروجًا عن الحاكم، في هذه الحالة إن صحت- فالجزاء هو القتل، بعد أخذ الفتوى الشرعية من قبل أهل الفتوى في الدولة، وبالفعل كان بايزيد بعدما تيقن من هذا وأخذ الفتوى الشرعية التي أباحت دم أخيه نظرًا لأنه يدعو للفتنة التي هي أشد من القتل. فالسطان بايزيد وفقًا لذلك كان محقًا ولا أعلم لماذا كثير من المراجع العربية تغفل هذه النقطة؛ وهي كون وجود محاولة للخروج على الحكم أو منازعة في السلطان من قبل أخيه يعقوب، ونحن هنا نتكلم عن حالة بايزيد فقط، إذ يوجد ما يبرر فعله ويجيزه، وبالتالي لا يؤخذ هذا الكلام ويُسقط على غيره، أو تؤخذ الفتوى الشرعية التي صدرت من أهلها لتبرر قتل آخرين، أي هذا الموقف وإن كان بداية أحداث قتل الإخوة في الإمبراطورية العثمانية إلا أن له مبررا وذلك عكس البعض الذين سيأتي ذكرهم لاحقا.
الصرب
بعد أن فرغ من أخيه بدأ الاهتمام بأمر الصرب، وكان قد ولّى الأمير (اصطفن بن لازار) ملك الصرب حاكما عليها فتزوج بايزيد من أخته اوليفيرا وأجازه على بلاده بأن يحكمها على حسب قوانينهم بشرط دفع جزية معينة، وتقديم عدد معين من الجنود ينضمون للجيش العثماني وقت الحرب، وبالفعل قد تم ذلك، ولم يضم بلاد الصرب إلى أملاك الدولة العليا المحمدية، وذلك ليسكن بال الصرب، وحتى لا يكونوا شغلا شاغلًا له نظرًا لحبهم للاستقلال، أي كان هذا الزواج وهذه الاتفاقية بمثابة هدنة، أو صلح مع الإقرار بالجزية التي اتفق عليها مع الصرب دون الدخول في حرب مع الجيوش العثمانية في ذلك الوقت، وخصوصًا والحروب السابقة تؤكد القوة العثمانية، حتى لو كان الظاهر الآن أن هناك حاكمًا جديدًا ويوجد بعض المشاكسات والقلاقل التي تحدث داخل الدولة، أو ترقب بعض الأعداء لها.
الوضع الداخلي
وعلى إثر هذا ساد الأمن من ناحية أوروبا؛ فقصد بلاد آسيا وفتح مدينة (الأشهر) المعروفة الآن باسم فيلادلفيا، سنة 1391م وهي آخر مدينة بقيت للروم في آسيا، وهابه أمير (ايدين)، فلم يقاتله وترك أملاكه وعاش مطمئن الخاطر في إحدى المدن الخارجة عن النفوذ العثماني وكذلك ترك أميرا (منتشا) و(صاروخان) ولايتيهما واحتميا عند أمير (قستموني)، وتنازل الأمير علاء الدين حاكم بلاد القرمان للسلطان بايزيد عن جزء عظيم من أملاكه ليؤمنه على الجزء الباقي، وكل هذا يؤكد قوة الدولة وأنها مهابة، حيث إذا ضربت أوجعت، وإذا تكلمت أسمعت.
ولكن من الواضح أن ما فلعه الأمير علاء الدين كان في ظاهره برضا وبخوف من السلطان بايزيد، حيث إن الوقت أظهر أنه كان خداعًا وتصيدًا للفرصة التي واتته عندما ترك السلطان بايزيد الأناضول متجهًا للفتوحات، فرأى أن الفرصة قد حانت فأنشأ حلفًا ضده مكونا من القاضي برهان الدين أحمد بن شمس الدين صاحبِ سيواس، وأمراء (صاروخان) و(كرمان) و(منتشا) و(حميدلي)، واسترد يعقوب الكرماني الأراضي التي كان قد تنازل عنها لبايزيد الذي جعل شقيق زوجته حاكمًا عليها، واستولى برهان الدين أحمد على (قير شهر)، كما سيطر علاء الدين على (بيهر) وتقدم نحو (اسكى شهر)، الأمر الذي هدد كيان الدولة العثمانية.
فاضطر بايزيد الأول للرد على هذه الانتهاكات، وتلقى مساعدات الدول التي كان قد عقد معها صلحًا ورضيت بدفع الجزية (أي تدين بالتبعية الاسمية للدولة العثمانية) مما يجيز له شرعا تلقي المساعدات من قبلها ولا يعتبر في حكم الشرع ممن يوالي اليهود والنصارى على إخوته من المسلمين، بل في مثل هذه الحالة يعتبر هؤلاء تحت رعايته ويعدون من قبيل رعيته التي وجب عليهم تقديم يد العون إذا طلب الحاكم ذلك، فقدم المساعدة (مانويل الثاني)، و(يوحنا السابع)، و(اسطفان لازار) الصربي، بالإضافة إلى سليمان الجنرلي أمير (قستموني).
معركة (آق جاي)
وبدأت الحرب بين السلطان بايزيد الأول الصاعقة وبين الخارجين المارقين على الدولة، الراغبين في الانقسام بين طياتها، وتقابل الجيشان في موضع يقال له (اق جاي) فهزمه السلطان بايزيد واسره هو وولديه محمدا وعليا وضم ما بقي من أملاكه التي كان قد أقره عليها سابقًا، وبذلك انمحت سلطنة قرمان وصارت ولاية عثمانية، ثم فتحت إمارتا سيواس وتوقات اللتان دخلهما برهان الدين.
وبذلك لم يبق من الإمارات التي قامت على أطلال دولة آل سلجوق إلا إمارة قستموني خارجة عن أملاك الدولة العثمانية نظرًا لأن صاحبها آثر الانضمام إلى حلِف السلطان بايزيد عن مساعدة أقرانه، وكان أميرها يدعى بايزيد أيضا واحتمى ببلاده كثير من أولاد الأمراء الذين فتحت بلادهم فكان ذلك سببا لغزو بلاده. إذ إن السلطان بايزيد الصاعقة طلب منه أن يسلمه صاحب (ايدين) و(صاروخان) فامتنع عن ذلك ورفض، فاعتبر بايزيد ذلك تحالفا ضده واستعدادًا جديدًا للانقضاض عليه مرة أخرى، خصوصًا والأحداث التي مضت ليست ببعيد، بل ما زالت حاضرة، فاتخذ القرار السريع والعاجل، ووضع الخطة العسكرية التي أُخذت في طور التنفيذ بسرعة وعجالة -كما هو معهود عن بايزيد دائما من التصرف السريع-؛ فتوجه على رأس جيشٍ بنفسهِ، وأغار على البلاد ففتح مدائن سامسون وجانك وعثمانجق، وبذلك انضوت جميع الإمارات الصغيرة القائمة على أطلال السلاجقة تحت لواء الدولة العليا وصار العلم العثماني يخفق منصورًا فوق صروحها موحدًا صفها، أما بايزيد صاحب قستموني فقد قام بتصرف يعد طامة كبرى عليه ووصمة عار إلى يوم الدين فقد لجأ واحتمى بتيمور لنك سلطان المغول.
وهنا لا بد من وقفه في غاية الأهمية: إذ يقول رب العزة عز وجل: {واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا}، وقولة تعالى: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ ۖ وَاصْبِرُوا ۚ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ}، ففي هذا إشارة هامة جدًا وخطيرة، إذ في الوحدة السلامة، وفي الاختلاف والشقاق الفساد والدمار، وهذا هو سبب الذل والهوان الذي نحياه الآن والذي عمد عليه أعداء الإسلام في اتفاقية سايكس بيكو وما تلاها من تدمير للشعوب الإسلامية وتعيين حكام لا يفكرون البتة في الخلافة الإسلامية، أو الاتحاد الإسلامي، وإنما مثل علاء الدين هذا ومثل بايزيد حاكم قستموني لا يفكرون سوى في أنفسهم والمجد الشخصي فقط.
وهذا هو حب الإمارة والرئاسة المرتبط بحب الظهور نتيجة ما يصبه المنصب والكرسي في النفوس الضعيفة من تعلق به، وتمسك به حتى آخر نفَس ولو على حساب الدين، فهو فتنة، وهي التي حذر منها رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله: ((إنكم ستحرصون على الإمارة، وستكون ندامة يوم القيامة، فنعم المرضعة وبئس الفاطمة))، فقوله: «نعم المرضعة» فذلك الذي يعني أولها، لأن معها المال والجاه والسلطة، وقوله: «بئس الفاطمة» أي آخرها، لأن معها القتل والعزل في الدنيا والحسرة والتبعات يوم القيامة، وقد بيَّن النبي صلى الله عليه وسلم عواقب الرئاسة ومراحلها الثلاث.
في قوله صلي الله عليه وسلم: ((إن شئتم أنبأتكم عن الإمارة وما هي: أولها ملامة، وثانيها ندامة، وثالثها عذاب يوم القيامة إلا من عدل)).
فالواجب عند وجود قوة مثل قوة العثمانيين في زمانهم هو الانضمام معهم وتوحيد الصف ضد أعداء الإسلام، لا سيما والخطر المغولي لم يكن قد زال بل هو قائم ويهدد البلدان الإسلامية، وكذلك تَرَبُّص الأعداء من قِبل النصارى دائما وأفاعيل القسطنطينية وفرسان القديس يوحنا والدعوات لحروب صليبية ما زالت مستمرة وفعالة وتؤتي بعض الثمار من حين لآخر، فكيف يفكر أمثال هؤلاء في المطامع الشخصية؟ بل كيف يفكر حكام اليوم في أنفسهم بعيدًا عن الوحدة والتوحد في سبيل نصرة دين الله؟ وكيف يغفلون عما يحدث لمسلمي تركستان وماينمار والشيشان وسرويا وكشمير والصومال ومالي والعراق وغيرهم؟
فإذا كان في قلوب هؤلاء مثقال ذرة من حب لدين الله تعالى، أو انتماء للإسلام وليس للقوميات والعصبيات الجاهلية، فعليهم أن يتركوا كل النظم الفاسدة والأفكار الهدامة وراء ظهورهم ويتجهوا إلى التوحد يدًا واحدة وعلى قلب رجل واحد ومنهج واحد وهو منهج الإسلام.
ويزول العجب مما فعله حاكم قستموني وقبله علاء الدين عندما ننظر لحالنا الآن، فمثلهم كمثل حكام كثر اليوم يفضلون التعاون مع العدو الصهيوني على نصرة إخوانهم في الدين والعقيدة من أبناء فلسطين، يفضلون التحالف مع الأمريكان، على الوقوف في صف تحالف لنصرة العراق، يفضلون الوقوف مع فرنسا، على نصرة إخوانهم في مالي وإفريقيا الوسطي، يفضلون السكوت عما تفعله روسيا من نصرة الشيعي بشار، على الوقوف في صف المجاهدين في سوريا، يفضلون نصرة حفتر لشق صف ليبيا على دعم المسلمين والطريق الإسلامي فيها، وكذلك آثروا الصمت على مذابح عدة حدثت للمسلمين في البوسنة والهرسك، وتركستان وبورما وغيرها، بل أن كثيرًا من حكام اليوم ارتموا في أحضان أمريكا واليهود وبطريقة علنية، دون أدنى نوع من الخجل، ويروجون ويسوقون أن هذه هي السياسة ومهاراتها، فلا نعجب من هذا بل نرميهم جميعا في مزبلة التاريخ.
القسطنطينية وعزة المسلمين
كان بايزيد دائم التدخل في النزاعات العائلية بين أفراد أسرة (باليولوغوس) بالقسطنطينية، حتى يكون له موضع قدم في الأمر حين تأتي الفرصة لفتح المدينة التي أُشير إليها في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعلى ذلك سار بايزيد الصاعقة يساعد يوحنا السابع على أن يمسك مقاليد الحكم من يوحنا الخامس الذي لم يستطع أن يسكت ويرضى بالأمر الواقع ولكن ساعده ابنه مانويل في استعادة مقاليد الحكم من جديد، وذلك بعد حشد أسطول سَمح له بإنقاذ والده وتوليه العرش وذلك في عام 1390م فالتجأ الإمبراطور يوحنا السابع إلى بايزيد الأول الذي أقطعه أرض سلمبرية واتخذه وسيلة للضغط على الإمبراطور يوحنا الخامس، الذي وجد نفسه رهينة بقدر ما كان تابعًا، واضطر تحت ضغط طلب بايزيد الأول إلى إرسال قوة عسكرية مؤلفة من مائة جندي بقيادة ابنه مانويل اشتركت مع الجيش العثماني في فتح مدينة الأشهر (فيلاديلفيا) آخر معاقل البيزنطيين في آسيا وذلك في عام 1391م حتى يكون ضمانا بعد ذلك من أي أحداث مفاجئة قد تعيقه، وكذلك إعلانا للجميع أن إمبراطور القسطنطينية يقف في صف بايزيد فيشق الصف الصليبي ضده ويسهل فتح المدينة وقد كان بالفعل كما خطط بفضل الله تعالى.
كان الإمبراطور يوحنا الخامس حذرا من بايزيد لعلمه أنه يريد أن يعين يوحنا السابع بدلًا منه، بالإضافة إلى تخوفه من محاولات بايزيد لفتح القسطنطينية؛ الأمر الذي جعله يقوم بترميم وتقوية أسوار القلعة وتشييد بعض القلاع الجديدة مستغلًا فرصة غياب بايزيد بآسيا الصغرى، فأرسل له بايزيد تهديدًا ووعيدًا صريح اللهجة وأمرًا: بهدم ما بنى من قلاع وإلا سيكون وابل غضب أوله تعذيب ابنه مانويل الذي لديه، وهذا مما يدل على حنكة بايزيد منذ البداية في أنه أجبره على إرساله معه في الحرب لضمان أي أحداث قد تحدث مثل هذه، وعلى إثر هذا استجاب الإمبراطور يوحنا الخامس غصبًا وكرهًا عنه لعزة المسلمين والعثمانيين الأتراك ونفذ ما طلبه منه بايزيد حرفيًا.
ثم في 1391م يموت الإمبراطور البيزنطي يوحنا الخامس، وقيل إن الإمبراطور يوحنا قد انزوى في قصره ومات قهرًا لاعتباره ما حدث من بايزيد إهانة كبرى؛ كما لو أنه يذل ابنه مانويل ويفرض شروطه عليه بهدم ما بناه من تجديدات وغير ذلك من الأمور… فقيل إنه مات كمدا على إثر هذا. وللعلم، فإن بايزيد كان متعسفًا معهم نظرا لأنهم كانوا يبثون الدسائس والمكر والفتن داخل الأراضي الإسلامية، ناهيك عن القتل والتدمير وإيواء من يلتجئ إليهم من الفارين من العدالة، ومرتكبي الجرائم، ومنفذي الانقلابات وغير ذلك من المجرمين، بغية تدمير الدولة الإسلامية، فلا يظن ظان أن بايزيد كان في تعسفه هذا ظالما لهؤلاء، بل إن هؤلاء أذاقوا المسلمين ويلات وويلات، والدولة العثمانية ذاقت منهم الأمرَّيْن.
أما ابنه مانويل فيعلم بموت والده وهو في قصر بايزيد، حيث كان يعيش في البلاط العثماني في (بورسه) تحت عين بايزيد، إذ لم يجد سبيلا إلا محاولة الفرار، وبالفعل استغل غفلة من الحراس وفر هاربًا، دون علم بايزيد وعاد مرة أخرى إلى القسطنطينية، الأمر الذي قلب الأحداث تجاه القسطنطينية من جديد، بل وتوج إمبراطورًا خلفًا لوالده.
ولكن يثور التساؤل هل كان هروب مانويل هروبًا حقيقيًا أم بتخطيط من السلطان بايزيد؟ وما الذي ترتب على هذا الهروب من أحداث؟
نجح مانويل بالفعل في الفرار وعاد مرة أخرى إلى مدينة القسطنطينية، بل وتوج إمبراطورًا خلفًا لوالده. الأمر الذي اعتبره السلطان العثماني بايزيد إهانة له، وتحديًا لمشاريعه المستقبلية داخل بيزنطة. والحقيقة أنه كان يتحين الفرصة التي استغلها؛ فجهز جيشًا عبر به إلى أوروبا وحاصرها، ولما علم مانويل بذلك -وكان قد تُوِّج إمبراطورًا- أدرك أنه لا قِبَل له بمقاومة الجيش العثماني؛ فجنح للسلم، وكانت اتفاقية بشروط لصالح العثمانيين ومسلمي المدينة [1].
تعقيب
أود أن أعقب على واقعة هروب مانويل، فأرى أنها كانت مخططًا من مخططات بايزيد؛ إذ كيف وصل إليه الخبر منذ البداية وهو داخل القصر محاطًا من كل جانب؟ كما كيف له أن يهرب من بايزيد وهو في قصر من قصوره وتحت الحراسة المشددة؟ أي أن ذلك الهروب يعد مستحيلًا!
فمانويل يعد الورقة الرابحة التي يلعب بها وفاز بها في موقف سابق. بل ومسألة الأبناء هذه كانت تُستغل في ذلك الوقت كما سنرى فيما بعد. فهروبه -وهو يضع عينه عليه كالصقر- يعتبر من وجهة نظري أمرًا مستحيلًا.
حتى وإن استطاع الهروب، فلن يستطيع الخروج والعبور خارج الدولة العثمانية، وإن عبر فوصوله القسطنطينية بتلك السهولة وهذا اليسر دون مواجهة صعوبات يعد أمرًا كبيرًا ومحل نظر، إلا إذا كان ذلك تحت عين وبصر السلطان بايزيد، ومخططًا له، حتى تكون فرصة لدخول المدينة من جديد.
وبالفعل، استغل بايزيد هذا التصرف كما لو كان يعلم به مسبقًا وينتظر وصول مانويل المدينة، فبدْءُ مراسم التتويج فور وصوله القسطنطينية أمر يعتبره بايزيد إهانة له، وخروجًا بدون إذن مباشر منه من قصره؛ ما يستدعي التحرك والتدخل من قبله مباشرة، فيخرج جيشًا وكأنه على علم بذلك، وعلى أهبة الاستعداد.
وبالفعل، تحرك بايزيد بجيشه دون هوادة أملًا في أن يكون هو الذي بشر به الحبيب المصطفى في الحديث الشهير: ((لتُفْتَحَنَّ القسطنطينية، فلنعم الأمير أميرها، ولنعم الجيش ذلك الجيش)).
الصلح
ولكن الأمر انتهى بالصلح، وكانت شروط الصلح التي وافق عليها مانويل الإمبراطور أملًا في تجنب الحرب، وكذلك وافق بايزيد نظرًا لبزوغ أمر البلقان، ما يعني أن الحرب بدأت تتضح جليًا، وكان مصيبًا رحمه الله في نظرته للأمور، إذ كانت الحرب فعلًا، وكان الصلح هو الأمثل في مثل هذه الظروف، والذي كانت شروطه كالتالي:
- زيادة الضريبة التي يدفعها للعثمانيين (الجزية).
- تأسيس حي خاص بالمسلمين في القسطنطينية.
- إنشاء مسجد ومحكمة شرعية.
- تمركز قوة عسكرية عثمانية، مؤلفة من ستة آلاف جندي، على طول الشاطئ الشمالي للقرن الذهبي (وهذا القرن الذهبي سيكون نقطة محورية جوهرية في فتح المدينة بعد ذلك في عهد الفاتح رحمه الله)، وهذا ما يشبه الآن القواعد العسكرية الأمريكية في بلاد المسلمين.
- تقديم فرقة عسكرية بيزنطية تقاتل إلى جانب العثمانيين[2].
بلاد البلغار والتحالف النصراني على بايزيد
بعد هذه الأحداث وصلح القسطنطينية، وما سبقها من أحداث على رأسها موقعة كوسوفو (ويقال أيضا معركة قوصوة نسبة إلى قوصوة، كوسوفو حاليا)، وهي معركة وقعت في 15 يونيو 1389م، 20 جمادى الآخرة 791هـ بين جيش العثمانيين وجيوش الصليبيين المكونة من الجيش الصربي والألباني بقيادة ملك الصرب (أوروك الخامس). حدثت المعركة في مكان يسمى قوصوة (كوسوفو حاليا) التي علا فيها نجم العثمانيين عاليًا خفاقًا. فأثار ذلك الرعب في أوروبا كاملة، وعلى رأسها البلقان، حيث معظم الأراضي البيزنطية والصرب والبلغار والألبان، وبعد أن نجح بايزيد بتحييد الصرب من الصراع بعد موقعة كوسوفو، وتعيين اصطفن عليها، وزواجه ابنة لازار أخت اصطفن، فكان الصرب أقرب للحياد، وتمكن بايزيد من هزيمة الأفلاق والألبان، ولم يتبقَ سوى الجبهة البلغارية أمامه التي مثلت مركز المقاومة للتقدم العثماني في شرقي أوروبا، وقلعة الدفاع النصراني ضد المسلمين.
اعتقد البلغار أنهم أضحوا ورثة الإمبراطورية البيزنطية في البلقان، ونتيجة لهذا كان الصدام المروع آتيًا لا محالة بينهم وبين بايزيد [3] الذي آثر الصلح أمام أسوار القسطنطينية لهذه الأحداث.
وتمكن (ميرسيا) أمير الأفلاق، وهو المشمول بحماية المجر (ذلك لأن المجر ترى في بلغاريا الحد الفاصل بينهم وبين العثمانيين؛ فلذلك كانت تقف بجوارهم بشدة وقوة وتدعمهم إلى أقصي الحدود، لأن بايزيد إذا عبر هذه النقطة لن يكون أمامه سوى الحرب مع المجر، وهي الحرب التي ستكون حتمية لا محالة) من احتلال (دوبروجا) ويقال: دوبروجة أو دبروجة وهو إقليم تاريخي يقع اليوم جنوب شرق رومانيا (أهم مدن هذا الشطر قنسطنطة)، وشمال شرق بلغاريا (أهم مدن هذا الشطر تولبوخين) و(سيلستر) على ضفة نهر الدانوب اليميني.
وسعى المجريون لتوطيد أقدامهم في فيدين، والاستيلاء على نيقوبوليس الواقعة على نهر الدانوب عام 1392م [4]، وهو ما دفع بايزيد للتحرك السريع الخاطف كما تعود في أسلوبه الحربي والتكتيكي والعسكري.
ففك الحصار عن القسطنطينية كما ذكرنا آنفًا، وتوجه سريعًا إلى مواجهة البلغار؛ فهاجم العاصمة (تيرنوفو) مباشرة، وفتحها في ذات العام 1392م، وأخضع بلغاريا للسيادة العثمانية وطرد (ميرسيا) من الأراضي التي استولى عليها سابقًا.
فانسحب ملك بلغاريا سيسمان إلى (نيقوبوليس) الواقعة تحت يد المجر وتحصن بها، فتابع بايزيد الزحف، واستطاع دخول نيقوبوليس، وقبض على سيسمان وأعدمه من فوره. أما ابنه فقد استسلم أمام بايزيد، فعينه على سامسون عام 1394م [5].
موقعة نيقوبوليس (نيكوبله)
كان خضوع بلغاريا تحت السيادة العثمانية الخبر الصاعقة من (الصاعقة بايزيد)، السلطان الكريم الذي يقاتل ابتغاء مرضات الله؛ لذلك يجد التوفيق والتسديد من رب العزة عز وجل أن يوفقه في وضع الخطط سريعًا وتنفيذها سريعًا، ويُوفق فيها بفضل ومنّة من رب العزة سبحانه، توفيقًا أعاد العزة للمسلمين بعد أن كانوا أذلةً.
فأعاد الموقف والدفة لصالح المسلمين، خصوصًا بعد أن علا نجم المغول، وتحالف الصليبون معهم على حساب المسلمين، والذي ظهر جليًا في سقوط الخلافة العباسية وقتل الخليفة العباسي رفسًا، وباقي الأمور الشنيعة التي فعلوها وارتكبوها، والإبادات التي أحدثوها.
فكانت هذه الأحداث وغيرها وسابقها بمثابة بارقة الأمل التي تُبث في النفوس وتُحييها بعد مماتها، وكذلك شعاع القتل في القلوب والرعب في العقول والقلوب في آن واحد لدى أعداء الإسلام، بحيث أصبح كل عدو يحسب الأمور ويقلبها ألف مرة قبل أن يعتدي على الممتلكات الإسلامية، التي كانت مشاعًا للجميع قبل ذلك الوقت.
لمّا علم سيجسموند ملك المجر الخبر الذي حل بالبلاد، خشي على ملكه إذ صار متاخمًا في عدة مواضع للدولة العلية؛ فاستنجد بأوروبا على الفور، ودعا البابا بونيفس التاسع لتكتل أوروبي صليبيي مسيحي ضد العثمانيين [6]، وأعلن الحرب الدينية بين أقوام أوروبا الغربية.
فأجابت الدعوة دول بورغونيا (ولاية مستقلة في شرق فرنسا لما مات أهم أمرائها شارل الجسور ولم يترك له وريث انضمت كغيرها من الولايات تحت السيادة الفرنسية)، وأرسل ابنه الكونت دي نيفر (مركز ولاية نيفر وتقع على جانب نهر لوار وتعتبر في الجنوب الشرقي لفرنسا)، ومعه ستة آلاف محارب أغلبهم من أشراف فرنسا، وفيهم كثير من أقارب ملك فرنسا نفسه.
وانضم إليه حين مسيره إلى بلاد المجر أمراء بافاريا (مملكة مستقلة بألمانيا)، واستيريا (النمسا)، وشوالية القديس يوحنا الأورشيليمي (يقال إن هؤلاء هم فرسان الهيكل أو أن لهم علاقة بهم على الأقل، وهم أقذر من أنجبت البشرية وقاموا بقتل بشع في المسلمين)، وكثير من الألمان.
ثم اجتاز هذا الجيش نهر الدانوب، وعسكر حول مدينة نيقوبوليس لمحاصرتها، فسار إليهم السلطان بايزيد ومعه مائتا ألف مقاتل [7]، وتذكر الوثائق أنهم كانوا مائة ألف فقط [8]، وهذا هو الأرجح.
وكان معهم كثير من أهالي الصرب تحت قيادة أميرهم اصطفن بن لازار، وغيرهم من الأمم المسيحية الخاضعة لسلطان العثمانيين. وتقاتل الطرفان قتالًا عنيفًا في 27 من سبتمبر عام 1396م [9].
بلغ العدد الإجمالي لهذه الحملة الصليبية التي أعلنها سيجسمون والبابا مائة وعشرين ألف جندي صليبي، جاؤوا ملبين دعوة البابا ضد المسلمين. وقد أسهمت الدول المشتركة بالعدة والعتاد والرجال من جنسيات مختلفة.
فكانت الدول التي لبت الدعوة هي: ألمانيا، وفرنسا، وإنجلترا، واسكتلندا، وسويسرا، ولكسمبورج، والأراضي المنخفضة الجنوبية، وبعض الإمارات الإيطالية، على رأسها البندقية التي قدمت دعمًا كبيرًا في هذه الحرب [10]، ناهيك عن فرسان القديس يوحنا.
ومع بدء الحرب وظهور القوة الصليبية التي بدأت تهاجم بشراسة وقوة، حيث انحدروا من ناحية نهر الدانوب حتى وصلوا نيقوبوليس شمالًا، ظهرت صاعقة من السماء على رؤوسهم تسمى بايزيد بجيشه القوي المجاهد في سبيل الله.
فقلب الموازين رأسًا على عقب، بتكتيك عسكري رائع ومنظم على خلاف قوة النصارى المختلفة غير المرتبة؛ فانهزم معظم النصارى، ولاذ البعض الآخر بالفرار، وأُسِر عدد كبير منهم، على رأسهم الكونت دي نيفر من فرنسا، وكان النصر المبين المزيَّن بتكبير وتهليل وفضل من الله العزيز الحكيم لصالح العثمانيين[11].
عزة المسلمين
ومن المواقف التي تدل على العزة والقوة التي كنا عليها في زمن العزة الإسلامية -لا زمن الخنوع والخضوع الذي نحياه اليوم ولا حول ولا قوة إلا بالله- ما حدث عند التفاوض على فك أسر الكونت دي نيفر، حيث قبل السلطان بايزيد إطلاق سراحه وقد أُلزِم بالقسَم على ألا يعود لمحاربته مرة أخرى.
يجوز ترك الأسرى على شرط أخذ وعد منهم ألا يقاتلوا أبدًا، وقد فعل الرسول -صلى الله عليه وسلم- ذلك في الأعرابي الذي جاءه وهو نائم ومعلق سيفه على الشجرة فقال من يمنع منك مني؟ فقال الله… إلى آخر الحديث. فتركه النبي -صلى الله عليه وسلم- بوعد ألا يقاتله بعد ذلك.
فكان الرد الصاعقة من بايزيد الصاعقة، ذلك الرد العظيم الذي يُتوج في التاريخ الإسلامي بحروف من ذهب لما فيه من كرامة وإباء نحتاجه الآن، وكم نحتاج أن نذكِّر به بعضنا بعضًا؛ لأن ما نراه من حال يقتل النفوس يومًا بعد يوم، فالأولى أن نذكِّر أنفسنا بهذا لعله يحيي ما مات في نفوسنا، فيخرج المجدد الذي يحمل لواء الجهاد في سبيل الله، ويجمع شمل المسلمين من جديد بعدما تفرق ويتفرق ويتشرذم كل يوم.
كان رد بايزيد عليه أن قال: «إني أجيز لك ألا تحفظ هذا اليمين، فأنت في حل من الرجوع لمحاربتي؛ إذ لا شيء أحب إلي من محاربة جميع مسيحيي أوروبا والانتصار عليهم» [12].
ماذا بعد النصر إلا سياسة الحكم؟
بعد أن تم النصر بفضل الله للمسلمين، وفر سيجسمون ملك المجر الذي كان قد بلغ من الغرور ما بلغ من الاعتداد بقوته وجنوده وجيشه حتى قال: «لو انقضت السماء من عليائها لأمسكناها بحرابنا»، فقد ولى هاربًا ومعه رئيس فرسان رودس، ولما بلغا في فرارهما شاطئ البحر الأسود وجدا هناك أسطولًا نصرانيًا؛ فوثبا على إحدى السفن وفرت بهما مسرعة لا تلو على شيء.
فكل هذا بفضل الله ومنّه وكرمه أن رفع شأن العثمانيين إلى عنانِ السماءِ، وأصبح اسم بايزيد يردَّد في أنحاء الدنيا كاملة، ودب الرعب في نفوس النصارى بشتى بقاع الأرض، وتبخرت مكانة المجر في عيون المجتمع الأوروبي، وانتهى ما كان يحيط بها من هيبة ورهبة [13]، وحلت محلها هيبة المسلمين.
ومما يظهر سياسة الحكم الخاصة ببايزيد، ما فعله بعد هذا النصر المبين في موقعة نيقوبوليس. إذ بعث رسائل لكبار حكام الشرق الإسلامي يبشرهم بالانتصار على النصارى، واصطحبت رسلُه إلى بلاطات ملوك المسلمين مجموعةً منتقاة من الأسرى المسيحين باعتبارهم هدايا من المنتصر ودليلًا ماديًا على انتصاره [14].
وهذا مما يدل على رغبته رحمه الله في بث روح الأمل من جديد في نفوس المسلمين، الأمر الذي ترتب عليه اعتراف الأقطار الإسلامية في المشرق بضرورة الوجود العثماني على المسرح السياسي.
فكان لانتصار موقعة نيقوبوليس على السلطان المملوكي في مصر والخليفة العباسي الذي يقوم عنده منذ سقوط بغداد على أيدي المغول عام 1258م بالغُ الأثر؛ ما حدا بالخليفة العباسي منح بايزيد لقب السلطان [15].
تيمورلنك
بعد هذه الأحداث والانتصارات، التفت بايزيد مجددًا إلى القسطنطينية، ويبدو أن مانويل بدأ في عدم تنفيذ التزاماته التي اتفق عليها من قبل، فتوجه بايزيد من جديد إلى حصار القسطنطينية، وبدأت الأحداث تتابع، حيث يستميت مانويل في الدفاع عن المدينة الحصينة، وطلب المدد من أوروبا.
فتلقى مساعدة من شارل الرابع ملك فرنسا، الذي أرسل قوة من الغرب الأوروبي من ألف ومائتي جندي بقيادة يوحنا لومينجر، أحد القادة الذين شاركوا في موقعة نيقوبوليس، ما يعني أن لديه من الخبرة الكثير في قتال العثمانيين وطريقة حرب الأتراك. وتوغلت هذه القوة في عمق الأراضي العثمانية حتى ينسحب بايزيد، إلا أن هذا لم يُجدِ نفعًا، ولم يفك الحصار عن المدينة.
إلى أن حدث حدث هام في التاريخ، ترتب عليه قلب الأحداث من جديد رأسًا على عقب، إذ ظهرت شخصية على ساحة الأحداث، هي من المغول، إنها شخصية تيمور لينك، الذي بدأ في اجتياح المنطقة؛ ما حدا بايزيد لفك الحصار، وسار بجيوشه لملاقاة هذا الطاغية الجديد من المغول، واكتفى قبل رحيله بإبرام معاهدة جديدة مع مانويل اتفق فيها على الآتي:
- يدفع الإمبراطور عشرة آلاف قطعة ذهبية لبايزيد الأول، الذي حصل على سلمبرية وجميع الأراضي الواقعة خارج الأسوار.
- تحديد أماكن سكن المسلمين في القسطنطينية وبناء مسجد لهم.
- ضرب النقود باسم السلطان العثماني [16].
والواقع كان يقول أن فتح المدينة كان قريبًا جدًا، حتى إن ملك فرنسا فقد الأمل في تقديم المساعدة نهائيًا لعلمه بعدم الجدوى، وجلس منتظرًا خبر سقوط المدينة في أي لحظة، إلا أن دخول تيمور لينك على مسرح الأحداث جعل الدفة تنقلب رأسًا على عقب، وعلى هذا سنعرف بقية الأحداث تباعًا، فمن هو تيمور لينك؟
ظهرت أثناء تلك الفترة قوَّة بشرية ضخمة يقودها رجل من أقسى الناس قلباً هو (تيمور لنك) الرافضي الخبيث الذي يدعي الإسلام ويظهر حبه الشديد لآل بيت، استطاع هذا الرجل أن يؤسس إمبراطورية ضخمة مترامية الأطراف فضم بلاد ما وراء النهر وبلاد الشام والهند وموسكو وآسيا الصغرى. وكان يؤمن أنه طالما يوجد في السماء إله واحد فيجب أن يوجد في الأرض ملك واحد، فكان يحلم بالسيطرة على العالم، واستباح (تيمورلنك) بعض البلاد مثل حلب وبغداد وغيرها، فعاث فيها تخريبا وقتلا ولم يستطع أحد أن يقوم في وجه هذا الطاغية؛ لعظمة جيوشه وأعدادها الضخمة.
وما فرِح ملوك أوروبا بشيء مثل فرحهم بظهور (تيمورلنك) الذي وجدوا فيه خلاصهم الوحيد من السلطان (بايزيد الأول)، فارتحل كثير من أمراء الأناضول الذين طردهم السلطان (بايزيد الأول) إلى خدمة تيمور لنك واحتموا به، وبلغ ذلك إمبراطور بيزنطة وأمراء أوروبا فأرسلوا إلى تيمور لنك يستنجدون به من السلطان بايزيد الأول وأوقدوا العداوة بينهما، وبالفعل طمع تيمور لنك في أملاك الدولة العثمانية وبدأ بالهجوم على أطرافها في آسيا الصغرى، وانضم إليه الأمراء الفارون من (بايزيد الأول). الأمر الذي أزعج السلطان بايزيد جدا فصمم على ملاقاة هذا الطاغية وقتله.
معركة أنقرة 1402م
احتلَّ تيمور لنك سيواس في الأناضول وأباد حاميتها هناك التي كان يقودها (أرطغرل) بن السلطان بايزيد، ولم يكتف بذلك بل أخذ الفرسان وأحنى رؤوسهم بين أرجلهم وألقاهم في خنادق واسعة وردمهم بالتراب. انزعج السلطان وكون جيشا يقدر بـ120.000 مقاتل، وكانت قوات تيمورلنك كثيرة جدا حتى إن بعض الروايات تذكر أنها وصلت إلى 800.000 مقاتل. هذا بالإضافة إلى وجود آلاف من التتار في جيش بايزيد الأول، وكان قد أرسل لهم تيمورلنك -سرا- كتابا يخبرهم بأن ينضموا اليه ويتركوا السلطان بايزيد، وأخبرهم «نحن جنس واحد، وهؤلاء تركمان ندفعهم من بيننا ويكون لكم الروم عوضهم». فأجابوه أنهم عند اللقاء يكونون معه، وعندما التقى الجيشان انضم الجنود التتر لصفوف تيمور لنك، فكان مصير المعركة محددا سلفا، الهزيمة لأول مرة، ووقوع السلطان بالأسر.
نعم، وقع السلطان بايزيد الأول في الأسر عند تيمور لنك، واختلفت الروايات في كيفية معاملة تيمور لنك للسلطان المجاهد بايزيد الأول، فمنهم من قال إنه أهانه ووضعه في قفص وأخذ يطوف به البلاد، ومنهم من يقول إنه أكرمه، ولا ندري حقيقة كيف عُومل السلطان المجاهد، لكن مع ما ثبت في كتب التاريخ ما فعله تيمور لنك عند وفاة السلطان بايزيد الأول يدلنا على أن تيمور لنك أحسن معاملة السلطان بايزيد في أسره. بعد أسر السلطان استباح تيمور لنك أملاك الدولة العثمانية لجنوده فخربوها وهدموا أكثر منشآتها.
مات السلطان بايزيد بعد ثمانية شهور كمدا في أسره، لم يتحمل الذل والهوان والأسر، ولم لا! وهو السلطان المجاهد العظيم الذي تعوَّد على النصر، ولم يركن إلى الراحة يوما وظل في جهاد دام أكثر من 14 عاما، ووصلت جيوشه أماكن لم تُرفع فيها راية للمسلمين من قبل، ورفع الآذان في عهده في القسطنطينية التي كادت أن تفتح على يديه، لكن أبى الله إلا أن يخلد ذكر الصاعقة بايزيد الأول، ويأتي من نسله أبطال عظماء مثل (محمد الثاني) صاحب البِشارة وفاتح القسطنطينية، فهو محمد الفاتح بن مراد الثاني بن محمد جلبى بن السلطان بايزيد الأول.
مات السلطان بايزيد الأول عن عمر 44 عامًا، فرحم الله السلطان المجاهد..
المصادر:
- المرجع السابق ص 59
- المرجع السابق ص 59
- محمد سهل طقوش، تاريخ العثمانيين ص 60
- محمد سهل طقوش، تاريخ العثمانيين، ص 60
- راجع محمد فريد بك المحامي تاريخ الدولة العليا العثمانية ص 140 – راجع محمد سهل طقوش تاريخ العثمانيين ص 60
- على الصلابي، الدولة العثمانية عوامل النهوض والسقوط ص 81
- محمد سهل طقوش تاريخ العثمانيين، ص 60-راجع أيضا احداث هذه الموقعة روبير مانتران تاريخ الدولة العثمانية ص67 وما بعدها.
- على محمد الصلابي، الدولة العثمانية عوامل النهوض والسقوط ص 81
- محمد سهل طقوش، تاريخ العثمانيين، ص 140: 144
- على الصلابي، الدولة العثمانية عوامل النهوض والسقوط ص 81
- المرجع السابق
- محمد فريد بك المحامي، الدولة العليا العثمانية ص 144
- سالم الرشيدي، محمد الفاتح ص سالم الرشيدي، محمد الفاتح ص 33
- على الصلابي، الدولة العثمانية عوامل النهوض والسقوط 82
- راجع محمد سهل طقوش، تاريخ العثمانيين ص 63
- راجع شروط الصلح، محمد سهل طقوش، تاريخ العثمانيين ص 64