أزمة ديون اليونان.. كل ما تريد معرفته عنها
إن الهيمنة الاقتصادية اليوم هي أصل من أصول الهيمنة الأمريكية والنظام العالمي الجديد، وروح الهيمنة الاقتصادية تكمن في سياسات الرأسمالية التي تدعم السوق الحر بلا ضوابط ولا رقيب وتدفع نحو فتح التجارة الدولية على مصراعيها عبر اتفاقيات تزيل تمامًا الحواجز الجمركية؛ مما يعني إغراق السوق الدولي والمحلي بالمنتجات الغربية وبأسعار منخفضة لا تستطيع الدول الصغيرة منافستها وبالتالي تحتكر الدول الإمبريالية السوق وتصبح شعوب الدول الأخرى مجرد كائنات استهلاكية.
في الهيمنة الاقتصادية، تُدار الأعمال لأجل الأرباح الخاصة وليس لأجل المصالح العامة، الرأسمالية هي وهمُ أو لعبةُ يلعبها أناسٌ يفتقرون للعدل، ويريدون أن نلعب اللعبة وفق ما يخدم مصالحهم حتى لو كانت تدمرنا!
أزمة اليونان وإعلان الإفلاس
أعلن الأوروبيون عن بدأ استخدام اليورو كعملة موحدة في أوروبا عام 1999، وكانت السياسة المالية الموحدة التي بدأت مع استخدام هذه العملة (روح الحياة) بالنسبة للدول الصغيرة في منطقة اليورو، حيث سمحت لها هذه السياسة بالاقتراض بمعدل فائدة منخفض باعتبارها أعضاء في منطقة اليورو، وبالتالي فإنه في حالة عجزها عن السداد؛ فإن الاقتصاديات اﻷكبر ستضطر إلى التدخل والمساعدة في سداد الدين حفاظًا على اقتصاد أوروبا الموحد.
قبل هذه السياسة الموحدة كانت قدرة هذه الدول (الاقتصاديات الصغيرة) على الاقتراض محدودة بمعدل فائدة عالٍ لا تقدر على الوفاء به، وكانت اليونان إحدى هذه الدول واندفعت حكوماتها المتعاقبة في عمليات اقتراض لا تنتهي: قروض لسداد العجز في الموازنات، ثم قروض ثانية لسداد الديون اﻷولى، وثالثة لسداد الثانية، وفائدة تتراكم مع كل قرض حتى بلغ إجمالي الديون المستحقة على اليونان 323 مليار يورو!
وفي عام 2008 أوشك الاقتصـاد العالمي علي الانهيار بعد أزمة عاصفة طالت أسواق العالم، فيما يعرف باسم أزمة النقد، وهنا فقدت اليونان القدرة على السيطرة وانفلت زمام الأمور تمامًا، وفقدت حكومتها القدرة على اقتراض المزيد من اﻷموال لتغطية العجز في ميزانياتها أو لسداد ديونها وفوائدها المتراكمة المستحقة الدفع .
أزمة النقد
حدث انتعاش اقتصادي في أمريكا وارتفعت العقارات بسبب الانتعاش العقار، ارتفعت أسعار المنازل بشكل كبير عن سعر شراءها الأساسي بسبب هذا الانتعاش، يعني من كان يملك منزل قيمته 1 مليون أصبح قيمته 4 مليون، هذه الارتفاعات دفعت الطبقة المتوسطة والدخل المحدود لرهن منازلهم بمقابل مادي والتي ارتفعت قيمتها لدى البنوك وشركات الإقراض المالي في ظل تسهيلات وتجاوزات من قبل البنوك وفوائد عالية المخاطر.
بعد رهن المنزل بقيمة معينة يكون هناك فائدة تدفعها للبنك مقابل رهن منزلك وحصولك على المال، أثناء ذلك كان هناك البنك المركزي يقوم برفع الفائدة والعقارات ترتفع أيضًا، ويظل تدافع الناس والفوضى والتساهل والتحايل والعشوائية والمكاسب التي تحققها الشركات والبنوك، يتم تقييم المنزل ورفع الفائدة التي يجب دفعها الراهن (صاحب المنزل) للمرتهن (البنك) بسبب ارتفاع العقار ورفع الفائدة من قبل البنك المركزي، بمعنى كل ما ارتفعت الفائدة التي يقرها البنك المركزي وأسعار العقار يرتفع القسط الشهري على العميل.
فإذا كنت تدفع هذا الشهر 2000 الشهر القادم يمكنك أن تدفع 4000 وهكذا ناهيك عن الشروط القاسية في حالة التخلف عن السداد فقد تتضاعف الفائدة عدة مرات عليك بسبب تأخرك عن السداد، بدأت ترتفع العقارات بشكل أكبر والفوائد تزداد على المقترضين، حتى وصلنا لنقطة أصبح فيها العملاء لا يستطيعون السداد للبنوك فالفائدة أصبحت أكبر من قدرتهم، فتوقف الكثير عن السداد، وبدأت تظهر بوادر أزمة عقارية في أمريكا، وبدأت العقارات بالانخفاض، فالناس توقفوا عن السداد وكثرت المشاكل بين العملاء والبنوك.
وبعض العملاء بدؤوا بترك منازلهم لأنه أصبحت أغلى من ما هو موجود في السوق وتسارعت الأحداث، ناهيك إن هناك من توقف عن السداد ورفض الخروج من منزله، وبدأت تنخفض العقارات أكثر، فالبيت قيمته 100 ألف عليه فوائد ضعف قيمته أو ثلاث أضعاف، وتجمع أكثر من 2 مليون منزل عند البنوك وغيرها، وتراكمت ديون على الأفراد بأكثر من 100 مليار دولار، وبدأت البنوك بعرض منازل العملاء وتعرضها بدون طلب عليها وانهارت الأسعار بشكل أكبر، وانهارت معها البنوك وشركات تأمين لأن العملاء امتنعوا أو لم يعودوا قادرين عن السداد، وبدأت تنهار شركات التأمين والبنوك تباعًا وخسر المستثمرون والصناديق السيادية، وذهبت مليارات الدولارات، بدأت أمريكا هذه الأزمة التي يبدو أن آثـارها على باقي الدول لم تنتهي بعد.
تقول جوزيت شيران خبيرة التغذية العالمية: “اليوم ونتيجة للأزمة المالية العالمية هناك حوالي مليار شخص عبر العالم يستيقظون كل يوم ولا يدرون كيف يمكنهم الحصول على الغذاء. الصندوق يحاول مساعدة حوالي مئة مليون شخص فقط وهذا لا يكفي فالعالم بحاجة إلى مزيد من التضامن.”
وحسب إحصائيات الأمم المتحدة فإن سوء التغذية يتسبب في وفاة خمسة ملايين طفل في الدول النامية ممن تقل أعمارهم عن الخمس سنوات وهذه الأرقام قد تتضاعف بسبب الأزمة المالية العالمية!
هل كانت السياسة الموحدة هذه حلًا فعلًا؟!
لقد كانت “بُعبُعًا” اقتصاديًا، ولم يكن من الصعب رؤية ذلك، فالعديد من الاقتصاديين، بمن فيهم «ميلتون فريدمان» الحاصل على جائزة نوبل، حذروا من أنه لن يجدي نفعًا بالنسبة للبلدان ذات الاحتياجات الاقتصادية المختلفة، إن تبادل سياسة نقدية واحدة عوضًا عن توحيد سياستهم المالية، في كل لحظة سيكون النقد إما متوفرًا بشدة أو شحيحًا بشدة لدى بعض الأعضاء، في حين لا توجد هناك ضمانات لتحقيق التوازن.
وبعبارة أخرى، فإن اليورو كان بمثابة ورق النصب باسم السلام والازدهار، يحكي عمرو عادلي، الباحث بمعهد “كارنيجي”، أنه حين بدأت أزمة النقد في اجتياح أسواق العالم في 2008، انهارت الدول التي اعتمدت اقتصاداتها على الاندماج الكامل في منظومة أسواق المال العالمية على الفور، كآيسلندا مثلًا التي انهارت عملتها بعد إعلان بنوكها الكبرى الثلاثة إفلاسها في ظل اﻷزمة.
أسباب الأزمة المالية في اليونان
عوامل داخلية
التوسع في منح القروض والتسهيلات الائتمانية من قبل البنوك مما أدى لزيادة استهلاك القطاع الخاص فزاد الإنفاق بنسبة 87% بينما كان حجم الواردات 31%.
عوامل خارجية
الدخول في عضوية العملة الأوروبية، أزمة النقد عام 2008، ولما عصفت الأزمة بدول العالم، عانت اليونان كثيرًا لأن اقتصادها أصلًا لم يكن يسمح بأي مشكلة، ووافقت حكومتها على خطة التقشف مقابل أموال الإنقاذ من خلال ما يُعرف باسم الترويكا (وهي لجنة مكونة من البنك المركزي اﻷوروبي وصندوق النقد الدولي والمفوضية اﻷوروبية)، وخطة التقشف هذه تتضمن تقليص المعاشات، وخفض الحد الأدني من الأجور، والتخلص من قدر كبير من العاملين في الأجهزة الحكومية، مما يعني ارتفاع نسبة البطالة!
النتائج بالغة السوء لخطة التقشف
- وصلت نسبة البطالة بين الشباب في سن من 15 إلى 24 سنة إلى 62%.
- انخفاض بلغ 25% في إجمالي الناتج المحلي في محاولة لسداد ديون لا يبدو أنه يمكن الانتهاء منها أبدًا..!
هنا أصبح أمام اليونان طريقان، إما أن تتحمل إجراءات التقشف حتى تنتهي من سداد الديون!، وإما أن ترفض الشروط، والخيار الثاني هذا لعله كان يساهم في تحسين الأوضاع لو تم اتخاذه في بداية الأمـر.
في 25 يناير تمكن “سيريزا”، الحزب اليساري الراديكالي، من تحقيق اﻷغلبية في الانتخابات البرلمانية ببرنامج انتخابي يعد اليونانيين بالتخلص من خطة التقشف، وبتحالفه مع حزب “اليونانيين الأحرار” حزب يميني يرفض بدوره خطة التقشف، تمكنا معًا من تشكيل حكومة مناهضة لخطة التقشف.
وبعد مفاوضاتٍ بين الحكومة الجديدة والترويكا والشعب اليوناني ينتظر ما تسفر عنه الأمور، توصلت كل من الـ”ترويكا” والحكومة اليونانية لاتفاق يتم بموجبه تمديد خطة اﻹنقاذ لمدة أربعة أشهر إضافية، مقابل تعهد الحكومة بالالتزام بمعايير التقشف وخفض اﻹنفاق الذي تم الاتفاق عليها مع الحكومة السابقة.
وخلال شهر يونيو، لم تتوقف الاجتماعات والمفاوضات في العاصمة البلجيكية بروكسل حول المجموعة اﻷخيرة من إجراءات التقشف التي تقترحها الـ”ترويكا”، وهي اﻹجراءات التي صمم الطرف اليوناني على رفضها.
وفي مساء السادس والعشرين من يونيو، وقبل أربعة أيام من ميعاد سداد إحدى دفعات الديون المستحقة على اليونان لصندوق النقد الدولي، غادر رئيس الوزراء اليوناني العاصمة البلجيكية ليعلن فشل المفاوضات ويدعو لاجتماع طارئ لحكومته انتهى بإعلان إجراء الاستفتاء العام في 5 يوليو، حول ما إذا كان الشعب اليوناني يوافق على الحزمة الجديدة من إجراءات التقشف المطروحة أم لا، وهي الحزمة التي فات موعد تنفيذها بالفعل يوم الثلاثاء 30 يونيو، مع الموعد النهائي لسداد الدفعة المستحقة لصندوق النقد الدولي.
أعلن تسيبراس أن “الشعب اليوناني يخضع للإذلال” وأن مسئولي المؤسسات المالية “يخالفون القواعد اﻷوروبية”، وأنه يدعو الشعب للتصويت بـ لا على خطة التقشف، ملمحًا إلى أنه سيستقيل إذا ما وافق الشعب اليوناني على الخطة اﻷوروبية.
جاء اﻹعلان عن الاستفتاء كصاعقة للعديد من اﻷطراف. بالنسبة ﻷعضاء الوفد اﻷوروبي؛ فإن اﻹعلان عن استفتاء يغلق الباب أمام أي مفاوضات، بالنسبة لـ”ترويكا”؛ فإن مجرد حدوث الاستفتاء خسارة سياسية: إعطاء الشعب اليوناني فرصة ﻷن يرفض خطة التقشف في استفتاء عام مباشر سيقطع الطريق على أي مفاوضات قائمة لتمرير الخطة.
أيا ما يكون الأمر وتكون عواقبه، فإن الرأسمالية الأوروبية أثبتت فشلها وظهر هذا جليًا في أزمة الديون في اليونان ودول أخرى ستليها وأزمة الرهن العقاري الأمريكية السابقة، إنها لعبة في يد أطراف لا يمتلكون أدنى قدر من العدالة أو النزاهة.
ختامًا
مع تكرار الأزمات المالية نتيجة النظام الرأسمالي الغربي، أخبرك ببساطة أن ما قامت به دول العالم من خطط وإجراءات لمعالجة الأزمة لا يعدو عن كونه مجرد مسكنات لتخفيف الأزمة وإذا أرادوا علاج المشكلة فلابد من القضاء على أسبابها الحقيقية.
تلك الأسباب تجد أن الإسلام قد حرمها أصلًا، لأنه دينٌ متكامل يدير الحياة بأكملها، وأول هذه الأسباب القروض الربوية، تلك الفوائد (ربا) تجعل القسط يرتفع مع طول المدة وعند عدم السداد، فمن العجيب أن تكون أول خطوة يقومون بها هي خفض سعر الفائدة بدلًا من إلغائها، في النظام الإسلامي يقول الله تعالى: (وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا)، أيضًا أحد الأسباب الرئيسية ما يسمى البيع على المكشوف من البورصة: وهو أن يبيع شخصُ ما لم يمتلكه بعد! في النظام الإسلامي علمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: “لا تبع ما ليس عندك.”
على الهامـش: الواقع المصري ليس ببعيد عن الأزمة في اليونان
الشعب اليوناني كان رائعًا حين قرر أن يملك قراره بنفسه وإن كنا نشك أن يتركه النظام الرأسمالي وشأنه، وهنا سنربط الأمر بالواقع المصري قليلًا، أو ستضطرنا تصريحات سفهاء الإعلام المصري لذلك.
يقول عمرو أديب وهو مذيع في حقيقة الأمر نخجل من كونه يمثل بلد بحجم مصر!، يقول أن البلد ستدخل في مرحلة جوع أكثر مما هي فيه بسبب الدولار وأن الشعب المصري ليس كالشعب اليوناني -الذي قال لا في الاستفتاء لقبول شروط الدول الأوربية المقرضة الموغلة في التقشف وأضاف أن الشعب اليوناني عنده استعداد لدخول تحدي والشعب المصري لا!
وهنا سأكتفي بطرح رؤية المهندس إبراهيم حسن التي تقول: “هذا نوع لطيف من التعامل مع الحقائق عندما لا يمكن إخفائها أو تجاهلها بإعادة ضربها في الخلاط وتقديمها للجمهور، مثلًا؛ محاولة التعامل مع الفقر المدقع والغلاء المتوحش الذي يقضي على الطبقة المتوسطة تدريجيًا ويجعل أكل لحوم الحمير مادة للفكاهة بدلًا من أن تكون مادة للذعر بحيلة إعلامية نفسية تشعرك أنك في نعمة حاليًا لأن القادم أسوأ! وهي نفسها سياسة “الشيطان يعدكم الفقر”.
الأمر الآخر هو المقارنة العجيبة بين الشعبين اليوناني والمصري وأن اليوناني شعب جديد في التقشف فلديه استعداد لدخول تحدي لكن الشعب المصري قديم في التقشف والجوع فانهارت قواه واستسلم!