المبدأ العلماني: النشأة والتطور والمآلات
من المعروف أن العلمانية هي: فصل الدين عن الدولة، تارة يقولون: للحافظ على قدسية الدين من دنس السياسة! وتارة يقولون: للوقوف على مسافة واحدة من كل الأديان. وتارة يقولون: لأن الفكر الغيبي ليس له علاقة بحياتنا، ولا دخل له بالسياسة.
الجذور التاريخية للعلمانية
والعلمانية الحديثة نشأت في خضم الثورات الأوروبية، وعلى رأسها “الثورة الفرنسية”. إلا أن كثيرًا من الأمم الكافرة على مر التاريخ كانت تؤمن بالعلمانية، وقد سجل القرآن الكريم حادثة قوم شعيب -عليه السلام -في قوله تعالى: {قَالُواْ يَا شُعَيْبُ أَصَلاَتُكَ تَأْمُرُكَ أَن نَّتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَن نَّفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاء إِنَّكَ لَأَنتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ} [هود: 87] أي: ما علاقة دينك يا شعيب بأمورنا الاقتصادية، فهذه نتلقى فيه عما نشاء من الأهواء، ولا دخل للدين بها؟!
كما سجل القرآن الكريم أيضاً أحوال الماديين والطبعيين -الذين يؤمنون بالطبيعة وينسبون إليها صفات الخالق سبحانه -فحكى تعالى قولهم: {وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ وَمَا لَهُم بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ} [الجاثية: 24]
إلا أن العلمانية الحديثة لم تفصل الدين عن الدولة أو شؤون الحياة فحسب، بل إنها وظفت الدين لخدمة “العلمانية” ولكن بصورة معقدة نتيجة التطور الذي حصل في الديانة المسيحية.
العلمانية والمسيحية
إن الدين المسيحي الذي جاء به المسيح -عليه السلام-كان هو التوحيد الصافي الذي جاء به كل رسول من عند الله، وكان امتدادًا لدعوة موسى -عليه السلام -ومتممًا لشريعة موسى، ثم تعرضت المسيحية في القرن الأول والثاني من الميلاد إلى اضطهادٍ شديد، حتى كان القرن الثالث فحدث التحول الخطير والكبير فيها، حيث حوّلها قسطنطين إلى الوثنية واستخرج لهم من خلال المجامع المقدسة عقيدة فيها من المسيحية والوثنية للتوفيق بينهما! ومن ثم أصبحت هي الديانة الرسمية للإمبراطورية الرومانية.
السيادة من يد الكهنوت إلى العلماني
ثم. وبعد توحش الكنسية والإمبراطور، وبحث الشعوب عن مخرج لها مما هي فيه، تطورت المسيحية إلى “العلمانية” فهي الوجه الآخر للديانة النصرانية الصليبية، والتطور الطبيعي والحتمي للنصرانية بعد انحرافها في القرن الثالث. وسَهّل هذا الأمر تقسيم المجتمع المسيحي نفسه إلى: “كهنوت” يحمل الأسرار (رجال الدين)، و”علماني” هم أفراد الشعب، فانتقلت السيادة -بعد الثورات -من يد الكهنوت إلى العلماني!
العقل الأوربي يتكون من هذا الخليط المعقد: الوثنية الرومانية بكل وحشيتها، وعنصريتها، والديانة النصرانية -المسيحية -كمكون حضاري وتاريخي وثقافي، والإباحية المادية في كل شيء على سُنة الأجداد الرومان، وشعور السيادة والتفوق على الجنس البشري، واستباحة كل شيء في حكمه والسيطرة عليه، فخرج من هذا الخليط “العلمانية” فهي إذًا ليست مجرد فكرة نظرية، أو فلسفة مجردة.
ولنضرب لذلك مثالاً وهو: “محاولة تركيا الانضمام إلى الاتحاد الأوربي”.
لقد تعرض الاتحاد لهزة عنيفة بخروج دولة بحجم بريطانيا منه، كما تعرض لهزة سابقة نتيجة الانهيار الاقتصادي لبعض الدولة الضعيفة فيه كاليونان والبرتغال، والدفع بمئات المليارات لإنقاذهما من الإفلاس، والاتحاد في هذه الحالة في أحوج من يكون لانضمام دولة قوية مثل تركيا إليه فاقتصادها ترتيبه (17) عالمياً، ولكن بعد مفاوضات استمرت (11) سنة، تم التصويت لصالح الرفض.
رغم تفاخر تركيا بأنها دولة نظامها علماني! ولكن رفْض الاتحاد-فيما أرى كان من منطلق “ديني وهوياتي” فقد قالوا من قبل: أوروبا تعتبر نادياً مسيحياً! ورغم أنه من الناحية البرجماتية والسياسية والاقتصادية كان يجب قبول تركيا ضمن عضوية الاتحاد إلا كون شعبها مسلم، ودولة تعتبر تاريخياً هي التي كانت تحكم العالم الإسلامي إبان حكم الدولة العثمانية، فكان الرفض مسألة مؤكدة – إلا أن تكون هناك مكيدة تستلزم قبولها – فهنا لم ينفصل الدين والهوية المسيحية عن السياسة والحكم العلماني.
ولا يفوتنا أن نُنكر على النظام التركي سعيه ومسارعته في هؤلاء الصليبيين والاستجابة لدجلهم وشروطهم، ونُنكر عليه تهديده الاتحاد بفتح الحدود للمسلمين المستضعفين من أهل سوريا وغيرهم؛ ليجعلهم مجرد ورقة يهدد بها خصومه !! فالمسلمين كما قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم -:”الْمُسْلِمُونَ تتكافا دِمَاؤُهُمْ وَهُمْ يَدٌ عَلَى مَنْ سِوَاهُمْ يَسْعَى بِذِمَّتِهِمْ أَدْنَاهُمْ وَيُرَدُّ عَلَى أَقْصَاهُمْ” [سنن ابن ماجه/ 2683].
العلمانية الأوربية
ففيها: الدين ينفصل عن الحكم عندما يصطدم بأهواء الناس وشهواتهم، وهي حالة من “الكبْر والطغيان”، وفي العلمانية أيضاً: الدين لا ينفصل عن الحكم عندما يريد غير “الأوربي الأبيض” أن يدخل فيهم، وهي أيضاً حالة من “الكبْر والطغيان” تريد الاستعلاء على الناس، والشعور بالتفوق والهيمنة عليهم.
خدعة “اليمين واليسار” الحزبي
وقد ينخدع البعض بحكاية “اليمين واليسار” الحزبي. حيث تظهر الأحزاب اليمينية متطرفة متعصبة، والأحزاب اليسارية متسامحة معتدلة، وهذا شيء طبيعي موجود في كل البشر، إلا أن هذه الأحزاب تقف على قاعدة واحدة من الأفكار تجاه المسلمين وتجاه الشعوب المستضعفة، فقد وجدنا أنه لا فرق بين الأحزاب الأمريكية في حربهم على المسلمين. الجميع يستبيحهم، ويستبيح كل ضعيف، الفرق في مستوى الوقاحة والصلف والغرور، فاليمين أكثر حدة وصراحة ووقاحة، واليسار أكثر دبلوماسية ونعومة وخداع!
وصعود الأحزاب اليمينية في أمريكا وأوروبا لا بد أن يأخذ دورته التاريخية في حياة الشعوب التي تتقلب في العلمانية -معتدلة تارة ومتطرفة تارة أخرى -بعيداً عن صراط الله المستقيم، ولكن هذه الأحزاب اليمينية تُصعب على من يريد خداعنا من سفهاء المسلمين بحسنات العلمانية! وتُظهر الوجه الحقيقي لهؤلاء، فيحزن العلمانيون في بلادنا لصعود اليمين المتطرف لأنه سيتحدث عن الدين والهوية والاعتزاز بهما في صراحة، الأمر الذي يزعج من يظن أن العلمانية فكرة عالمية هي الحل !!.
فالعلمانية كاذبة في مبدأ فصل الدين عن الحكم بإطلاق: فالدين مُكون فطري أصيل في كل إنسان، ولكن العلمانية تريد إحدى أمرين.
- الأول: إما أن تكون هي البديل عن الدين، فتحل هي محله، وتكون هي الدين الجديد، فإن عجزت كان الأمر الثاني.
- وهو-أي الثاني-: توظيف هذا الدين ليكون خادماً للعلمانية ومُتابعاً لها في كل ما تشتهي وتريد. وكافة حُكام العلمانية في بلادنا وظفوا الدين لخدمة دجلهم وخداعهم للشعوب؛ فالعلمانية العربية: لا تنفصل عن الهيمنة والتبعية للمحتل الأجنبي، وتؤمن بشعائر الإسلام، وتكفر بشرائع الإسلام.
تحت مسمى التنوير: تصدير العلمانية كبديل
وفي وقت سقوط الوحدة السياسية للمسلمين، ومعها سقوط المرجعية السياسية والشرعية لهم، وتفسخ الأمة المسلمة تحت عوامل الضعف والتفكك الداخلية، والهجمات الصليبية الأخيرة تحت مسمى “الاستعمار، والتنوير، والتقدم” تم تصدير الفكر العلماني إلينا كبديل عن “المرجعية السياسية والشرعية” فكانت “الشيوعية العربية الاشتراكية” و”القومية العلمانية” و”القانون الوضعي” وكان هذا “المسخ الأجنبي” هو الذي تم تعميمه من خلال التعليم والثقافة والفن ونظم الحكم، وتم فيه توجيه ضربة للإسلام: كهوية وقومية جامعة للمسلمين، وكشريعة حاكمة، وكحضارة يجب أن تتميز وتنفرد عن غيرها، ولم يتبق من الإسلام إلا عقيدة مسجونة في زوايا المسجد !.
وكلما حاول المسلمون العودة بالإسلام إلى مكانه الطبيعي. فهو شرط نهضة المسلمين كما قال تعالى: {لَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ} [الأنبياء: 10] فالأمة المسلمة لم تكن شيئاً مذكوراً قبل هذا الكتاب، ولم تصبح شيئاً يملأ الدنيا كلها إلا بعد إتباعها لهذا الكتاب. عندما يحاول المسلمون العودة بهذا الدين، يقف السفهاء يقولون يجب الالتزام بالمبدأ العلماني بفصل الدين عن الدولة! رغم أن المبدأ العلماني الأوربي: لا يفصل الدين كهوية وثقافة مسيحية عن الدولة!
فمن أراد بحق نهضة هذه الأمة فلا يؤمن ببعض الكتاب، ويكفر ببعض! بل يؤمن بالكتاب كله؛ ويدور معه حيث دار، لا أن ينبذه وراء ظهره، ويتبع ما تتلوا شياطين العلمانية
مقال رائع ومفيد جدا أشكرك الشكر الجزيل على هذا المقال واسمح لي بان أجتزئ قسما منه في كتابي ( العلمانية وموبقاتها