مراجعة كتاب إنقاذ المسلمين في إقامة الدين

ثم أقول لهذا الكتاب: سِر في الأرض
فليس فيكَ نقلٌ غيرُ صحيح فأخافَه
وليس فيك مغالطةٌ فأخشاها
وليس فيك جُبنٌ فأخجلَ منه
وليس فيك تطاولٌ على أهل العلم فأُلامَ عليه
وليس فيك خروجٌ عن منهج السلف فأكون من المضلِّلين
سِر أيها الكتاب في أيّام المخاضاتِ، مخاضاتِ إقامة الدين
وتنقّل بين أبناء الأمة لعلَّ الله أن ينفعَ بك، والحمد لله رب العالمين.

بهذه الكلمات التي تحكي عِلماً ووعياً عميقاً، وهَمّاً على دين الله تبارك وتعالى وأمة الإسلام، اختتم مؤلّفُ كتاب “إنقاذ المسلمين في إقامة الدين” مقدّمة كتابه.

هذا الكتاب الذي اختصر مؤلفُه في اسمه كثيراً من المعاني العظيمة والتي نحتاج بدون مبالغة إلى مجامع علميَّة لتعلّق عليه وتفصِّله وتناقش ما ينبني عليه من مسائل ومفاهيم.

وإذا كانت الكلمات عرائسَ من الشموع لا حراك فيها، حتى إذا مات صاحبها من أجلها انتفضت حيَّةً وعاشت بين الأحياء -كما ذكر سيّد قطب رحمه الله في كتابه أفراح الروح – فمؤلف هذا الكتاب من الذين دفعوا ثمن كلماتهم أرواحَهم وبذلوا دمَهم رخيصاً في سبيل الدعوة إلى إقامة دين الله تبارك وتعالى.

لمحة موجزة عن حياة المؤلف

الشيخ عبد العزيز أحمد عيون

مؤلف الكتاب هو الأصولي الفقيه والقاضي الشيخ عبد العزيز أحمد عيون، ولد عام 1963م في ريف دمشق وتحديداً في منطقة دوما، وبدأ حياته بطلب العلم الشرعي في مدينته حيث أخذ الفقه والأصول واللغة والأدب والأخلاق عن كبار علمائها، وعلى رأسهم مفتي المدينة وكبير علماء الحنابلة في الشام الشيخ أحمد الشامي رحمهُ الله تعالى، والشيخ المقرئ فارس سريول رحمهُ الله تعالى، ثم تلقّى العلم عن كبار علماء دمشق، وأكمل دراسته في معاهدها الشرعية، ثم أكمل دراسته الجامعية في جامعة الأزهر وحاز منها الإجازة العالمية في علوم الشريعة، وكان في كل مراحل التحصيل العلمي مثالاً للنبوغ ومرجعاً لزملائه وأقرانه وخصوصاً في علوم اللغة والفقه الحنبلي وأصول الفقه، وقد جمع الله تعالى له مع سَعَة العلم والاطلاع دماثةَ الخُلق ولين المعشر فكان متواضعاً بشوشاً، ومع ذلك فإنه رحمه الله كان ذا حزمٍ ورأي، فلم يمنعه حبُّه للعلم والعلماء من أن يقول قَولة الحق التي يخالف فيها بعضَهم دون أن يخاف أو يخشى في الله لومة لائم، ومن ذلك كتابُه المطبوع “البنوك الإسلامية وبيع المرابحة للآمر بالشراء” حيث أصَّل فيه أهم عَقدٍ من العقود المعتمَدة في تعاملات البنوك الإسلامية، وبيَّن بالتأصيل والدليل عدم صحة كثير من الصور التي تتعامل بها البنوك، وضمَّن الكتابَ ردّاً مؤصّلاً على كتاب الدكتور يوسف القرضاوي في ذات الموضوع.

وقد همَّ الشيخ رحمه الله تعالى بأن يكمل مسيرته الأكاديمية مراراً فبدأ دراسة الماجستير في الفقه وأصوله في الأزهر، وبدأ أيضاً بدراسة الماجستير في جامعة أم درمان – فرع دمشق، إلا أن ظروف البلاد وما عصف بها إبّان الثورة السورية من أحداث حالَ دون مُبتغاه.

ومع بداية الثورة السورية انضم للثورة مع عدد من الشيوخ وطلاب العلم وأسَّس معهم الهيئة الشرعية في مدينة دوما لتكون مرجعاً للناس في شؤونهم، وكان من إسهامه رحمه الله تعالى في خدمة دينه وأهله أنه كان يُسارع إلى دراسة النوازل وتأصيل أحكامها وتفصيل حيثياتها، فكتب في أحكام المظاهرات ومتعلّقاتِها رسالةً أصولية سمّاها “المظاهرات السلمية من الواجبات الشرعية” ولما أن اتسعت رقعةُ المناطق التي يسيطر عليها الثوار المعارضون للنظام في سوريا حيث شملت كامل الغوطة الشرقية من الريف الشرقي لمدينة دمشق لم يجد الناسُ مثلَه رحمه الله في علمه وفهمه ووقوفه عند الحق فاختاروه بالإجماع لمنصب القاضي الأول للقضاء والفصل بين المتخاصمين، وإقامة العدل ورفع الظلم، فانبرى رحمه الله تعالى لهذه المهمة مستعيناً بالله تعالى.

ولما حصل الخلاف بين بعض الفصائل العسكرية المحسوبة على الثورة وصدر عن بعضهم التراشق بتُهَم الفساد وتهمة الخارجيّة فيما بينهم كتب رحمه الله تعالى رسالة قيّمة سماها “الخوارج في الحاضر والماضي” أصَّل فيها هذا المصطلح وبيّن الضوابط الشرعية لإطلاق وصف “الخوارج” على جماعة من الجماعات، وبيَّن أن أكثر من يطلقها لا يراعي الضوابط الشرعية المعتبرة، فيخالف الشرع الإسلامي بإلقاء التُّهم التي لا تثبت شرعاً، وبيَّن فيه كيفية التعامل مع مَن صدق فيه وصف الخوارج بالضوابط المعتبرة في الشريعة.

وبعد عدة سنوات من استلامه القضاء الشرعي وجد الشيخ رحمه الله أن عدداً من الفصائل لم تعد تلتزم بالأحكام القضائية الصادرة عن القضاء، فحاول جاهداً إلزامها بذلك، لكن لما وصل الأمر لضعف القضاء، وعدم التزام عدد من الفصائل بقرارات القضاء، اعتزل القضاء وآثر الجلوس أمام طلابه ومحبرته عن الجلوس على كرسي قضاء صُوريٍّ لا حقيقي، فألَّف هذا الكتاب النفيس الذي عنه تدور سطورنا التالية، ولكن هذا الكتاب لم يكن كتاباً عادياً، لقد وضع فيه الشيخ رحمه الله تعالى النقاطَ على الحروف، وعرّى فيه المتخاذلين عن نصرة دين الله والمتثاقلين عن السعي الجادّ لإقامة وشرعه، الأمرُ الذي لم يَرُق لبعض مريضي النفوس مما أحرجهم وألجأ أيديهم الآثمة لاغتياله عام 2015 م.

رحم الله تبارك وتعالى الشيخ أبا أحمد عيون وجعل روحه في غُرَف الجنة يتنعَّم فيها، وجعل كتاباته المباركة حُجَّة له يوم القيامة، وكتب لها القَبول ولمن قرأها النفع والفائدة، اللهم آمين.

إنقاذ المسلمين في إقامة الدين

تناول المؤلف رحمه الله تعالى في هذا الكتاب مواضيع حساسة وفي غاية الأهميَّة، وناقش همَّ المسلمين الذي يشغَلُ بال الكثير من أفرادهم وجماعاتهم، وهو الخروج من الأزمة التي مُنِيَ بها المسلمون منذ سقوط آخر دولة للمسلمين وذهاب ريحها وريحهم إلى يومنا هذا.

وكان بإمكانه أن يتناول هذه الأفكار مجرَّدةً عن الوقائع والأحداث ولكنه أراد أن يعطي المثال الواقعي التطبيقي لكل كلمة يقولها، وكأنه من خلال الأسلوب الذي اتبعه في هذا الكتاب أراد لمن يقرأ كلماته أن يشعر بأن هذا الكتاب ليس مجرّد كلمات أو تنظيرات بعيدة عن الواقع، وإنما هي الأحداث والتاريخ المعاصر قد أعطاها مؤلف الكتاب قلمَه وأوراقَه فنطقت وقالت ما يجول في خاطرها.

لقد تتبَّع الشيخ رحمه الله في فترة كتابته لهذا الكتاب أهم المقالات التي تحدّثت حول موضوع “إقامة الدين” من أهم الجهات العلميَّة أو الحركيّة المختصَّة بهذا الشأن، راجع ما كتبوه من بيانات أو مؤلَّفات فناقشها وردَّ على بعض ما جاء فيها

بطريقة الأصوليين الذين يناقشون الكلام من كل جوانبه اللغوية والشرعية والمنطقية، أسهب عندما احتاج منه المقام إلى الإسهاب واقتضب عندما وجد الاختصار كافياً، كرّر ما شعر أنه من المفيد إعادة التنويه إليه، وكلُّ ذلك بعبارة دقيقة جزلة وبأسلوب علمي متين، بل وإن المرء يتعجّب وهو يقف على غاية الأدب والاحترام في الانتقاد، فهو رحمه الله يلتمس العذر لمخالِفِه ويقدّم حُسنَ الظن حتى في الخطأ الواضح والمغالطة التي ربما يظن من قرأها أنها متعمَّدة مقصودة!

ربما يظن القارئ لوهلة أن الكتاب إنما هو مجرد ردود على أطروحات، ولكنه لو تأمل قليلاً في فهرس الكتاب لعلم تمام العلم أن المؤلف رحمه الله قد رتَّب أبوابه بعناية فائقة، وتخيَّرها على بعضها في الترتيب والتقديم بدقة متناهية.

تشخيص مرض الأمة

ففي المبحث التمهيدي شخّص المؤلف رحمه الله المرضَ إن صحَّ التعبير، ووصّف حال الأمة في عصرنا الحاضر، فأحكام الشريعة قد نُحّيت في بلاد المسلمين، ناهيك عن الضعف والهوان والتشتُّت الذي يعيشه المسلمون، منبّهاً إلى أن الحل للخروج من هذا الحال الذي نحن فيه سهل يسير وفي متناول الأيدي ولكننا من تخلّف عن الأخذ به، ويعلّق في هذا الموضع على قوله تبارك وتعالى: {إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} (محمد 7) وأنَّ نصر الله متحققٌ لمن نصروه لا محالة، وكيف أن نصر الله يكون بنصر دينه وإقامة شريعته التي ارتضاها لعباده المؤمنين.

ثم يعلّق على المبرِّرات التي من خلالها تخلّف كثير من الناس عن السعي الجادّ لتحكيم الشريعة ثم ينظّم هذه المبررات ويحددها في أربعة بدع -كما سماها- أولها دعواهم بأن الحدود لا تقام في هذه الظروف التي نعيشها، وثانيها أن الحدود لا تقام لأن الغرب وأمريكا سيغضبون علينا، وثالثها التدرّج في تطبيق الشريعة، وآخرها أنَّ الغاية تبرر الوسيلة.

ثم لجأ المؤلف في المباحث التي جاءت بعد التمهيد إلى تفنيد هذه الحُجج والمبرِّرات واحدة واحدة، فيأتي إلى بيانٍ أو كتابٍ يعززُ مبرراً من هذه المبررات فيفنّده سطراً سطراً ويبطل ما فيه من الأغاليط المنطقية ويردُّ على حَبْكته بالآيات والأحاديث النبوية، ولا يُغفِل جانب اللغة العربية في ردوده التي كانت بحق ردوداً مفحِمة وكافية وافية.

شبه في تحكيم الشريعة

في المبحث الأول والثاني تناول المؤلف بياناً ورسالةً قُرِّرَ فيهما أن الحدود والأحكام الشرعية لا تقام في ظلّ غياب خليفةٍ للمسلمين أو ما يسميه الفقهاء بالإمامة العظمى، وأن المخوَّل بإقامة الأحكام الشرعية فقط هو خليفة المسلمين حال وجوده، وإلا ففي غيابه -بزعمهم- سقوطٌ لوجوب هذه الأحكام عن المسلمين حتى يصيرَ الحال إلى خليفةٍ بعدَه، فأتى المؤلّف على أقوال الفقهاء من المذاهب الفقهية الأربعة المعتبرة وبيَّن مخالفةَ ما ذهب إليه الكلام في البيان والرسالة لكلام الجمهور من الفقهاء، وأن الذي عليه أئمة الفقه الإسلامي خلاف الذي تقرر في البيان والرسالة المذكورَين.

النجاشي

رسم يعبر عن موقف المهاجرين أمام النجاشي.

أما في المبحث الثالث فقد عرض المؤلف لشُبهتَين متعلقتَين بذات الموضوع وفصّل فيهما تفصيلاً وافياً، فأما الأولى زعمهم بأن النجاشي رضي الله عنه كان ملكاً مسلماً ومع ذلك لم يقم الحدود الشرعية وأما الثانية أنه صلى الله عليه وسلم لم يقم الحدود بمكة، وهذا المبحث قصير مقتضَب لأن الرد على هاتين الشبهتين سهل يسير.

رضا الله أم رضا الكافرين؟

في هذا المبحث ناقش المؤلف رحمه الله ما يتعذَّر ويتحجج به البعض لترك الشريعة وأحكامها من أن أمريكا والغرب الأوروبي سيغضبون علينا إن نحن أقمنا دين الله وحكّمنا الشريعة، وقد تنوَّعت الأفكار التي تناولتها فصول هذا المبحث حتى شملت كلَّ جوانبه وأبعادَه، فناقش في أول فصل الأسباب التي يتخيَّلُها من يطرح هذه المغالطة، ثم بيّن في الفصل الثاني أن رضا الله تعالى ورضا الكافرين ضدّان لا يجتمعان، وإن كان شرع الله يغضب أمريكا فإن ترك الشريعة يغضب الله تبارك وتعالى إذاً لا بدّ من أحد الغضَبَين كما في الفصل الثالث، وهكذا تتنوع أطروحات الفصول في هذا المبحث حتى تُلِمَّ بكل جوانب هذه المغالطة وتشبعَها بحثاً.

شبهة التدرج في إقامة الدين

أما في المبحث الخامس فقد ناقش المؤلف بطريقة علميّة ناقدة وبأدلة لا تحتمل الأخذ والرد مبدأ القائلين بالتدرج في إقامة الدين وتحكيم الشريعة، ناقش الفكرة من جانب انتفاء حصولها في سيرته صلى الله عليه وسلم، واستدلّ بفهم الصحابة رضي الله تعالى عنهم على بطلان هذه المغالطة، وبيّن أن الأخذ بها فيه قضاء على الشريعة كلها، إذ لو أن كلّ من ترأس أمر المسلمين قال نتدرّج بالأحكام مراعاةً لمصلحةِ كذا أو دفعاً لمفسدة كذا ثم يموت، فيأتي الذي بعدَه فيقول مثل قوله، فمتى يُقامُ الدين ومتى تُحكَّم الشريعة؟

كما بيّن أنه ليس من التدرّج تأخير الفعل إلى وقت الاستطاعة على فعله، ذاك أنه لم يكن واجباً قبل القدرة عليه، وأتى على مجموعة من النصوص التي قد يَفهَم منها البعضُ معنى التدرّج في إقامة الدين ففنّدها ووضح المُشكِل منها، وختم المبحث بأنه مهما تدرّج المسلمون في تطبيق أحكام دينهم ومهما أجّلوا وسوّفوا فإنه من المستحيل أن يرضى الغرب أبداً.

المكيافيليَّة

نيكولو دي برناردو دي ماكيافيلّي، كان مفكرًا وفيلسوفًا سياسيًا إيطاليًّا إبان عصر النهضة. أصبح مكيافيلي الشخصية الرئيسية والمؤسس للتنظير السياسي الواقعي.

وفي المبحث السادس تناول المؤلف رحمه الله المنطق المكيافيليَّ القائل بأن الغاية تبرر الوسيلة، بيّن بطلان هذا المعنى وتضادَّه مع مبادئ الإسلام، أوضح أن الغاية الشريفة لا تُنال إلا بالوسيلة المشروعة النظيفة وأنّ ما عند الله تعالى من الرضوان والجزاء لا يُوصَل إليه إلا بالوسائل التي شرعها الله تبارك وتعالى وارتضاها، وهكذا انسابت فصول هذا المبحث تؤصّل وتفصّل هذا المعنى بكل جوانبه المختلفة.

تكفُّلُ الله بنصر المؤمنين

ثم ختم المؤلف رحمه الله كتابه الماتع المفيد بمبحث أخير، جعله الهدوءَ بعد الحَيرة والملاذَ بعد الشتات، فَعَنْوَنه بقوله “تكفُّلُ الله بنصر المؤمنين” وكأنه رحمه الله بعد هذه الموجة الهادرة من الردود على المغالطات والأباطيل التي يريد منها أصحابها -قصداً أو من دون قصد- الهروبَ من المعركة، المعركة التي أرادها الله تعالى، وخلقنا لخوض غمارها، المعركة التي لن ينطفئ لهيبُها بين أهل الحق وأهل الباطل إلى قيام الساعة، كأنه يريد أن يقول في مبحثه الأخير: لا تخف يا أخي، بل اعمل بالذي أمرك الله به، واسعَ لما انتدبك إليه، فإنك إن أخلصتَ نيَّتك لوجهه وعملت بما شرعه لك وسلكت الطريق التي ارتضاها لك فإنه جلّ وعلا قد تكفّل بحفظك وتكفّل بنصرك وتكفّل بعونك، قال الله تبارك وتعالى: {وكان حقاً علينا نصرُ المؤمنين} (الروم 47)

رحم الله الشيخ القاضي، والكاتب الملهَم الغيور أبا أحمد عبد العزيز عيون وأسكنه دار كرامته، وجعل هذه الكلمات التي كتبها نصرةً للشريعة الغرّاء -كما نحسبُه- حُجَّة له يوم القيامة، اللهم آمين.

لتحميل نسخة الكترونية من الكتاب.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى