النسوية المتأسلمة.. حصان طروادة، مراجعة كتاب: (النسوية الإسلامية بين الانسلاخ والتلفيق)
النسوية الإسلامية.. غير إسلامية، لأنها ليست تيارا للدفاع عن الحقوق الشرعية المحكمة، وإنما هي تيار هدْمي يتنكر للتراث الفقهي الثري والمحرر علميا، للوصول لحقوق غير شرعية وتغيير بنية الأسرة، متابعةً للرؤى الحقوقية والقيمية الغربية
ورد في القرآن الكريم في سورة النساء قول الله تعالى: {يَـٰٓأَيُّهَا ٱلنَّاسُ ٱتَّقُوا۟ رَبَّكُمُ ٱلَّذِى خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍۢ وَٰحِدَةٍۢ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًۭا كَثِيرًۭا وَنِسَآءًۭ ۚ وَٱتَّقُوا۟ ٱللَّهَ ٱلَّذِى تَسَآءَلُونَ بِهِۦ وَٱلْأَرْحَامَ ۚ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1].
وفي ذلك دليل بين على أن المرأة خلقت من كنف الرجل لتحتمي به، وتكون له سكنا لا أن تكون مساوية أو ندا له، وجاءت شريعة خاتم الأنبياء صلى الله عليه وسلم، مؤكدة على ذلك من خلال النصوص الشرعية الواردة في كل من الكتاب والسنة، التي حفظت للمرأة المسلمة وغير المسلمة حقوقها في كافة جوانب الحياة.
وعلى الرغم من امتداد هذا النظام السوي دون اعتراض لفترات طويلة من الوقت في العالم العربي والإسلامي بشكل خاص، إلا أن آثار الحضارة الغربية والدعوة للندية مع الرجل تحت مسمى المساواة قد طالت بلا شك بعض الركائز الأساسية في عالمنا العربي في الوقت الحاضر، والذي يخالف عقيدة الشرع نصا وتفصيلا في مختلف الجوانب، وإن حاول الداعون إلى هذا الفكر إلباسه ثوب الفضيلة والشرع من خلال العديد من المسميات الدينية والتي يعتبر من أبرزها في وقتنا الحاضر «النسوية الإسلامية».
وتحت المسمى السابق يأتي هذا الكتاب للدكتور سامي العامري الصادر عن مركز رواسخ في 176 صفحة، ليتناول هذا العنوان الجذاب الذي يوحي بالانتصار للمرأة وحقوقها في عصر الظلم، مع إعلان الانتماء إلى الدين، بشيء من التفصيل ليستطيع الناظر بعين الإنصاف -على حد تعبير الكاتب- إدراك أن حقيقة هذا التيار هي محاولة لاختطاف الإسلام من مدارس أجنبية عنه، مناوئة لقطعياته، حيث تعبر النسوية عن الانحياز الجندري في الرؤية والمقولة، والإسلام هو مجرد عنوان للتسويق.
عن المؤلف والكتاب
مؤلف الكتاب هو الدكتور سامي عامري، من مواليد تونس عام 1975م، درس في كليّة الحقوق قبل أن يلتحق بدراسة الشريعة، ويحصل على دكتوراه في مقارنة الأديان، ويعمل في الوقت الحاضر أستاذا للعقيدة والفرق والأديان في إحدى الجامعات الإسلاميّة عن بعد، وهو متخصص في دراسات العهد الجديد والاستشراق التنصيري وله في ذلك عدد كبير من الكتب والمؤلفات.
يستهل الكاتب مقدمة كتابه بذكر واقعة روتها له إحدى الداعيات خلال ندوة نسوية في جامعتها، والتي كان ختامها قيام واحدة من طالبات الجامعة بالهتاف قائلة: أبي هو عدوي! أخي هو عدوي! زوجي هو عدوي! وما أخذ بالقوة لا يسترد إلا بالقوة! ونتج عن قولها هذا تشجيع كبير وتصفيق حار.
وبناء على هذه الواقعة يطرح الكاتب تساؤلا حول مَن الصادق في التعبير عن النسوية، هذه الفتاة الغاضبة الساخطة التي تدعو إلى حرب بين أفراد الأسرة الواحدة؟ أم صاحبات الكلام المعسول والشعارات البراقة من النسويات الرصينات؟
قد تكمن الإجابة عند العديد من القراء بالقول بأن عداوة الرجل أمر تتفرد به النسوية الراديكالية والليبرالية، أما النسوية الإسلامية فهي تنحاز إلى حقوق المرأة المهدورة، وانتماؤها إلى الإسلام يجعل هويتها إسلامية، والحقيقة أن هذا الرد ذكي إلى حد كبير، حيث انحاز إلى الحق كله وترك الباطل كله، ولكن ذلك ظاهرُه فقط.
حيث إن الرد السابق قائم على تبسيط ما هو معقد، وتجاوز ما هو مشكل، فهذه النسوية لا تطالب بحقوق المرأة التي هي دعوى الجميع، ولكنها تسعى في أصلها إلى هدم مرجعية هذه الحقوق من حيث موافقتها لنصوص الوحي والرؤية الإسلامية للإنسان واستخلافه في الأرض، ورؤيته للمرأة ومكانتها في المجتمع.
ومما سبق يرى الكاتب أن السؤال الحقيقي الذي يجب أن يطرح هو: هل (النسوية الإسلامية) تمثل الحل الشرعي لمشاكل المرأة في العالم الإسلامي؟ وذلك لأن الأمة في الوقت الحاضر لم تبلغ الصورة التي أرادتها لها الشريعة من خلال الرؤية القرآنية للإنسان في المجتمع الذي تشكل المرأة جزءا منه.
ويسعى الكاتب من خلال فصول كتابه الثلاثة إلى إطلاق عنان النسوية، لينطِق ألسنة مُنتسِباتِها بحقيقة ما يؤمنَّ به، وذلك من خلال نقل كلام داعمات هذا التيار بالحروف والفصوص دون إجمال مخلٍّ أو تشويه مضل، مع التأكيد على أن النسوية ليست مرادفا لمصطلح النساء، لأن النسوية هي رؤية وجودية وقيمية، أما النساء فهن من لحمٍ ودم وليس هناك تلازم كلي بين الاصطلاح الأيديولوجي وأصله.
النسوية الإسلامية بين الواقع والإسلام
قسم الكاتب فصل الكتاب الأول إلى مبحثين أساسيين يتناول كل منهما ثلاثة مطالب، تسعى جميعها إلى توضيح الكيفية التي تم من خلالها اتصال مصطلح النسوية مع مصطلح الإسلام، من حيث النشأة التاريخية، والفروق الواضحة في مذهب هذا الفصيل مع كل من العلمانية والإسلام، والطريق الذي يمكن من خلاله إيجاد بديل شرعي لهذا الفكر الضال.
يُطلق مصطلح النسوية الإسلامية على تيار نشأ في العقود الأخيرة يجمع بين (النسوية) و(الإسلام) بشكل غامض، والباحث في هذا المصطلح يواجه مشكلة كبيرة تتمثل في عدم وجود تعريف قياسي لهذا التيار، وهو الأمر الذي ينطبق على مصطلح النسوية في حد ذاته.
وقد عبرت إحدى الكاتبات النسويات عن هذه المعضلة بقولها: «يعاب على النسويات الإسلاميات أنهن لم يتمكنَّ من وضع تعريف وشرح دقيق لمفهوم النسوية الإسلامية، بالإضافة إلى عدم وجود أنموذج واحد للنسوية الإسلامية في كل الدول العربية والإسلامية، فهي تتراوح بين الاعتدال والمزج بين الأنموذجين الغربي والعربي الإسلامي، وبين رفض الغربي ومحاولة إيجاد أنموذج إسلامي صرف».
ومن الأمور التي توقع الخلاف في تعريف النسوية الإسلامية أنَّ عامة التعريفات ذات طابع تسويقي وليست تعريفات علمية جامعة مانعة، مثل التعريف الشهير الذي أوردته أستاذة الدراسات النسوية والتاريخ في كلية أوبرين (مارجوت بدران) الذي يقول إن ما يقدمه هذا التيار هو «خطاب وممارسة نسوية صُنعا في نموذج إسلامي، تسعى الحركة الإسلامية التي تستمد فهمها وسلطانها من القرآن إلى بلوغ مطلب الحقوق والعدالة للنساء والرجال في مجموع أمرهم»، ويتبع الكاتب ما سبق بيانه بمجموعة من التعريفات الشائعة لهذا التيار مع بيان الأسس التي تقوم عليها النسوية الإسلامية.
النسوية الإسلامية والإخلال بالشرع
يوضح الكاتب بعد ذلك أن النسوية الإسلامية في الوقت الحاضر تقوم بالإخلال بمجموعة كبيرة وأساسية في الشرع، تبدأ من القرآن الكريم الذي عمدت النسوية إلى وضع مجموعة من القواعد من أجل قراءته، كان من أبرزها:
- إعادة تأويل القرآن ليطابق المزاج الليبرالي غير الراديكالي أو المزاج اليساري.
- تجاوز اللفظ القرآني وسياقاته النصية إلى التاريخانية والمقاصدية كليًّا أو جزئيًّا.
- الاعتماد على آليات الفيلولوجيا (علم فقه اللغة) لإدراك المعنى أو صناعته من زاوية أنثوية تتحسس من إدانة التراث التفسيري السابق المتعلق بالمرأة.
يتبع ذلك الحديث النبوي، حيث تعرض إلى هجمة كبيرة من تيار النسوية الإسلامية، باعتبار أن عامة الإشكالات النصية مادتها حديثية، خاصة أن النص القرآني تغلب عليه المبادئ والأصول والقواعد، في حين يغلب التفصيل على الأحاديث النبوية، ويعتبر كتاب (الحريم السياسي) للنسوية (فاطمة المرنيسي)، وكتاب (The Traces Of Misogynist Discourse In The Islamic Tradition) لأحد الباحثات التركيات، أهم ما تم تأليفه في الطعن في المرجعية الحديثية في الأدبيات النسوية.
يلي ذلك موقف النسوية الإسلامية من الصحابة، وإن كانت النسويات لا يذكرن ذلك بوضوح خشية صدمة القارئ، على الرغم من أن حقيقة الأمر يمكن استنباطها من موقفهن من القرآن الكريم والحديث النبوي وتأصيل الفقه وفروعه، وقد عمد الكاتب إلى توضيح هذا الفكر في العديد من النقاط، بالإضافة إلى توضيح موقف هذا الفكر من الفقه وأصوله، وهو ما جعل العديد من الباحثين الشرعيين يطلقون على هذا التيار لفظ «النسوية المتأسلمة» لعدم إمكانية الجمع بين نقيضين هما: الخضوع للنص الشرعي، وتجاوز هذا النص من أجل اتباع عقيدة أجنبية عن الوحي.
النشأة التاريخية للنسوية الإسلامية
في المطلب الثاني لهذا الفصل يوضح الكاتب النشأة التاريخية للنسوية الإسلامية التي بدأت في القرن التاسع عشر، كبذرة بادئة، ولكن معظم الباحثين في هذا المجال يرجعون التوقيت الحقيقي لظهورها إلى العقد التاسع من القرن العشرين الميلادي، وذلك في دولٍ مثل إيران وأوروبا وأمريكا، تبعه ظهور هذا الفكر في العالم العربي، وبرزت في الدعوة إلى هذا الفكر العديد من الكاتبات من أبرزهن (أسماء مرابط) صاحبة كتاب: (عائشة أو الإسلام المؤنث) وكتاب: (القرآن والنساء: قراءة للتحرر)، وغيرها من الكتب التي ترجم بعضها إلى العديد من اللغات مثل الإيطالية والهولندية والإسبانية.
وقد قام هذا التيار حديث النشأة بعدد كبير من الجهود من أجل نشر الفكر الخاص به مثل تأليف الكتب، وترجمة الأجنبي منها، وإقامة الندوات والفعاليات العامة والخاصة، والتي من أبرزها مؤتمر حول النسوية المسلمة في برشلونة الذي أقيم في أكتوبر عام 2005م بدعم من منظمة اليونيسكو، كما تم إنشاء الاتحاد النسائي العالمي في العام 1416هـ – 1996م وتسجيله في الأمم المتحدة ليضم 65 دولة حول العالم.
مسوغات نشأة النسوية الإسلامية
أما المطلب الأخير للمبحث الأول فهو يتناول المسوغات المحلية التي أدت إلى نشأة هذا التيار، والتي قسمها الكاتب إلى الرؤية العلمانية، والرؤية النسوية الإسلامية، وقد أوضح الكاتب العوامل المختلفة التي أدت إلى ظهور كل من الرؤيتين بشكل تفصيلي.
مذهبا النسوية الإسلامية
المبحث الثاني في الفصل الأول، يناقش في مطلبه الأول انقسام النسوية العلمانية في العالم من النسوية الإسلامية على مذهبين، يرى الأول أن بروز هذه الفكرة هو إثراء للفكر النسوي، ويرى المذهب الثاني رفضها باعتبارها رؤيةً هشَّةَ المقدمات، مفككة الجوهر، وخطرة في مآلاتها، وقد وجهت النسوية العلمانية -المعارضةُ للنسوية الإسلامية- مجموعة من الانتقادات شديدة اللهجة، أوضحها الكاتب بالشرح والتفصيل تمثلت في النقاط التالية:
- إشكالية الإطار الاجتهادي.
- ظاهرة التلفيق.
- إهدار المشروع النسوي.
- إنكار قطعيات الإسلام ومحاولة تسييله.
- عدمية «القراءة الممكنة».
- الإسلام والإقصاء.
- إنكار حقيقة العلمانية.
شرعية وجود نسوية إسلامية
بينما يتناول المطلب الثاني شرعية وجود نسوية إسلامية من زاوية إسلامية من خلال القيام بطرح مجموعة من الأسئلة من أبرزها:
- هل «النسوية الإسلامية» نتاج رغبة عاقلة لاستعادة الصورة الأولى للإسلام؟ أم هي نتيجة ضغط الواقع على عقل النسوية المسلمة؟
- هل النسوية فكرة محايدة تقبل الدخول تحت لافتة الرؤية الإسلامية للكون والإنسان والحياة؟
- هل النص القرآني والحديثي غامض لدرجة إفلات معناه من أذهان علماء الإسلام على مدى أربعة عشر قرنًا قبل الفتح العلمي النسوي المتأخر جدا؟
- هل النسوية تأخد في الاعتبار البعد الأخروي للشرائع؟
ويوضح الكاتب أن إجابة هذه الأسئلة وما شابهها تكمن في مجموعة من العناصر أورد بيانها بالشرح والتحليل وهي:
- سلطان الثقافة الغالبة.
- إشكالية المرجعية العليا.
- الطعن في البيان القرآني.
- وهْم الحياد النسوي.
- الانحراف عن الغاية من الوجود.
- الامتحان بالتشريع.
- استشكال ماهية الأنثى.
- طبيعة العلاقات الأسرية.
- النظرة إلى القوامة.
- النظرة إلى تربية الأبناء.
المرجعية الحقيقية
وفي المطلب الأخير لهذا الفصل يوضح الكاتب أن الخلاف بين الإسلام والتيارات النسوية كلها يعود في أصله إلى المرجعية الحقيقية النهائية، فالنسوية في الإسلام تخالف الإسلام صراحة في المرجعية النهائية، ويؤكد الكاتب أنه لا يستقيم القول بشرعية وجود تيار نسوي، لأن النسوية الإسلامية ليست تيارا يدعو إلى المحافظة على الحقوق الشرعية للمرأة، وإنما هو تيار يدعو إلى تغريب المرأة المسلمة، بصناعة منظومة حقوق ضمن رؤية ليبرالية، رأسمالية، فردانية، كتلك التي تحكم الغرب، مع استثناءات قليلة لا تكاد تتجاوز رفض الشذوذ الجنسي، والإباحية الفاحشة عند فريق من هذا التيار.
ويوضح الكاتب أنه في حال الرغبة في إيجاد البديل الشرعي للنسوية الإسلامية ينبغي البحث في مجموعة من الأمور التي جاء الجزء التالي موضحا لبيانها، ويعتبر من أهمها النقاط التالية:
- مظلومية المرأة المسلمة اليوم.
- المظالم وعلاقاتها بالشريعة.
- المرأة الناجحة… المرأة العاملة.
- الذكورية مسوِّغًا للنسوية.
- الطريق إلى الدفاع عن الحقوق الشرعية للمرأة.
النسوية الانسلاخية بين الحقيقة والتحريف
يتناول الفصل الثاني من هذا الكتاب القطاع الأكبر من النسوية الإسلامية والتي تقع تحت مسمى النسوية الانسلاخية من خلال مبحثين أساسين، يتناول الأول: الحقيقة الكامنة وراء هذا التيار، بينما يتناول المبحث الثاني: التحريفات التي تمت على يد هذا التيار للشريعة الإسلامية.
هذا التيار من النسوية الإسلامية يطلق عليه في العادة اسم «النسوية الطروادية» وهو وصف عائد إلى أسطورة حصان طروادة المشهور، كونه يمثِّل اختراقا للبيئة الإسلامية لسلبها حقيقة انتمائها إلى هذا الدين من خلال سعيه إلى تقديم الإسلام كحصان خشبي أجوف أمام حصن الأمة يتواجد في داخله ماكرون يترصدون الفرصة لفتح الباب للأعداء، لهدم حصونها واختراقها.
وهذا التيار النسوي يمتاز بشكل كلي بالطابع العلماني، وذلك في صورة واضحة لا تخفى على أحد، حيث إن العديد من المنتميات لهذا التيار يسعين لمنع تطبيق الشريعة الصحيحة من خلال أحزاب علمانية أو بصورة فردية، ويعتبر من أشهرهن الكاتبة المغربية (فاطمة المرنيسي) التي قالت عنها الكاتبة النسوية (ريتا فرج): إنه «من الخطأ المنهجي إدراجها ضمن خامة النسوية الإسلامية، ذلك أنها وعلى الرغم من انشغالها الشديد بقضايا المرأة في الإسلام، إلا أنها تعد من النسويات العلمانيات كما اعتادت هي تعريف نفسها».
ولا يتردد هذا التيار منذ نشأة بذرته الأولى في القرن 14هـ – 19م، في إنكار المعلوم من الدين بالضرورة، ويرجع ذلك إلى سببين أساسين وهما حق الاجتهاد المفتوح، وواجب الكشف عن اختطاف الدين من الفقه الذكوري، ويتركز وجود الداعيات إلى هذا الفكر في دول جنوب أوروبا وفي فرنسا وبلجيكا بالإضافة إلى أمريكا الشمالية، ومن أبرز رموز هذا المسلك الكاتبة الأمريكية (آمنة ودود).
ويعتبر الكاتب أن أبرز الأسباب التي أدت إلى انتشار هذا الفكر في البلاد الإسلامية وخارجها، هو أن العدد الأكبر من قادته يدرسن في الجامعات مما يسهل عليهن إنشاء جمعيات، وإقامة ندوات، بالإضافة إلى تعاونهن مع التغريب والسفارات والمنظمات الدولية، مما أتاح لهن الحصول على التمويل والدعم والحماية داخل بلاد المسلمين.
و«النسوية الانسلاخية» في أصلها تقسم إلى «نسوية طروادية واعية» و«نسوية طروادية غير واعية» تهدف كلتاهما إلى هدم الدين من الداخل، وإن اختلفت رؤية كل منهما في ذلك؛ حيث إن القسم الثاني يرى في ذلك سبيلا للتوفيق بين الإسلام ومقتضيات الحداثة، والحقيقة هي أن كلا التيارين منسلخان من الإسلام لاستحلالهما الحرام المجمع عليه، مثل الشذوذ الجنسي سواء من خلال ممارسته أو عدمها، بالإضافة إلى تحريم الحلال المجمع عليه.
كما أنه لا قداسة للقرآن ولا لرسالات الوحي السابقة في أدبيات «النسوية الطروادية» ففي حال العجز عن تأويل الآيات بما يتوافق مع مزاج النسوية، يتم الإعلان أن النص مشكِل لذكوريته، ولابد من تجاوزه لكونه وليد بيئته وثمرة ثقافة أهل عصره، وأساس هذا الفكر يرجع إلى كون هذا التيار امتدادا للنسوية الانسلاخية الغربية، التي تقوم على الانسلاخ من أصول الإيمان والجرأة في الرد على النصوص المقدسة ووصفها بالظلم والرجعية.
ومن أجل الرد على هذا التيار ومواجهة فكره بشكل صحيح، يجب كما يرى الكاتب، الإلمام بالأصول التي يقوم عليها فكر النسوية الانسلاخية والتي تتمثل في مجموعة من النقاط الأساسية أوردها الكاتب شرحاً وتحليلاً، وهي كالتالي:
- الإيمان بعلو قيم العلمانية.
- رفع شعار الدين لتمرير الأجندة العلمانية.
- التلفيق العددي.
- التحيز.
- إنكار التمايز الجوهري بين الرجل والمرأة.
- إنكار الثوابت.
تحاريف النسوية الانسلاخية للشريعة
في المبحث الثاني لهذا الفصل يوضح الكاتب تحاريف النسوية الانسلاخية في أحكام الشريعة الإسلامية، من خلال ثلاثة مطالب أساسية وهي استحلال الشذوذ الجنسي، ومحاربة الحجاب الشرعي، وتغير أنصبة الميراث.
الشذوذ
ففي المطلب الأول ترى النسوية الانسلاخية أن زواج الشواذ هو أمر يكفله الشرع لعدم وجود نص شرعي قاطع على تحريمه، ودل على هذا الفكر بوضوح تصريح الناشطة النسوية الإسلامية المناصرة للشذوذ الجنسي (درفلا سارة شناهان) الذي يقول: «إثبات شرعية السدومية من النصوص المقدسة معركة ضرورية للمؤمنين (الكوير/الشواذ) من جميع التقاليد الإبراهيمية».
ومن أجل تحقيق ذلك تحاول النسوية الإسلامية أسلمة الشذوذ والتطبيع معه من خلال اتباع ثلاثة أساليب رئيسية وهي:
- استشارة عواطف الجماهير عن طريق عرض قصص الشواذ الراغبين في الشذوذ والإسلام معا.
- العمل المباشر على دعم تجمعات الشواذ المسلمين كما تفعل (آمنة ودود) من خلال مؤسستها (Progressive Muslim Union) أو مؤسسة (فطرة) في جنوب أفريقيا وغيرها.
- إعادة تفسير الآيات القرآنية لشرعنة الشذوذ كما هو صنيع بعض الكاتبات في العالمين العربي والغربي.
الحجاب
أما المطلب الثاني الذي يرتبط بالحجاب، فهو صراع قائم بين الإسلام والتغريب منذ عقود ماضية، ويتم ممارسته من خلال العديد من الصور مثل تجريم ارتدائه، أو من خلال الحرب الأيديولوجية على الحجاب في الإعلام باستقباح شكله، أو القيام بعملية الاستنكار من خلال لسان الشرع.
وهو الرأي الذي تدعمه مناصرات النسوية الإسلامية، اللاتي يشتركن في كونهن متبرجات، ويرجعن ذلك إلى إنكار وجود علاقة بين الحجاب والوحي، وأن أصله يعود إلى شرائع اليهود والنصارى ولم يدخل إلى منظومة الشرائع الإسلامية إلا تأثرا من العرب بجيرانهم من أهل الكتاب، وتتفق النسوية الانسلاخية في هذا الفكر بشكل كلي مع خطابات العلمانيين الواضحة.
الميراث
ومطلب النسوية الانسلاخية الثالث حول تغير أنصبة الميراث، يرجع في أصله إلى ضعف قدرة الرجل على تحقيق الكفاية لأسرته في ظل مجتمع استهلاكي أجبر المرأة على الخروج إلى سوق العمل، مما جعل حصول الرجل على نصيب الأنثيين مجحفا في نظر النسوية لكون المرأة أصبحت تعول الأسرة ماديا كما يفعل الرجل، وقد تم الاتفاق بين النسويات على أن هذا التقسيم كان مجرد حكم ظرفي وفق بيئة الحجاز في القرن السابع الميلادي.
والرأي السابق عبرت عنه الكاتبة النسوية (رفعت حسن) بقولها: «من الضروري أن نلاحظ أن القرآن في سياق الحديث عن الميراث أخذ بعين الاعتبار الحقائق الاقتصادية للقرن السابع في الحجاز، فقد ألقى مسؤولية إعالة العائلة على الرجال الذين يفوق حملهم الاقتصادي، لذلك حمل النساء اللواتي أعطين من ناحية أخرى الحق في وراثة كل أقاربهم الذكور أب، أخ، زوج …».
والحقيقة هي أن تقسيم الميراث بالوحي المحكم رحمة إلهية لمنع الضلالة، وهو باب دقيق الحكم لا يبلغه الإنسان بعلمه المحدود، ولذلك يحتاج إلى مدَد ممن هو بكل شيء عليم، وهو ما أثبتته العديد من البحوث الشرعية التي انتهت إلى أن النصاب الذي أورد القرآن هو حفظ لحقوق المرأة لا تفريط فيه، وقد أورد الكاتب شرح هذه الحقيقة بالتفصيل.
ومع نهاية هذا الفصل يجب الإدراك أن «النسوية الانسلاخية الطروادية» ما هي إلا مشروع لهدم الدين ونقض أصل الإيمان بمنطق التجديد التقويضي.
النسوية التلفيقية بين الواقع، الوعود، والنقود
في المبحث الأول من الفصل الأخير يستهل الكاتب وصف «النسوية التلفيقية» بكونها الأمل الأخير للنسويات المسلمات اللاتي لا يطلبن البراءة من الدين، ولا ينكرن الأصل الرباني للقرآن.
وقد ظهر هذا التيار في العالم العربي كرد فعل على الخطاب الأصولي من تيار عميق الولاء للفكر النسوي من جهة، وكرد فعل على الخطاب النسوي الأوسع في العالم العربي الذي يمتاز بانسلاخه الصريح من الشريعة وولائه البيّن للمدد النسوي الغربي، أما في العالم الغربي فكان ظهورها مرتبطا بالحجر القانوني على المسلمات في عدد من الدول الأوروبية، وهو ما دلت عليه العديد من أقوال النسويات مثل ما أوردته (مليكة حمدي) في مقالها الذي يحمل عنوان: (النسوية الإسلامية في الدول الأوروبية الناطقة بالفرنسية في مرحلة ما بعد الاستعمار).
و«النسوية التلفيقية» كغيرها من تيارات النسوية لا تمتلك تعريفا قياسيا خاصا بها، وفي سبيل ذلك سعت النسوية (أماني صالح) إلى وضع تعريف لهذا التيار بأسلوب صحفي يعتمد على توضيح الركائز الأساسية التي يقوم عليها والتي تمثلت في:
- أصالة المكون الميتافيزيقي مع المصادر المادية للمعرفة.
- استناد المعرفة النسوية الإسلامية إلى إطار مرجعي عقدي أكبر يؤمن بوجود حقيقة ويرفض النسبية الكلية.
- المعرفة النسوية الإسلامية ذات طابع نقدي جوهرا ومضمونا.
- المعرفة النسوية الإسلامية معرفة تحريرية ضد السلطة المطلقة لفرد أو جنس أو رأي أو نظام وحيد.
- نمو المعرفة النسوية رهين نمو تيار ثقافي اجتهادي في نسيج المعرفة والثقافة الإسلامية عموما.
وينهي الكاتب هذا المبحث بإمكانية استنباط تعريف للنسوية التلفيقية مما سبق وهو كونها تيارا قائما على أصول انسلاخية من خلال واجهة شرعية. يغلب على طرحه: غموض الخطاب، وضبابية المنهج، والتدليس في تناول القطعيات الشرعية.
وعود النسوية التلفيقية
المطلب الثاني في هذا المبحث يتناول الوعود التي تقدمها النسوية التلفيقية لأنصارها والتي تظهر جلية في محاولة تغيير الواقع والقوانين لصالح رؤية نسوية مصلحية، جندرية من خلال سلطان القانون، ولكن على أرض الواقع تجد الداعيات لهذا الفكر أنفسهن أمام فشل بيِّنٍ في صناعة كينونة لها ملامح جادة، وأصول ثابتة، وبدائل مقنعة، ويظهر ذلك جليا من خلال عجزها الواقعي في التمدد في الساحة الشعبية، أو أن تجد لها مكانا في الساحة الشرعية.
ويرجع هذا الفشل إلى عدد كبير من الأسباب من أبرزها وضوح دلالات النصوص الشرعية المتعلقة بالمرأة في الوعي العام في البلاد ذات اللسان العربي، وذلك لأن فلسفة تفويض الدلالة المعتمدة في مناقشة مسائل القوامة، والتعدد، والميراث في هذا التيار تنتهي إلى تذويب كل ثابت شرعي تشريعي.
الانتقادات لتيار النسوية التلفيقية
المبحث الثاني للفصل الأخير، يتناول أبرز الانتقادات التي تم توجيهها إلى تيار النسوية التلفيقة، والتي تبدأ من انتقادات تيار النسوية نفسه لهذا الفكر للعديد من الأسباب، مثل ضبابية الفكر لديهن، الذي عبرت عنه إحدى النسويات قائلة: «تبقى الحركة النسوية الإسلامية متواضعة مع مثيلتها في الغرب، خاصة على مستوى تحديد معنى المفهوم وعلى مستوى العمل على ترسيخ مبادئها داخل المجتمع»، كما ترى النسوية أن هذ التيار سطحي الفكر تنظيرا وتفصيلا، وهناك تناقض جوهري بين الإسلام والنسوية في كون الإسلام بناء عقديا تشريعيا مختلفا عن طبيعة نسيج النسوية والجمع بين المتناقضين محال، وغيرها من الأسباب التي أوقعت الخلاف بين كلا التيارين.
انتقادات الشريعة لهذا التيار
والجزء الثاني من الانتقادات لهذا الفكر موجه من قبل الشريعة الإسلامية نفسها، التي يدعي هذا التيار انتماءه إليها وذلك بسبب تهم هذا التيار لعلماء الأمة منذ العصر الأول المتمثلين في الصحابة، بخيانة أمانة البلاغ عن رب العالمين، بالإضافة إلى هجومهم المستمر على علماء العصر الحديث الذين سعوا لتنقية الميراث العلمي والقيمي للأمة من كل ما يصادم الرؤية القرآنية للمرأة وحقوقها سواء أصابوا في سعيهم أو فاتهم المطلوب.
وعلى الرغم من إنكار كل من «النسوية التلفيقية» أو «النسوية الانسلاخية» انتماء أي منهما للأخرى، إلا أن كلا التيارين يتفقان في العديد من الأمور النظرية والعلمية، من أبرزها ما يلي:
- ضعف الرؤية العقائدية الإسلامية واستحضارها بصورة باردة رغم أن العقيدة أصل الفعل وموجهه.
- غياب منهج علني في الاستنباط وتلبس العملية الاجتهادية بالرغبوية التي تجعل النتيجة سابقة للنظر.
- مزاج ذوقي في رد الأحاديث، فالحديث صحيح بقدر خدمته للمشروع النسوي، لا بالنظر في علل السند والمتن.
- تجنب مناقشة الإجماع من الناحية الأصولية حجية وثبوتا ورد المسائل الاجتماعية باعتبارها اختيارات فقهية ذكورية.
ومما سبق وغيره من نقاط الاتفاق التي أوردها الكاتب يتضح أن زعم «النسوية التلفيقية» في كونها لا تُغلّب ثقافة العصر على حقائق الدين، لم يفلح في إنقاذ هذا التيار من وصمة التلفيق الذي يخفض الوحي، ويرفع ثقافة البيئة العلمانية والمحلية، حيث إنه لا يمكن الجمع بين رؤيتين كونيتين متغايرتين أو متناقضتين، كما أنه لا سبيل للتوفيق بين مجموعتين مختلفتين من القيم.
في النهاية فإن هذا الكتاب من الكتب التي تناقش قضايا النسوية بشكل عميق، وينبغي الاطلاع عليه والإلمام بتفاصيله، لمعرفة الطوائف والفرق المختلفة لهذا الفكر، التي تتفق -وإن اختلفت مسمياتها- في السعي إلى تطبيع العالم العربي والإسلامي مع الفكر الغربي والعلماني، وهدم الركائز الأساسية للشريعة الإسلامية.