شَوّه الأفكار واقضِ عليها، مراجعة كتاب الصراع الفكري في البلاد المستعمرة لمالك بن نبي
كتاب الصراع الفكري في البلاد المستعمرة هو أول كتاب في سلسلة كتب مالك بن نبي الشهيرة «مشكلات الحضارة» مكتوب باللغة العربية، وقد كانت الكتب التي سبقت هذا الكتاب مكتوبة باللغة الفرنسية ثم نقلت إلى العربية.
أضاء المفكر الكبير مالك بن نبي وركز في هذا الكتاب على الصراع الفكري في البلاد المستعمرة، وبيّن فيه معالم خبث المستعمر وتركيزه على تشويه كل الأفكار والقضاء عليها، وبالرغم من ذلك يحاول أن لا يجعل ذلك ظاهرا، وإنما بشكل خفي وغير مباشر.
ذكر مالك بن نبي أن المستعمر يلعب بالخيوط غير المرئية أحيانًا من قبل العامة، بل ويدرس المستعمر الأبعاد النفسية لديهم لكي يحكم زمام المستعمرات ويتحكم في طريقة انسياب الجماهير وتوجيهها بشكل يخدم كل مصالحة ومطامعه طبعا، ولعل التشابه المتماثل بين طُرق الاستعمار باللعب على الخيوط وطرق الاستبداد هي ما تجعل من المهم بل الجدير مراجعة كتاب المفكر القدير مالك بن نبي.
نبين في هذه المراجعة بعض المعالم المهمة جدا، وإسقاطاتها على أرض الواقع وحيثياتها، والمبادئ التي يلعب المستعمر بها ويعتمد عليها المستبد هي ما يبقيه على قدر من القوة ضد الجماهير الغاضبة أحيانا و المقهورة أحيانا أكثر.
تشويه واحتقار
كان لواقعة كبرى في الجزائر نصيب كبير من بوادر الصراع الخفي، حين أُعلن عن حادثة كبيرة في عام 1975 وامتلأت الصحف العربية والعالمية بعنوان: «خطف خائن كبير في الجزائر» وكان هذا النبأ منقولا عن وكالة أنباء أمريكية، وهو عن الشيخ العربي التبسي الذي خطفته القوات الفرنسية وانقطعت أخبار منذ ذلك الحين، وكانت المعركة هنا في كيفية تشويه صورة الشيخ المناضل والباحث عن الحرية من الاستعمار بسطرين اثنين.
وليس تشويه الأسماء والرموز بجديد، ولا احتقار المناضلين والسعي إلى القضاء عليهم بكل الأشكال، ولكن الفكرة هنا هي السعي إلى تدمير المخيال الجمعي للأفراد؛ بحيث تدمر الوحدة الشاملة لكافة أبناء الشعب المقهور والمناضل، ومحاولة تقسيمه إلى أجزاء صغيرة وإعادة تركيبها بطريقة تخدم المستعمر والمستبد أيضا، وفق آليات مدروسة وشاملة تقوم على دراسة النفسية الجماعية للأفراد وتطويعها.
ولا ينتهي مكر المستعمر هنا فقط بل يعمل على خلق وحدات من أبناء الشعب يعملون ليل نهار للحفاظ على هذه الخطة تعمل بشكل كامل ويُخطرونه في حال وجود أي أشخاص يريدون الخروج عنها والعمل ضد تيارها أو حتى العمل على زيادة وعي شعوبهم ومحاولة إيقاظها من سباتها الطويل، في ذاك الظلام الذي لا يدركونه ولا يأملون زواله عما قريب.
عموميات عن الصراع
في الفصل الأول يتحدث مالك بن نبي عن كيفية عمل المستعمر على تخدير الشعوب وموضعتها وإبقائها تحت الغفلة وعن إستراتيجية المستعمر في إسقاط الأفكار المجردة (القيم – المبادئ) عن طريق تحويلها إلى أفكار متجسدة في أشخاص أو جماعات، ومن ثم العمل على تشويههم ووصفهم بأبشع الأوصاف والتهم، وعندها تسقط الفكرة المجردة وتتداعى حتى يصبح رنينها في الذهن عند العوام سيِّءَ الذكر والاستحضار، وبذلك يكون الاستعمار قد دمر هذه الفكرة المجردة التي كانت تمثل قيما عليا في المخيال العام.
يقول بن نبي إن الاستعمار يعمل جاهدا على امتصاص القوى الواعية في البلاد المستعمرة بأي طريقة ممكنة وكل الوسائل المتاحة لهُ وبالتالي لا يبقى أمام المكافح والمناضل إلا بعض الشكليات التي يحاول أن يعمل من خلالها.
ركَّز بن نبي في هذا الفصل تحديدا على الإجابة على السؤال التالي: ما طرق التخريب التي يمارسها الاستعمار ضد أفكارنا؟ ويُجيب بن نبي على هذا السؤال بتحليل شريط الاتصال الأساسي في خطة الاستعمار الإستراتيجية التي تشترط أمرين:
- الأول: أن يضرب الاستعمار كل قوة مناهضة له، تحت أي راية اجتمعت.
- الثاني: أن يحول في كل الظروف بينها وبين أن تتجمع تحت راية أكثر فعالية.
وينتج عنهما عند التطبيق العملي أن يُحالَ بين الفكر والعمل السياسي حتى لا يتحوَّل الفكر إلى عمل، وأيضا يكون العمل دون فكر، هنا نستطيع أن نقول بأن المستعمر يتخذ إستراتيجية «المنديل الأحمر» تماما كما في بعض الألعاب الإسبانية (مصارعة الثيران)، فالاستعمار يلوح في مناسبات معينة بشيء يستفز الشعب المستعمَر حتى يثير غضبه، ولكي يجعله يوجه غضبه بشكل أعمى وغير مثمر إلى المنديل وينسى صاحب المنديل، وليس هذا وحسب، بل يعمل على استئصال أي أفراد يحذرون من عبثية هذا الصراع ويتم وصفهم بالخونة وغيرها من التُّهم حتى يجعلهم يشعرون أن المجتمع الذين يناضلون من أجله قد خانهم وعبث بنضالهم.
في حلبة الصراع
في الفصل الثاني يصف بن نبي تكتيكات وخطط الصراع في الحلبة الفكرية وكيف يستخدمها شيطان الاستعمار الخبيث، حيث إنه يجعل الغموض العنصر المركزي وحجر الأساس لهذا الصراع بحيث يخلق حالة من عدم اليقين بوجود مثل هذا الصراع أساسا، ويلعب وراء الكواليس ويحرِّك الخيوط، حيث تنص هذه الاستراتيجية على مبدأيْن:
- الأول: الغموض.
- الثاني: الفعالية.
حيث إنه في الأول لا يكشف الاستعمار عن وجهه في المعركة أبدا ما لم يضطر إلى المبدأ الثاني في حال استعصت الأمور.
وشرح بن نبي طريقة عزل المقاوم في حلبة الصراع بواسطة المستعمر من جانبين:
- الأول: أن يُنفر من أفكار المقاوِم في الرأي العام بجميع الوسائل.
- الثاني: أن ينفرهُ هو نفسه من القضية التي يكافح من أجلها؛ بأن يشعره بعبثية كفاحه.
ومن إسقاط هذه المبادئ التي يقوم بها المستعمر على أرض الواقع يجد بن نبي أن المستعمر يقوم بخلق كيانات تحت مسمى «ثوري» قد تتجسد على شكل هيئات وطنية تزعم أنها تمثل القضية الثورية، عملها إسقاط كل ما هو ثوري وقتل الأصوات الجديدة، وبذلك يتم تحويل المعارك من معركة بين مكافِح ومستعمر، إلى معركة بين مكافح وهيئات وطنية، وهذه الخطة تحول المعركة لصالح المستعمر وهدفها هو خلق الخلاف والتنافس بين القوى التي تقاومه «فتنحرف بذلك المعركة من معركة بين قوى الشعب والاستعمار، إلى معركة بين القوى الشعبية ذاتها».
تحقق هذه الخطة للمستعمر هدفين مهمين، الأول تدمير قداسة النضال في المعركة ضده، والثاني تشتيت القوى الموجودة في المعركة، وبتحقيق ذلك فإن الاستعمار قد فصل «الوحدة الشاملة» التي تضفي على الكفاح ضده طابع القداسة وتهبه قيمة عليا، وبذلك يكون حقق غايته المقصودة.
ولا يمكننا تجاهل هذا التوصيف الذي طرحه بن نبي ومدى تشابهه مع طرق المستبد تماما حيث إن المستبد يخلق كيانات تسمى معارضة هدفها الأول والوحيد هو كشف المعارضين له وليس المعارضة لحكمه وطريقته.
تركيب آخر لمرآة الكف
وفي الفصل الثالث يأتي بن نبي بشرح غزير بشكل هندسي وذلك يعود إلى تكوينه الأولي كمهندس، حيث يحلل فيه ويصور العوالم إلى ثلاث دوائر متداخلة:
- الصغرى: الدائرة الشخصية.
- ثم الوسطى: دائرة الصلات الاجتماعية.
- ثم الكبرى: دائرة الأفكار.
ويفسر عملُ هذا التصميم أن كل ما يصدر من إشعاع إلى الدائرة الشخصية الخاصة بالفرد يصبُّ حتما -بخيره وشره- في دائرة الأفكار؛ لأنه ينعكس عليها بمقتضى تداخل الدائرتين؛ فأي تعفن أخلاقي يحدث داخل الدائرة الشخصية تصل عدْواه فورا إلى دائرة الأفكار، وبنفس الطريقة تماما يحدث ذلك في الدائرة الاجتماعية، وهنا يصف بن نبي أن التعفن في دائرة الأفكار منبعهُ التعفن في الدائرة الشخصية لبعض الأفراد الذي يستعملهم الاستعمار ويغريهم بالملذات والشهوات وغيرها.
وفي هذا التحليل الدقيق نرى أن فردا واحدا بإمكانه أن ينقل تعفنه من دائرته الشخصية إلى دائرة الأفكار الجماعية للشعب المناضل وتنتشر كالوباء تماما.
ويقول بن نبي إن السبب الرئيس الذي يجعل انتشار التعفن في دائرة الأفكار سهلا يرجع إلى مشكلة أصلها أن الأفكار في المجتمع الإسلامي لا تتمتع بقيمة ذاتية تجعلنا ننظر إليها كأسمى المقومات الاجتماعية، وكقوة أساسية تنظم وتوجه قوى التاريخ كلها، وتعصمها بذلك من محاولات الإحباط و التعفن مهما كان نوعها.
يصف بن نبي الجهاز الفكري الجمعي المتمثل في دائرة الأفكار أو عالم الأفكار بأنه في غاية الضعف بسبب عدم الرقابة على الأفكار الضارة والمتعفنة على باقي الجهاز، وذلك يرجع إلى ما وصفهُ «بالطور ما قبل الاجتماعي»، وذلك لأن دائرة الأفكار الجماعية لا رقابة فيها على الأفكار الدخيلة والمتعفنة، وبالتالي بسبب هذه الثغرة ما زال الظلام مهيمنا على الأوساط الجماعية العامة، لأنها لم تصل إلى الإدراك الجماعي بعد، لأن دائرة الأفكار معرضة إلى مكر الاستعمار ومؤامراته دون أن تستطيع الرد عليه.
إذ إن كل ما يحتاجه المستعمر الآن هو تسليط إشعاع الحرمان على الدائرة الشخصية وبالتالي ينعكس هذا الإشعاع على دائرتي الأفكار والحياة الاجتماعية بحكم تداخلهما، وعندها يصبح الشعاع الضار الذي يسلط على دائرة الأفكار يكون من الداخل حيث إنه يأتيها من دائرة الشخصية والاجتماعية، ومع ضعف الجهاز المناعي للأفكار تتعفن دائرة الأفكار في العقل الجمعي وبذلك يكون حقق الاستعمار غايته.
مظاهر أخرى للصراع
وفي الفصل الرابع للكتاب يقول بن نبي كيف أن الاستعمار يركب أجهزة خاصة لتحطيم الأفكار، كما يركب العلماء المتخصصون في علم المواد المشعة أجهزة لتحطيم الذرة، وكيف يمكن للصراع أن يكون في صور أكثر تعقيدا من ذلك قد ينكشف بعضها وقد يبقى الكثير في الظلام، فلو أننا تتبعنا النشاط الاستعماري في الميدان الفكري في دورة كاملة، لرأينا أن «صمام الفصل» الذي يصفه بن نبي يقوم على مرحلتين:
- الأولى: مرحلة ما قبل الثورة تراه يقوم بدور اللافتة التي ترفع فوق رأس الشعب، الشعارات الساحرة، الحرية، الاستقلال، الوطن، حتى يصرف الأنظار عن الأفكار الفنية التي تبحث عن الطريق العلمية لتحقيق هذه الشعارات.
- وفي المرحلة الثانية: مرحلة ما بعد الثورة أي في مرحلة التنظيم، بعد التحرر، ترى نشاطه يشوه تلك الشعارات ذاتها حتى يستولي على العقول الريب، ويتسرب إلى القلوب الندم، والأسف على عهد الاستعمار.
ومن المثير للاهتمام تشابه التوصيف الدقيق هذا لمالك بن نبي مع المستبد أيضا، ونجد هنا أن الاستبداد يستخدم تماما هذه الطرق وطُبقت بالفعل في واقعنا الحالي وفي ثورات الربيع العربي خصوصا، حيث ندما كثير من القوى التي كانت «ثورية» على عهد الطغاة، وهنا يجب علينا فهم العلاقة المتينة بين الاستعمار والاستبداد حيث إن أساليبهم واحدة تماما.
وهكذا تستخدم سياسة «صمام الفصل» في المرحلة الأولى لتجميد الطاقات التحررية في المكان الذي يلوح فيه الاستعمار بالمنديل الأحمر، ثم في المرحلة الثانية تستخدم التهديد المثاليات التي دارت تحت لوائها معارك التحرر.
على هامش الكتاب
يقول بن نبي في الفصلين الخامس والسادس إن الاستعمار يحاول تارة تجزئة الفكرة كأنه يريد تقسيم طاقتها الانفجارية وأحيانا أخرى يحاول على العكس أن يجري عليها نوعا من الضرب بحيث يجعلها مقدمة في عدد من أفكار ثانوية تضيف إلى حجم الفكرة الأصلية عناصر فكرية خامدة لا أثر لها سوى إضعاف سلطانها على العقول كما لو أننا لففنا سن المسمار أو حدَّ المنقار بلفاف من ورق أو قماش حتى لا يؤثِّرا فيما نريد نقْره أو ثقبه.
وناقش في الفصل السادس الأفكار وقيمتها الرياضية وعبر بمعادلات رياضية كعادته في شرح قيمة الأفكار وتساويها.
وفي الختام يخلص مالك بالنبي إلى أن الاستعمار يسعى أولا إلى أن يجعل الفرد خائنا ضد المجتمع الذي يعيش فيه، فإن لم يستطع فإنه يحاول أن يحقق خيانة المجتمع لهذا الفرد على يد بعض الأشرار.
وأخيرا، يظل المفكر الكبير مالك بن نبي وأفكاره شعلة لا يخف بريقها أبدا وصحيح أن كتاباته رحمة الله كانت في ستينيات القرن الماضي إلا أن تحليلاته عن الاستعمار وطرقه وخططه تنطبق تماما على المستبد اليوم في كل أشكاله في الوطن العربي الكبير، لذلك يجب إعادة دراستها والبحث عن إسقاطاتها على واقع جديد يحمل معاني ثورية حقيقة.