مراجعة كتاب التنمية العربية الممنوعة.. ديناميات التراكم بحروب الهيمنة لعلي القادري

على الرغم من كل الخطابات الرنانة والمبشرة بالتنمية التي بشر بها خبراء ومؤسسات التنمية الغربيون في بلدان عالم الجنوب على مدى ما يقارب ثلاثة أرباع القرن، إلا أن الواقع التنموي في هذا العالم جاء مخيبًا لآمال غالب شعوبه في حياة كريمة فوقعت في براثن الفقر والديون ونقص السيادة والتبعية الكاملة لرأس المال العالمي بقيادة أمريكا، حيث تم مصادرة التنمية المنشودة من خلال هيمنة الرؤية النظرية الاقتصادية الرأسمالية التقليدية، وتاليًا رؤية الليبراليين الجدد أو كهنة اقتصاد الريع والفساد والحرب والهَدْر التي راجت منذ نهاية سبعينيات القرن الماضي؛ نتيجة لتحكم هذا التكتل في العملية التنموية وتوجيهها بالمشاركة مع نخب بلدان الجنوب والطبقات التجارية التابعة لصالح رأس المال الغربي، فنُهبتْ موارد عالم الجنوب لصالح الشمال من خلال حروب الهيمنة والقذائف والقنابل. 

ولم تكن منطقتنا العربية استثناء من ذلك الفشل؛ فطوال النصف الثاني من القرن الماضي والعقدين الماضيين من قرننا الحالي وحتى اليوم، لم تستطع أن تنجز التنمية بأي تعريف من تعريفاتها المختلفة، بل إنها وقعت في فخ التنمية المضادة التي جلبت الفقر والديون والبطالة والنهب الرأسمالي لموارد الأمة والهدر الكبير لقدرات أبنائها، وفقدانها لسيادتها التي هي أول شروط أي عملية تنموية حقيقية.

ومن هنا كان الاحتياج إلي نموذج فكري لفهم عملية التنمية العربية وأسباب فشلها يحيط بأبعاد الظاهرة وقسماتها. فمنهج التحليل الاقتصادي النيوليبرالي ليس قاصرًا عن تحليل مشاكلنا التنموية فحسب، بل إنه ضار بهذا التحليل وبعملية التنمية ذاتها أشد الضرر. فما نحتاجه  اليوم هو إعادة التفكير في كل ما نعرفه عن التنمية وكيفية التعامل معها من جديد. فمن يسعى لتوجيه التحول في اقتصاد ما وتنميته تنمية حقيقية عليه أن يدرك بأن التغير في النخب والفلسفة التي تحكم اختيار السياسات والمؤسسات ينبغي أن يسبق التغيرات في العوامل الاقتصادية، ومن يروم تحقيق التنمية عليه أن يحدد وجهته ورؤيته قبل أن يرسم سياسة أو ينفذ برنامجًا.

فالتنمية عملية حضارية تنطلق من عقيدة ما في رؤية الكون تقوم بها مجتمعات مستقلة كاملة التحكم في مواردها وقرارها السيادي لتنجز المطالب المستحقة لأبنائها  في إطار تعارفها وتفاعلها وتكاملها مع باقي أبناء آدم. فالتنمية حصاد سياسات تقررها الشعوب وتصنعها عبر نخبها الممثلة لها لتحقيق أهدافها التي تتناسب مع عقيدتها ونمط حياتها في إطار المجتمع الإنساني المحيط بها. 

وهو الأمر الذي يجعل هناك ضرورة ماسة لفهم أبعاد عملية التنمية العربية من منظورات شاملة تجيب على أسباب الفشل العربي كما أجابت على أسباب النجاح في مجتمعات أخرى. ومن هنا كان عرض ومراجعة أهم أفكار هذا الكتاب الذي بين أيدينا.

وصف الكتاب

يحتوي كتاب الدكتور قادري على مقدمة وتسعة فصول يشرح فيها رؤيته ونموذجه التفسيري للعوائق أمام التنمية في العالم العربي، والتي أدت إلى إجهاضها أو ما أسماه «عملية التنمية العكسية» التي أدت إلى خفض «نوعية رصيده من رأس المال وتراجع متوسطات الدخول وقفز معدلات البطالة وتشديد القيود المفروضة أساسًا على الحريات المدنية» (ص9).

عن المؤلف

علي القادري، صاحب كتاب التنمية العربية الممنوعة

الدكتور علي قادري هو أستاذ في جامعة (صن يات صن) في جمهورية الصين الشعبية حاليًا، ومن أهم كتبه: «نظرية هجرة العمالة القسرية: بروليتاريا الضفة الغربية تحت الاحتلال (1967-1992)»، «تفكيك الاشتراكيّة العربيّة»، «الحزام الرادع: قانون واحد يحكم التنمية في شرق آسيا والعالم العربي (2018)». وصدر له في عام 2023م «تراكم النفايات: اقتصاد سياسي للتدمير الشامل». وتصدر قريبا عن مركز دراسات الوحدة العربية ترجمة لكتابه «الإمبريالية والهدر». وهو يعمل على موضوعات: نظرية هجرة العمالة القسرية وإمكانية تكرار نموذج التنمية الصيني في البلدان النامية الأخرى. كما يركز بحثه على الحرب باعتبارها الهدر الكامل. وقد كتب على نطاق واسع عن الاقتصاد السياسي للحرب وإلغاء التنمية في غرب آسيا.

نموذج فكري جديد لفهم التنمية

يعد هذا الكتاب إضافة جديدة عميقة لفهم عملية فشل التنمية العربية من منظور ماركسي، فمن خلال تشريح المنهج المقلوب لمعالجة والنظر إلى موضوع التنمية في قارتنا العربية، وكيف أدى إلى حدوث عملية تنمية عكسية تخالف في منطلقاتها ونتائجها كل ما تتوخى عملية التنمية الوصول إليه، يحدد قادري الطريق نحو الخروج من الفشل لتحقيق التنمية العربية التي طال الأمل في حدوثها.

الأطروحة المركزية للكتاب

تنطلق الفكرة الرئيسية للكتاب من نقض النظرية السائدة في التنمية الاقتصادية التي تؤكد على ضرورة تهيئة البيئة الملائمة للقطاع الخاص والأسواق الحرة والحكم الرشيد باعتبارها أمورًا كافية لتحقيق التنمية (ص52). في حين يرى علي قادري أن في ذلك تبسيطًا مخلًا بفهم عملية التنمية، ويؤكد على أن الواجب على كل باحث عن تحقيق التنمية بمفهومها الصحيح أن يبحث عمَّا وراء ذلك كله. 

فكل صفحة من الكتاب تؤكد على أن أمر التنمية أبْعدَ مِن تمكين القطاع الخاص وتطبيق السوق الحر والحكم الرشيد وتحقيق معدلات نمو عالية، وأبعد بكثير من مجرد سياساتٍ تُتَّبع أو إجراءات تُنَفَّذ. فالتنمية ليست مجرد قرار سياسي؛ على أهميته، ولا نجاحًا بيروقراطيًا في تنفيذ خطة ووضع مؤشرات كلية وجزئية تهدف لتحقيق الرفاه الإنساني على مشروعيته والمرغوبية فيه على ضرورته. 

ولكنها في الأول والأخير «مشروع حضاري» (ص134)، لا يمكن تحقيقه من خلال تكديس الدولة لمواردها البشرية والمادية دونما غاية تقف وراء ذلك التكديس. لا؛ فالتنمية عملية بناء هادفة ونتيجة نضال سياسي تتوسطه تنظيمات الطبقة العاملة؛ لتحسين ظروف المعيشة. وهي نتاج متوازن يجمع الحريات المدنية و«التحرر» من العوَز الشديد للجميع.. ومن ثم فالبحث عن أسباب فشل التنمية يكون بالبحث في طريقةِ تقاسم السلطة بين الطبقات الاجتماعية وليس في سياسات كلية أو جزئية تتناول معدل الفائدة أو الاستثمار أو البنية التحتية وما شابه (ص87-88). 

وينطلق المؤلف من هذه الرؤية ليبين لنا أن أزمة العالم العربي ليست من النوع الذي يمكن قياسه كميًا ببساطة بمؤشرات اقتصادية، فهي أزمة اجتماعية متجذرة عميقًا تتغذى وتتجدد باستمرار بالتفكك الاجتماعي وبالصراعات الدينية والعرقية المصطنعة وبدوائر القوى الاجتماعية التي تشجعها المغامرات العسكرية الأمريكية والقدرات العسكرية المتفوقة لإسرائيل؛ أي الدينامية الإقليمية لفشل التنمية في منطقتنا العربية، هي: النفط والحرب، معًا وكل على حدة (ص271). 

فالعدوان الإمبريالي، سواء كان عسكريا أو من خلال سياسات النيوليبرالية المستنزفة للقيمة، هو ما يفسر معظم تخلف العالم العربي (ص191). ولذلك ما إن يدخل مفهوم التحالف الطبقي العابر للحدود التحليل السائد حاليا؛ يصبح فشل التنمية العربية مسؤولية مشتركة بين الإمبريالية بقيادة أمريكا وشركائها في العالم العربي (ص119). فالسياسات النيوليبرالية التي طبقتها النخب الحاكمة مثلت إحياء غير مباشر للاستعمار من خلال امتصاص موارد العالم العربي بأقل من قيمتها لصالح الإمبريالية (ص48). لكن كيف يمكن الفكاك من هذه الدينامية؟

البديل الذي يطرحه قادري لتحقيق التنمية

الاشتراكية

يؤكد قادري أن قارتنا العربية تمتلك قدرات هائلة للإنتاج، ولديها الإمكانية لفرض البدائل، وفرض شروط شعوبنا على عملية التبادل التجاري الدولية، وإلغاء المستوطنات الغربية التي تستوطن الفكر أساسًا قبل أن تستوطن الأرض؛ في مثالها الصارخ في فلسطين، فالحرب والتبعية والاستغلال وهدر الموارد واستنزافها وحصيلتها المتمثلة في فشل التنمية نِتاج الأفكار بالدرجة الأولى، فالهزيمة في ساحة الفكر أنتجت الفقر والفشل في ساحة التنمية.

ومن ثم فإن الأفكار وحرب الأفكار شديدة الأهمية في فهم فشل التنمية (ص253). فالتنمية تعتمد في نهاية المطاف على طبيعة المسئول عنها (ص266)، وإذا كان هذا المسؤول -سواء الأنظمة الحاكمة أو الرأسمال العربي- لا يعنيهم من أمر مجتمعاتنا سوى نهب ثرواته وهدر إنسانه بالاشتراك مع الإمبريالية الأمريكية: تصبح مشكلتنا إذن أيديولوجية تبدأ من التحكم بطريقة تفكير الناس وتكوين المفاهيم وتصويرها بشكل يعزلها عن الواقع. 

لذلك لا بد من إحياء الأيديولوجية البديلة، لأن من يختار هو الفاعل التاريخي القوي: فالقطب الإمبريالي الأمريكي بحكم أنه هو ذلك الفاعل المسيطر الأول على عالمنا: يشن حربًا أو لا يشن، يُقرض أو لا يقرض، يرفع سعر الفائدة أو لا يرفع، ثم نتعامل نحن مع النتائج فيما نحن ندفع من إراداتنا وأعمارنا. ولن يكسر هذه الحلقة سوى وجود البديل. 

ومن هنا يبدأ قادري في طرح بديله -إن سلمنا له بتلك المقدمة- من خلال الوعي السياسي لأنه هو الذي سيحدد قدرتنا على مجابهة الإمبريالية وأتباعها وتقديم البديل لها والقادر على تحقيق التنمية المتمثلة في أمن الطبقة العاملة، وهو البديل الاشتراكي. 

فمن خلال  «إعادة تصور المشروع الاشتراكي الدولي»، يمكن للأمة العربية أن تحقق تنميتها من خلال المشاركة في النضال بشكل أممي، وأن ذلك هو المدخل الصحيح لتحقيق التنمية. ويستند هذا التصور إلى كون منطقتنا العربية مكونًا محوريًا لاقتصاد عالمي منظم حول التمويل والعسكرة والنفط، وكل عنصر من هذه العناصر الثلاثة المكونة لرأس المال يصل إلى ذروته في الحرب على العالم العربي. وهكذا لتفكيك رأس المال وتصفية حروبه واعتداءاته يجب أن تستهدف الطبقات العاملة حول العالم تشكيل تحالف دولي بقيادة الطبقة العاملة في العالم العربي (ص110).

ويطرح قادري تفصيلا أكثر للبدء في تحقيق هذا البديل من خلال طرح التحالف بين الصين والأمة العربية باعتباره الآلية التي من خلالها تتحقق إرادة الجماهير في التنمية. فمن خلال عقد هذا التحالف وتوسيعه مع باقي الطبقات العاملة في العالم المستغل والواقع تحت هيمنة الإمبريالية يمكن البدء في عملية تنموية حقيقية للطبقات العاملة في العالم وتحريرها؛ وفي القلب منها المجتمعات العربية. 

ويرى قادري أن سيادة البديل الاشتراكي وتملكه ناصية الحكم والقرار السياسي في منطقتنا العربية سيؤدي إلى «استبدال الهويات الطائفية أو الإثنية المدعومة بالريع بتحالفات الطبقة العاملة وتوفير شروط أساسية حاسمة للاعتماد على الذات الضروري لتحقيق نمو وتوزيع أفضل» (ص38). وكذلك صوغ سياسات ديمقراطية تعيد هيكلة الطبقات، أي الفاعل التاريخي للتنمية (ص86). فمن خلال وجود: بيروقراطية مستقلة ومحترفة مع نظام سياسي مغلق (لا يسمح باستنزاف ثروات العرب إلى الخارج) مع سيطرة الدولة على قرارها السيادي، يمكن تحقيق إنجاز حقيقي وملموس «في السيطرة على دورة رأس المال وفي زيادة نصيب العمل من الدخل» (ص90) وهو الأمر الذي يؤهل لإنجاز تحول اجتماعي، أي تحقيق التنمية المأمولة.

ومن أجل تحقيق ذلك كله يدعو علي قادري الطليعة الشيوعية من منظوره الماركسي أن تقوم بدورها في: «الكشف عن الأزمة الوجودية للإنسانية بوصفها: أزمة حكم رأس المال. وإدراك أن رأس المال يعاني أزمة حكم هو نقطة الانطلاق للثورة. وأن تستعين بجميع القوى البروليتارية وتعيد تنظيمها في النضالات المناهضة للإمبريالية والنظام. فالتضامن الأممي، وكشف النظرية الزائفة التي يروجها رأس المال، لأن هذا هو الطريق لتحقيق إمكانيات العمال كفاعل تاريخي». 

كما يدعو كل الطبقة العاملة في الجنوب أن تقاوم رأس المال، لأنها هي المدماك الأول لإعادة إنتاج المجتمعات بشكل أفضل. وتحمله التكاليف الحقيقية فالمقاومة هي الأساس في إعادة إنتاج الإنسان الاجتماعي. وهي أساس إنتاج المجتمع. وهي السبيل لهزيمة التحالف الحاكم عبر الحدود بين الإمبريالية بقيادة أمريكا ورأس المال التجاري العربي والنظم التابعة له التي تشل فاعلية نضال الطبقة العاملة وتمنع نجاح الإصلاحات الاجتماعية وتحقيق التنمية (ص134-135).

وقفات مع بعض مقولات قادري

مراجعة كتاب التنمية العربية الممنوعة لعلي القادري

كتاب قادري يحمل الكثير من الأفكار والافتراضات الهامة والجدلية التي تستحق الاشتباك، ومنها:

  • الإشارات إلى أن غياب الاتحاد السوفيتي كان سببًا في توحش الليبرالية باعتباره البديل المضاد لها الذي يصعب الاتفاق التام معه، فعلى الرغم من أن وجوده كان يوازن بعض القدر مع الرأسمالية ويوقف تطورها للتوحش، لكن الواقع يقول أيضًا إن تجربته لم تكن ملهمة بأي شكل من الأشكال تنمويًا؛ حتى من خلال المنظور الذي يدعو إليه قادري، ناهيك عن أن الاتحاد السوفيتي كان جزءًا من الهدر والتوحش الذي طال مقدرات الجنوب من جراء سياساته التي قامت على تتبيع الدول والمجتمعات له ونهب ثرواتهم باسم الاشتراكية؛ وما السلاح السوفيتي منا ببعيد.
  • الحديث عن طبقة عربية أو طبقة عالمية جاء عامًا ومشوشًا ويحتاج إلى كثير من التحديد، وكلام قادري عن الطبقة العاملة العربية خاصة كان أقرب منه للحلم والأمنية من كونها حقيقة ملموسة يمكن أن نراها أو نتعامل معها. 
  • استبعاد قادري عقيدة الأمة من التحليل واكتفاءه بالتحليل الطبقي والعقيدة الماركسية أفقد التحليل البعد الرئيسي في إفشال التنمية وفشلها، وجعله يقع في إسقاطات خاطئة فيما يخص قدرة الإسلام على قيادة المشروع التنموي. 
  • كتابة فصول الكتاب في فترات مختلفة، وبُعد الفترة بين صدوره وترجمته جعلت الكثير من آرائه بخصوص الإسلام السياسي ناقصة، ولو كتبت مقدمة جديدة للكتاب بقلم المؤلف لأثْرت الكتاب؛ وهو ما نلاحظه من آراء للمؤلف في التطورات التي حدثت في العام الماضي في أحاديثه عن طوفان الأقصى وما بعده.
  • اعتباره الصين نموذجًا ناجحًا يمكن التحالف معها لبناء تحالف الجنوب بقيادة الطبقة العاملة يتناقض مع قوله إن «الكثير من الدول (والصين أولها وأهمها) يصطف ضد الطبقات العاملة العربية خوفًا من الاضطرابات الحادة لتدفقات النفط، فالتكاليف البشرية للحروب في الدول العربية والتخلف لم تثر يومًا استجابات سياسية عالمية كافية» (ص105). وإذا أضفنا إلى ذلك الممارسات الاقتصادية والسياسية للصين في منطقتنا العربية وما تتسم به من سمات مطابقة لأسلوب النهب الرأسمالي الأمريكي وسكوتها بل وتعاونها مع العدو الصهيوني والطبقات الحاكمة في مجتمعاتنا لوجدنا أن الصين ليست حليفًا لنا بل هي أقرب للحلف الرأسمالي منا.
  • ولا يخلو كتاب قادري من فجوات مثل عدم التفصيل أو السكوت تمامًا عن طبيعة وسائل وأدوات وآليات السياسات التوزيعية التي يطرحها البديل الاشتراكي بما في ذلك أشكال الملكية البديلة وكيفية التقسيم العادل للدخل بين الأجر ورأس المال، وغياب أي حديث عن الشركات العابرة للحدود في التحليل.
  • يحتاج الكتاب إلى تبسيط في لغته ليصل إلى فئة أكبر من القراء؛ ولعل محاولتي هذه تكون نجحت بدرجة ما في تحقيق ذلك، وقد حاولت قدر جهدي أن تصل أفكار قادري للقراء بشكل سلس دون تشويهها لكن صعوبة تغيير المصطلحات تجعلها ربما تكون محدودة.

وهناك الكثير من الاستدراكات الأخرى على بعض الأفكار أعلاه، وأفكار أخرى قام بها مترجم الكتاب وغيره نحيل إلى مصادرها في الهامش لعدم التكرار.

خاتمة 

المناطق العشوائية

هناك كتب لا تجعلك بعدها مثلما كنت قبلها، كتب تحفزك، تدفعك دفعًا للعمل والعلم والاجتهاد والجهاد، كتب قراءتها ممتعة ومؤلمة في نفس الوقت: ممتعة لأسلوبها الشيق وحجتها القوية النابعة ليس فقط من مهنيتها وعلميتها، لكنها قبل ذلك وبعده من روحها الإنسانية التي تخترق كل حرف من كلماتها. وهي مؤلمة لأنها تحملك مهمة تغيير العالم أو بمعنى أصح تعيدك لتحمل مسئوليتك كمسلم في تغيير العالم وليس نفسك فقط وأمتك. 

كتب جدلية متجددة تقرأها مرات ومرات فتخرج منها بالجديد النافع من المعلومة والتحليل، والأهم بتجديد روح الجهاد في سبيل الله والمستضعفين في الأرض، كتب تعيد إليك روحك التي ربما ضاعت في زحام الهزائم الكثيرة على كل مستوى فردي أو جماعي في أمة في نهاية نفق مظلم ينتظرها مستقبل مجهول، أو تؤكد لك صحة موقفك ومتانة اعتقادك وقيمة ما تحمله من عقيدة وما أنت عليه من عزة إيمان مهما تداكت عليك وعلى أمتك المصائب وتكالب عليكم ضباع الأرض يأكلون خيراتكم وينهبون مواردكم ويلبسون عليكم دينكم ويوهنون عزائمكم ويشككونكم في إيمانكم ودوركم وشهودكم على العالمين.

من هذا النوع من الكتب، كتاب علي قادري الذي حاولنا بيان جوهر أفكاره واشتبكنا مع بعض قضاياه وأوضحنا بعض نواقصه. إنه كتاب ماتع، حالم، مؤلم. هذا كتاب يمثلني تمامًا ويمثل كل باحث عن العدل في زمن الجور والطغيان؛ ولو استبدلنا الطبقات العاملة بالمستضعفين في الأرض عمومًا؛ والمسلمين منهم خصوصًا، ولو اطلع قادري على نصوص الإسلام وتمعن فيها وتعمق كما تعمق في نصوص الماركسية لكان كاتب اللحظة التاريخية التي نعيشها بامتياز.

إنه بيان اشتراكي جديد ببصمة عربية في زمن الرأسمالية المتوحشة. وقف فيه علي قادري فوق أكتاف من سبقوه من علماء الاقتصاد متدثرًا بإيمانه الماركسي وتراثه الطويل الممتد من ماركس حتى ماركسيِّي اللحظة حاملًا غضب أجيال عربية كاملة من التردي الحاصل في الأمة مُشرّحًا أحوال المجتمعات العربية مستندًا لحالة القهر التي يعيشها كل عربي متسلحًا بالمعرفة الاقتصادية ليعلن عدم استسلامه لهذا الواقع المرير مقدمًا بديله الشيوعي لحالة الفشل التنموي التي طالت واستطالت وأدخلت منطقتنا العربية في ظلام بهيم من التبعية والفقر والإذلال. 

هذا الكتاب يقول لنا إن الحرب على أمتنا ليست مجرد قنابل ورصاصات تقتل فقط كما هو في غزة وسوريا والسودان واليمن ولبنان وغيرها من المجتمعات العربية، فهذا هو الشكل المباشر الفج للحرب.

الحرب الأقسى والأشد تلك الحرب الصامتة التي تتكون أسلحتها من أفكار تسمم العقول وتلهي النفوس وتدنس القلوب فلا ترى الحياة سوى متع فارغة وطمأنينة كاذبة وأمن موهوم، في حين تحيط بها من كل جانب أنظمة وقوانين وقرارات وإجراءات تفقرهم معنويًا وماديًا وتجعل حياتهم كدًا ومعيشتهم نكدًا وقدرتهم على الوصول للاحتياجات الأولية للبقاء؛ ناهيك عن حاجات النماء والارتقاء، ضربًا من المستحيل؛ حتى يسلم الجميع ويخضعوا لما يراد بهم. الحرب الحقيقية هي التي تهزم فيها أرواحنا وقلوبنا وعقولنا والتي نستسلم فيها ونسلم لأعدائنا بصحة عقائدهم وخطأ أو عدم جدوى عقائدنا وإيماننا، الحرب الحقيقية التي هزمنا فيها عندما تساءلنا عن جدوى إيماننا وإسلامنا فسقطنا من علياء العزة إلى سفول الذل والهوان فسهل على عدونا اختراقنا وتتبيعنا له.

لقد برئ قادري من العمى الأكاديمي الذي وقع في وحله غالب الاقتصاديين بما فيهم الكثير من الماركسيين الذين طوعوا النظرية الماركسية لمقتضيات مصالحهم الضيقة فوقعوا وأوقعوا الطبقة العاملة الغربية في براثن رأس المال في تحالف وقِحٍ ضد الطبقات العاملة المقهورة في الجنوب لقاء حصولهم على فتات توزيع الأرباح الناجمة عن نزح ونهب موارد دول الجنوب. لقد برئ قادري من هذا المرض ورأى الحقائق كما هي؛ لا بعين الوظيفة والراتب والمكانة ولا حتى الانحياز الأيديولوجي الضيق.

ولا يعني التقريظ السابق أن كتاب قادري يخلو من النقص أو جوانب النقد، لا، ليس كتاب قادري خاليًا من العيوب ولا أفكاره مبرأة من النقد ففيه الكثير المنتقد بل والمرفوض، لكن يظل للكتاب رسالة.

ومن ثم فإنه يستحق حوارًا راقيًا بين المدرسة الماركسية التي يمثلها قادري والمدرسة الإسلامية في طبيعة البديل الذي تحتاجه أمتنا في لحظتنا الراهنة: حوارًا راقيًا منتجًا في جوهر القضايا والحجج التي نافح بها عنها، وفي إمكانية التوافق على رؤية مشتركة تصلح لبناء متحد وجبهة عمل تنقذ منطقتنا العربية من مصير مجهول، وحول قوانين وأدوات التفاوت والبناء الاقتصادي والأسس التي يقوم عليها توحش الرأسمالية والأسس الواجب أن تقوم عليها مشروعنا الحضاري التنموي.

ورب سائل يتساءل وما شأن قارئ يحمل المشروع الإسلامي بمثل هذا الكتاب وكاتبه المنطلق من منظور ماركسي لا يأبه كثيرًا للقيمة المعنوية للوحي ولا تجد في ثنايا كتابه كثير اعتناء؟ وهو سؤال وإن كان يبدو وجيهًا ظاهريًا لكنه غير صحيح، فهذا الكتاب يعطي صاحب المشروع الإسلامي زادًا أيَّ زاد لو عقل رسالته: فعندما يقوم صاحب فكر تجاوزه التاريخ وتجربة أثبتت فشلها الذريع ونموذج فقد بريقه في عالمنا بمحاولة إعادة بناء النموذج وبعث التجربة فهو أمر يجعلنا نتساءل ما بالنا نحن كسالى بالمقارنة به وبجهده في بناء ما يريد ويحلم ويحمل من فكر نختلف معه في منطلقاته وإن اتفقنا تقريبًا مع غالب تحليلاته.

 من أولى بهذه الروح التي تملأ كل حرف في الكتاب وتملأ روح القارئ بحلم الانعتاق من الظلم والاستغلال من هؤلاء الذين يحملون المشروع الإسلامي لخلاص المسلمين والعالم.

إن الفائدة الرئيسية من كتاب قادري هي تعبيره عن أهم فكرة في التغيير والقائلة بأن: حياة الأمة وموتها مرتبطان بنظرتها إلى ذاتها، بتمسكها أو تفريطها في عزتها، فمن العزة تبدأ الحياة وبفقدانها تنحل الأمم وتموت وإن طال عليها الأمد. فالتاريخ يحدثنا أن بعث الأمم وموتها مرتبط أشد الارتباط بإدراكها لمعنى وجودها واعتزازها بعقائدها أيًا كانت تلك العقائد، فما بالنا بأمة اصطفاها الله لتحمل رسالاته للعالمين. 

لقد انطلق قادري من نموذجه المعرفي الماركسي واستخدمه ليفهم به واقع التنمية في عالمنا العربي في ضوء علاقاته بالقوى الإمبريالية بقيادة أمريكا، وقام بتشريح الرأسمالية الأمريكية المتوحشة وما فعلته بقارتنا العربية: ناسها وأرضها وبيئتها، ليعلن فشلها وتدميريتها ووحشيتها وليعلن ضرورة الوقوف ضدها من خلال بديله الشيوعي القائم على تحالف الطبقات العاملة، فهل نجد المفكر أو مجموعة المفكرين المسلمين الذين ينطلقون من نموذجنا المعرفي الإسلامي المؤمن بالله ليقدموا لنا وللعالم البديل الإسلامي؟

عماد الدين عويس

باحث في الشؤون الدينية والسياسية، باحث دكتوراه في السياسية العامة، له مؤلفات عديدة من مقالات… المزيد »

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى