مقدمة
المتتبع لأحداث ثورة الشام يدرك أن ثمة أمرًا خطيرا مُبَيَّتا للدفع بقوة اتجاه إجهاض الثورة وفرض حل سياسي يُرضي الغرب، وهو نفس الحل الذي يفرضه الغرب على المسلمين منذ قضائه على الدولة العثمانية، والمتمثل في إقامة دويلة علمانية تحكم بغير ما أنزل الله، تابعة سياسيا وأمنيا للغرب، وتوكل فيها السلطة لطوائف معادية لأهل السُّنة، أي إبقاء نظام الحكم في سوريا على ما كان عليه قبل الثورة التي انطلقت سنة 2011م، مع الفرق أن هذه المرة يُسعى لتغيير تركيبة سكان الشام (والعراق) لِتُرَجَّح كفة الطوائف الكارهة للإسلام ولأهل السُّنة من شتى الطوائف الشيعية والنصيرية والملحدة الخ، حتى تصبح الأقليات غير السُنِّية الحاكمة تستند لحاضنة شعبية تضمن استمرارية سلطانها وخدمتها للغرب في محاربة الإسلام والحفاظ على الكيان الإسرائيلي لمدى طويل. وفي المقابل يستدعي تحقيق هذه الأهداف تصفية الفصائل الثورية السُّنية التي لا تقبل بهذا الحل السياسي وتسعى لإقامة دولة إسلامية.

ولذلك تجد روسيا الإرهابية أعدَّت دستورا علمانيا لسوريا ما بعد الثورة وتطرحه بقوة في مفاوضات جنيف وآستانا، وتجد الغرب ومعه كل الدول العربية وتركيا تعلن أن الأولوية هي محاربة “الإرهاب” وليس إسقاط بشار الأسد (هذا مع العلم أن حتى إزاحة بشار وأعوانه لا تعني إزالة نظام الحكم العميل للغرب).
ولمن لم يدرك بعدُ من هم الإرهابيون، فهم كل من يريد إقامة دولة إسلامية في بلاد المسلمين تحكم بشرع الله ومستقلة سياسيا وأمنيا واقتصاديا عن الغرب.
والغرب كعادته، إلى جانب سياسة الحروب الإرهابية التي يمارسها وسياسة الأرض المحروقة المتمثّلة في قتله الممنهج وبالجملة للمدنيين وتدمير المدن والقرى وكل مرافق الخدمات العامة، يقوم (أي الغرب) بأعمال سياسية يحاول من خلالها خرق صفوف الثوار وشراء الذمم وضمها إليه لِتُسَوِّق لمشروعه السياسي.
ويستعين الغرب بالأنظمة العربية (وعلى رأسها السعودية وقطر والأردن) وبتركيا لتثبيط الثوار عن القتال وللضغط عليهم للقبول بالحل السياسي. فتركيا ومعها الدول العربية ليست لديهم أي رؤية أو استراتيجية سياسية تخرج عن السقف الذي يضعه الغرب، فهي تؤمن إيمانا يقينيا أنه لا يمكن تحدي الغرب والخروج عن طوعه، وبالتالي تثبط هذه الدول الفصائلَ المنخرطة في ثورة الشام، وخصوصا تلك التي يدعمونها سياسيا ويمولوها ويسلحوها، فيخوِّفونها ويفرضون عليها الذهاب لمفاوضات جنيف وآستانا، وينصحوهم أن يقبلوا بالحلول السياسية التي يفرضها الغرب.

ولذلك تجد هذه الدول “الداعمة” لفصائل الثورة، وعلى رأسها تركيا والسعودية، يحركون “المشايخ” و”الأكاديميين” و”الاعلاميين” الذين على صلة (مباشرة أو غير مباشرة) بهم ليُسوِّقوا للحل السياسي الذي يريده الغرب، ومن ثم انطلق هؤلاء في نشر مقالات وأبحاث وإلقاء خطب تسوِّغ بكل الوسائل والأساليب للمشروع السياسي الغربي، والمتمثل في محاربة “الإرهاب” وإقامة دولة مدنية (علمانية).
مع العلم أن هذه الدويلة المدنية لن تكون فيها الهيمنة إلا للشيعة الروافض والنصيرية والملاحدة، فلن يكون فيها أي سلطان للخونة من أهل السُّنة (وعلى رأسهم المشايخ وأمراء الفصائل) الذين يروّجون للدولة المدنية، فلن يخرج هؤلاء الخونة إلا ببعض الصور التذكارية مع أسيادهم “البيض” وسِلالُ أوراقٍ تدَوِّن للتاريخ تغريداتهم ومقالاتهم خطبهم التي مهدت يوما ما استسلام أهل الشام للكفر والكفار وباركته واستساغته، تماما كما دون التاريخ خيانات أسلافهم المرتزقة الخونة!

ولذلك تجد كثيرا من “المشايخ” و”الأكاديميين” و”الاعلاميين” يشنون حربا إعلامية وتحريضية شرسة ضد هيئة تحرير الشام وعلى قائدها العسكري ويتهمونها بالتغلب والسرقة والخيانة وارتكاب جرائم، وتجدهم عن سبق إصرار وترصد يربطون كذِباً الهيئة بالقاعدة ويقدمون بذلك خدمات مجانية للغرب لتبرير إرهابه على المسلمين، فلا أرى هؤلاء “المشايخ” و”الأكاديميين” و”الاعلاميين” إلا أنهم يهيئون الساحة لقرار مبيت يرمي لمحاربة هيئة تحرير الشام وكل الفصائل المغضوب عليها أمريكيا!
والى جانب التحريض ضد هيئة تحرير الشام، تجد “المشايخ” يُسَوِّغون للاستسلام للغرب ولنظام آل الأسد وحلفائه وللقبول بالدولة المدنية العلمانية، ويحاولون إضفاء “شرعية إسلامية” على هذه التسويغات، فيقولون مثلا بأن حفظ النفس مقدم على حفظ الدين، ويجب تأجيل هدف إقامة شرع الله والعمل لإيقاف شلالات الدماء والحفاظ على أي نوع من الحياة ولا يهم إن بقيت الشام تحت نظام كفر تابع للغرب. وذهبوا يروّجون لكلام ما أنزل الله به من سلطان، كَـ “العدل” و”الحرية” أولى من الشريعة، فيقولون الأهم أن تكون الدولة “عادلة” ولا يهم إن كانت كافرة.
فقد غرَّد فِعْلا أحدهم قائلا: [اللهم ارزقنا بدولة كافرة عادلة آمين] (ا.هـ). الخ ….
مَثَلٌ يقول: “المال يحرك الجبال”، وهو كذلك، فالمال والمصالح الدنيوية من وظائف وحظوة اجتماعية بإمكانها زعزعة إيمان أعلم العلماء ولو كانوا يقيمون الليل ويصومون النهار، فيبيعون دينهم بدنياهم {إِنَّ ٱلَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ مِنَ ٱلْكِتَٰبِ وَيَشْتَرُونَ بِهِۦ ثَمَنًا قَلِيلًا ۙ أُوْلَٰٓئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا ٱلنَّارَ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ ٱللَّهُ يَوْمَ ٱلْقِيَٰمَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (174)}(البقرة)، وقال رسول الله: “بَادِرُوا بِالْأَعْمَالِ، فِتَنًا كَقِطَعِ اللَّيْلِ الْمُظْلِمِ، يُصْبِحُ الرَّجُلُ مُؤْمِنًا وَيُمْسِي كَافِرًا أَوْ يُمْسِي مُؤْمِنًا وَيُصْبِحُ كَافِرًا يَبِيعُ دِينَهُ بِعَرَضٍ مِنْ الدُّنْيَا”(صحيح مسلم). اللهم إنا نسألك الثبات على الحق.
انضمام حاكم المطيري لصف “الأردوغانيبن”
ولعل من الشخصيات التي صُدِمنا فيها بانضمامها مؤخرا صراحة لصف “الأردوغانيين” المروجين للحل السياسي الغربي للثورة، هو السيد حاكم المطيري، بنشره لمقال تحت عنوان: “رؤية سياسية شرعية للثورة السورية في ظل التداعي الأممي”!
حاكم المطيري الذي طالما نَظَّر للخلافة والحكم بما انزل الله وألَّف في ذلك كتباً، وحذر من الركون للكفار، خرج الآن بمقالته التي أشرنا إليها لينقُض بصراحة كل ما كان يدعوا له نظريا، ففي مقالته هذه دعوى مبطنة للعلمانية والقبول بحكم علماني وبالحلول السياسية التي يفرضها الغرب عن طريق تركيا-أردوغان {أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ}(العنكبوت).
ومقالة حاكم المطيري هذه تطغى فيها صبغة الوطنية الجاهلية والتسويق لمجالس ومشايخ الضلال كالمجلس الإسلامي السوري، ودعوى للسكوت عن الباطل والمبطلين وعدم التصدي لهم، وتَقَبُّل الرايات العمِّية التي تنادي بدولة مدنية علمانية خاضعة للنظام الدولي!

حاكم المطيري معلوم عنه علاقاته بتركيا وحزب العدالة والتنمية التركي، وعلاقاته بالمجلس الإسلامي السوري (المدعوم من قبل السعودية وتركيا)، فما كتبه المطيري ليس نابعًا عن بحث عن الحق ولا التزاما بشرع الله، ولكن لتسويغ سياسات تركيا وتسويق رؤيتها للحل السياسي لثورة الشام، الرؤية التي وضعتها أمريكا وتساعد تركيا (إلى جانب السعودية وقطر) في تنفيذها، عن طريق “درع الفرات” ومفاوضات آستانا وجنيف، وتثبيط الثوار عن القتال، وصرفهم عن خوض المعارك الميدانية الحاسمة الخ!
محور الحديث في المقالات القادمة
وسأرد في هذه السلسلة على أهم التسويغات التي تناولها المطيري، وذلك بالتطرق للنقاط التالية:
- مفهوم الاستضعاف والعدل، وكيف يُرفع الأول ويُقام الثاني.
- الارتباط الأعمى بتركيا خطر قاتل وتحييد الغرب لا يكون بالتنازل عن الشريعة والسيادة.
- هل هناك حلف فضول في عصرنا، وهل دول الغرب تتعاون على البر والتقوى؟
- التمييع والسلبية: “لا مع ولا ضد” ليست من سُنَّة الرسول والصحابة.
- الوطنية الوثنية والتسويق لمجالس ومشايخ الضلال ولرايات سايكس بيكو العمِّية.
- الإمامة وتطبيق الشريعة.
- افتراءات على وثيقة المدينة.