الدين في حياة الرؤساء والقادة الأمريكيين

لم تكن سياسة البيت الأبيض في يوم  من الأيام بمنأى عن التأثير الديني والاتجاه النصراني المسيحي لساسة الدولة، ويكفي أن نعلم بأن الآباء المؤسسين للولايات المتحدة كانوا قد تأثروا عند كتابة دستور البلاد بتعاليم الكتاب المقدس والقيم المسيحية. حسب ما ذكرت ذلك الموسوعة البريطانية.
كما يبدو واضحا تأثير اليمين الإنجيلي أو اليمين المسيحي منذ سبعينات القرن الماضي على الحزب الجمهوري وهو الذي كان وراء انتخاب جيمي كارتر عام 1976 وجورج بوش الابن سنة 2000.

اليمين المسيحي

هو تحالف غير رسمي يعتمد على البيض الأمريكان، البروتستانت الإنجيليين يدعمهم بشكل متفاوت الكاثوليك المحافظين ثم البروتستانت التقليديين واليهود والمورمون المحافظين.
وهو اليمين نفسه الذي يجهد خلف تعظيم شعائر النصارى في الصلاة في المدرسة وصاحب النظرة المحافظة حول أبحاث الخلايا الجذعية، وهو الذي يقف ضد المثلية الجنسية ووسائل الإجهاض وغيرها من مسائل تعتبر خارج مباح المحافظين.

دور الدين في سياسة الدولة

لاتنفك ملامح الدين تبرز في مظاهر الحكم في أمريكا، فالشعار الرسمي للدولة هو: “إننا نضع ثقتنا في الله.” وهي ذات العبارة التي تم طبعها في العملة الورقية الرسمية للبلاد “الدولار” نجدها مثبتة أيضا خلف منصة الرئيس داخل مجلس النواب الأمريكي وأيضا محفورة فوق مدخل مبنى مجلس الشيوخ. ما يعكس ماهية عقيدة الساسة وكيف يرتبط الدين بسياسة الأمريكان.
وفي قَسَمْ الولاء الرسمي يجب أن يردد الأمريكيون نداء “في عهدة الله” ، دون الحديث عن أعياد ولقاءات الدين الممجدة خلال السنة الواحدة والتي يشارك فيها الساسة الأمريكان بتقديس وانضباط واضح.
فاليوم لا يوجد تقريبا أي مظهر من مظاهر الحياة السياسية إلا ويكاد يتأثر بالدين في أمريكا،

رؤساء مسيحيون

ثم يكفي النظر في تصريحات رؤساء أمريكا على مر الأزمنة واختلاف الأزمات في العالم، كانت تصريحات تنبض بالإيمان المسيحي بامتياز، ومن ينسى تصريحات بوش الابن إبان حرب الخليج وكذا تصريحات بيل كلنتون في حربه على الصومال ومن قبله من رؤساء على رأسهم الرئيس جورج واشنطون في 1789 الذي فور استلامه رئاسة البلاد كرس يوما خاصا لتقديم الشكر والصلاة، لأن الله أنعم على بلاده بحكومة جمهورية تستحق الامتنان. وحين فاز أيزنهاور بمقعد الرئاسة في عام 1953 وصار بطلاً يدافع عن المثل الدينية المحافظة، في خطابه الافتتاحي لاستلام منصب الرئاسة استهلّه بالقول “ هل تسمحون لي أن أتشرف بتلاوة صلاة شخصية قصيرة” ثم استمر لأكثر من دقيقة يتوسل إلى الله طالباً منه نشر التعاون والتفاهم بين الناس ، مهما اختلفت مصادر إيمانهم السياسي” ، وقبل أن يستلم ريغان مقاليد الحكم كان ما يقارب النصف من الخطب الرئاسية تقريباً تنتهي بتعابير الابتهال والتوسل إلى الله ولكنها وبعد تولي ريغان الرئاسة وصلت تلك النسبة إلى أكثر من 90 ٪
ولم يكن حال (رونالد ريجان) إلا مثالا دامغا على هذا التأثير العميق للدين على سياسة أمريكا وساساتها، فقد أعلن بوضوح في سنة 1980م بعد مؤتمر ترشيحه للرئاسة أنه سيؤيد تمامًا الأجندة الأخلاقية لليمين المسيحي، فحظي بدعم غير محدود من منظمة “الأغلبية الأخلاقية” – بحشد ثلاثة ملايين ناخب أمريكي لمساندته في الانتخابات.

دعم اليهود

كما قام ريجان بزيارة المنظمة اليهودية “بناي برث” في واشنطن، وذلك أثناء حملته الانتخابية، وخطب هناك قائلاً: “إن إسرائيل ليست أمة فقط، بل هي رمز؛ ففي دفاعنا عن حق إسرائيل في الوجود، إنما ندافع عن ذات القيم التي بُنيت على أساسها أمتنا”.

والنتيجة كانت نجاح ريجان ليس فقط لدورة انتخابات واحدة بل لدورتين واستمر في الحكم من 1981 إلى 1989م، وكان في كل هذه السنوات -كما يقول الكاتب الأمريكي جيمس ميلز- ينطلق في سياسته من إيمانه بتنبؤات الكتاب المقدس، وخاصة سِفر حزقيال، وما جاء فيه من أن الرب سيأخذ أولاد إسرائيل إلى الأرض الموعودة.
عقيدة الرئيس الأمريكي كانت تكشفها التصريحات العديدة له والتي تعترف بإيمانه بموقعة هرمجدون، ولقاء المسيحيين مع “الكفار” المسلمين، والمجيء الثاني للمسيح، حتى أنه في يوم من الأيام قال لمدير اللجنة الأمريكية الإسرائيلية للشؤون العامة (إيباك)، اليهودي: “عندما أعود بالذاكرة لأنبيائكم الأقدمين في التوراة، والعلامات التي تتنبأ بالمعركة الفاصلة هرمجدون، أجدني أتساءل: إذا كنا نحن الجيل الذي سيشهد وقوعها. وفي الواقع لقد عمل ريجان بصورة دائمة على الالتزام بواجباته وفق ما سماه إرادة الرب، أي العمل بما يحقق نبوءة الرب حتى يعود المسيح ليحكم الأرض. وهذا ما يفسر تركيز ريجان على الإنفاق العسكرى وتردده إزاء مقترحات نزع السلاح النووي ، وهي قرارات اعتمدت على تأثره بالكتاب المقدس.فهرمجدون التي تنبأ بها حزقيال لا يمكن أن تحدث في عالم منزوع السلاح.

وكذا كان حال جورج بوش الأب، ويكفي خدماته العسكرية لصالح اليهود في بلاد المسلمين؛ والتي قدمها لأجل تحقيق حلم هرمجدون.

ثم هدأت لغة الخطاب الديني إلى حد كبير في عهد الديمقراطي بيل كلينتون من 1993 إلى 2001م ، إلا أنها عادت بشكل أبرز من المعتاد في عصر جورج بوش الابن، ليس هو فحسب بكل كل إدارته التي كانت من حوله، وهو الذي أعلن بلا تردد أن اليهود هم الشعب الوحيد الذي اختاره الله، وكان يرى أن الضفة الغربية وقطاع غزة منحة ربانية لليهود لا يجوز التنازل عنها!

وكان يفتتح يومه بقراءة صفحات من الكتاب المقدس. ويكفي ترديده لمقولته التي التصقت باسمه في كل الوثائق والمصادر في حقبة حكمه، حين وصف حربه على المسلمين بأنها حرب صليبية! فهل بعد هذا الوضوح من وضوح!

وعلى خطاه استمر باراك أوباما الديمقراطي الليبرالي الذي أعلن بأنه بروتستانتي ولا يقدر أن يخالف هذه المعتقدات مكرها كان أو راغبا.

وبهذا يتضح لنا أن رؤساء أمريكان كانوا متدينين بعقيدة النصرانية المسيحية وأنهم فقهوا قاعدة أن الدين يُعتبر من أهم المحرِّكات للشعوب فقاموا بتوظيفها كأتقن ما يكون!

بين الشعب والحكومة

لا شك في وجود روح عامة من التديُّن في هذه الدولة منذ نشأتها.. قد تنشط تارة وتفتر أخرى، إلا أن لهذا الدين تأثير على الرؤساء الأمريكيين، كما على الشعب الأمريكي كذلك.
مع العلم أن جميع رؤساء أمريكا في القرن العشرين على طوله كانوا من البروتستانت، باستثناء زعيم واحد فقط كان كاثوليكيًّا وهو جون كيندي، الذي قُتل في ظروف غامضة!
والتنافس على كرسيِّ الرئاسة في أمريكا يكون في الأساس بين الحزبين (الديمقراطي) المشهور بالتحرر والليبرالية إلى حدٍّ كبير، و(الحزب الجمهوري) المشهور بالتحفظ والتدين بشكل عام. في بلد تبلغ فيه الكتب ذات الموضوعات الدينية القائمة الأكثر مبيعًا، وتحظى المؤسسات الدينية بدعم الشعب، خاصة في أوقات الأزمات والمناسبات والأعياد، وتجتذب البرامج التليفزيونية التي تتصل بالدين أعدادًا كبيرة من المشاهدين، دون الحديث عن شهرة المواقع الإلكترونية التي تحظى بعدد من الزوار مهم من بين الأمريكيين، وأضحت المنظمات الدينية أكثر تأثيرا في السياسة الأمريكية.

تأثير الأصول المسيحية

يعود هذا التأثر بالدين سواء ب(البروتستانتية، أو الكاثوليكية) في أمريكا لأسباب مختلفة أهمها أن أصل هذا الدين جاء به النصارى المهاجرون الأوروبيون الأوائل إلى هذه الأرض، فضلا عن أصول التشريع التي تضمنها الدستور الأمريكي بما في ذلك تعديلاته المختلفة التي اقتبست من الكتاب المقدس. أضف لذلك إسهامات المؤسسين الأوائل للولايات المتحدة.
ثم إن تأثير الأصول المسيحية على السياسة الأمريكية يبدو واضحا في خطها الخارجي، من جهة لنظرتها لنفسها في العالم، كأمة رسالية، أو فيما يتعلق بالموقف من إسرائيل، وبقية الدول بحسب خلفيتها الدينية. فالتوافق مع الأوروبيين يحدوه التوافق الديني بعنصريه البروتستانتي والكاثوليكي، والتراث المسيحي المشترك، وكذلك مع اليهود بينما مع العرب فهناك أزمات واضحة متتالية مع كل عصر وحقبة.
المصلحة
هذا لا يعني أن السياسة الأمريكية تعتمد فقط على الأصول الدينية بل أيضا على البعد المصلحي في تفاعلاتها. بحسب ما تشعر أمريكا أن مصالحها الاستراتيجية معرضة للخطر.
وهذا ما يفسر أيضا الازدواجية العلمانية والدين في أمريكا، والتي جاءت عقب ترسيخ مفهوم الحريات الدينية التي تعتبر من مصلحة الأرض التي تحتضن العديد من الأعراق المختلفة، لكي تستفيد منها.
ولعل أبرز أعراض هذا التفاعل مع المسلمين ظهرت عقب الحادي عشر من سبتمبر بعد أن أعلنها بوش حربا صليبية ضد المسلمين.
وهي الحرب التي كشفت عن نمط العلاقة بين البعد القيمي والديني والأخلاقي، من ناحية وبين المصالح وصراعات القوى واستخدامات القوة، من ناحية ثانية، والتي أكدت همجية الأمريكان وعدوانهم وغطرستهم.

نظرة للخلف

قامت سياسة الأمريكان الحربية في كل زمان على محاور واضحة، أهمها كان التبشير وإعداد المواد اللازمة لهذا العمل كالكتب والمواد التي نشرت بكثافة في كل بلاد مستهدفة. وفي حين كان عملهم مركزا على دعوة النصارى لدينهم كان دورهم مع المسلمين التركيز على الجانب الحضاري فعملوا على زرع الانبهار بالحضارة الغربية لخلق تيارات تدين لهم بالولاء الفكري، وأصبحت هذه الإرساليات مقدمة للتوسع الأمريكي في العالم، وأصبح المبشر الأمريكي، أحد أدوات نشر النفوذ السياسي للولايات المتحدة.
أضف لذلك ما يسمى المؤسسات الإنسانية التي تعمل على نشر هيئات الدعم الإغاثي في مختلف بقاع العالم والتي تلعب دورا قذرا لنشر التبشير وللتجسس لصالح الحكومة الأمريكية، وهي أذرع مؤسساتية ساعدت على إخفاء الوجه الاستعماري الأمريكي، باكتسائها ثوب المؤسسات الإنسانية والعلمية، وفى مناخ من الدعوة الأخلاقية،
ثم لدينا الحروب الصليبية التي لم تخلُ من مظاهر الدين في قيادتها.
وهذه كانت أبرز وسائل توغل النفوذ الأمريكي، التبشير والمؤسسات الإنسانية والعلمية والحروب الصليبية والتي تعكس التوجه الديني المسيحي للأمريكان.

فلسطين

ينظر الأمريكان لفلسطين كما ينظر لها اليهود، فهي تمثل لهم موقعا جغرافيا دينيا مقدسا، وهي الأرض التي ولد فيها يسوع وانطلقت منها المسيحية. وكثيرا ما كانت شعارات اليهود تملأ فضاء المساحات الدعائية التي نصادفها في الطرقات ولا زلت أذكر تلك الحملة الدعائية الضخمة التي قادها اليهود لجمع التبرعات من أجل جدارهم العازل وقد لاقت تفاعلا كبيرا وجمعت لهم الأموال!

بحسب النظارة يختلف الوصف

إن المتأمل في خط التحول السياسي الذي عرفته الولايات المتحدة على اختلاف الحقب الرئاسية العديدة التي قادها رؤساء مؤمنون بالمسيحية النصرانية، يجد بلا شك فعالية الجهود الجبارة التي دفعت بها حكومات هذه البلاد لتبشير العالم برسالتها، ويمكن وصف هذه الرسالة بحسب النظارة التي تنظر إلى أمريكا، فإن كانت النظارة مسيحية صهيونية، فهي بلا شك ترى أمريكا “هرمجدون”،وإذا نظر إليها بنظارة التيار التبشيري فهي “مسيحية”، وإذا لبسنا نظارة الليبراليين، فإننا سنراها “ديمقراطية”، أما بالنسبة لنظارة اليمين المتشدد فهي “أمريكا العظمة المهيمنة”. وفي الخلاصة جميع هذه الأوصاف تصب في وصف واحد، أن أمريكا مسؤولة عن إنقاذ العالم وتحديد خطواته كيفما هي تشاء!

ماذا عن أمتنا

لقد حكم الولايات المتحدة رؤساء يدينون بالولاء لبلادهم ويحملون مسؤولية الدفاع عنها وتعزيز مكانتها في العالم، وبالنظر في سيرهم وعطائهم وقبحهم وطغيانهم، نجدهم في المقابل قد التزموا ما يؤمنون به، لم يحيدوا عنه!

فهل لنا أن نحلم بزعماء يحكمون المسلمين يفتتحون يومهم بقراءة صفحات من القرآن الكريم، يدافعون عن الإسلام، ويرددون نبوءات القرآن والسُّنة، ويحسبون حساب يوم الملاحم كما يحسب ترامب ومن سبقه حساب هرمجدون، فنحن أولى بها منهم ونحن دين الحق الذي نزل محفوظا من السماء، لا تجد غير نسخة واحدة من القرآن أينما بحثت في ربوع هذا العالم، بينما لا يتمكن المسيحي النصراني من إخراج نسخة واحدة موحدة لأناجيلهم! إلا وتاهت نفسه بين عدة نسخ محرفة قد بلغ التحريف فيها حد الفظاعة الصارخ!

ليس بقول مسلمة، بل بقول من ارتد عن دينهم وكفر به ممن قابلت في أرض أمريكا النصرانية.

وللحديث بقية!

د. ليلى حمدان

كاتبة وباحثة في قضايا الفكر الإسلامي، شغوفة بالإعلام وصناعة الوعي.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى