اختيارات المحرر

هل تستطيع الخرطوم أن تُبعث من جديد؟ سؤال الإعمار بعد حرب 15 أبريل

في قلب الأحداث التي عصفتْ بالسودان، وفي خضمّ التحولات الكبرى التي طالت ملامح الخرطوم، ينهض سؤال مفصلي: كيف نُعيد بناء مدينة مزقتها الحرب؟ في 15 أبريل 2023، اندلعت شرارة النزاع الدموي بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع، فهوت الخرطوم، عاصمة البلاد، من علياء حضورها التاريخي إلى واقع الخراب والتشظي. بين أنقاض المباني، وأصوات النزوح، وسواد القصف، نشأت في أذهان السودانيين هواجس العودة: هل من الممكن أن تُبعث الخرطوم من جديد؟ وإذا كانت الإجابة بالإيجاب، فبأي أدوات، وأي وعي، وأي رؤية؟ هذا المقال محاولة لتأمل ما بعد الحرب، ونحت تصوّر لما يجب أن يكون عليه الإعمار الحقيقي: ليس فقط عمرانيًا، بل سياسيًا واجتماعيًا وثقافيًا أيضًا.

خلفية الحرب وتأثيرها على الخرطوم

الحرب في السودان

انزلقت العاصمة الخرطوم إلى أتون مواجهة دامية، لم تكن كسابقاتها من الأزمات السياسية. بل كانت حربًا مفتوحة، لم يسلم فيها بشر ولا حجر. امتدت المعارك إلى قلب الأحياء السكنية، والمستشفيات، والمرافق الخدمية، وتحوّلت الأسواق والشوارع إلى خطوط تماس. وفي ظرف أسابيع، تعطلت الخدمات الأساسية تمامًا، وغابت الدولة عن المشهد الميداني، تاركة المدنيين في مهبّ النار والعطش والجوع.

تشير تقارير مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية (OCHA)1 إلى أن ما لا يقل عن 70% من المستشفيات في ولاية الخرطوم خرجت عن الخدمة كليًا أو جزئيًا، وأن حوالي 2.5 مليون شخص نزحوا من الولاية خلال الأشهر الأولى من النزاع. كما تضررت أكثر من 60% من المدارس، بينما خرجت 90% من خطوط الكهرباء والمياه عن العمل. لم يكن الخراب جزئيًا، بل ضرب كل مفاصل الحياة، وترك العاصمة في حالة شلل شبه تام.

ما المقصود بإعادة الإعمار؟

في الأدبيات التنموية، تُعرف إعادة الإعمار بأنها العملية التي تعقب النزاعات أو الكوارث، وتهدف إلى إعادة بناء البنية التحتية، وإحياء النسيج الاجتماعي، واستعادة وظائف الدولة. لكن في حالة الخرطوم، يبدو أن المسألة أعمق بكثير.

فالإعمار لا يمكن أن ينحصر في ترميم الجدران والطرقات، بل لا بد أن يشمل إعادة تعريف العلاقة بين المواطن والدولة، وترسيخ قيم العدالة والمشاركة، ومعالجة المظالم التي كانت خلف الانفجار.

الإعمار الحقيقي يشمل:

  • إعادة الخدمات الأساسية: الماء، الكهرباء، الصحة، التعليم.
  • إحياء الاقتصاد المحلي: عبر دعم المشاريع الصغيرة، وتوفير فرص العمل.
  • إعادة التوطين: بشكل يضمن الكرامة والعدالة.
  • المصالحة المجتمعية: وردم فجوة الانقسام الاجتماعي والسياسي.
  • تخطيط عمراني جديد: يراعي التوازن الجغرافي والبيئي ويكافح العشوائية.

من المسؤول عن إعادة الإعمار، وما أدواته؟

إعادة الإعمار في الخرطوم

الإعمار مشروع جماعي، لا تحتكره جهة واحدة. الدولة مسؤولة بطبيعة الحال، لكن لا بد من إشراك القطاع الخاص، والمجتمع المدني، والمغتربين، والمنظمات الدولية. كل هؤلاء يجب أن يتحركوا ضمن إطار موحد، يتميز بالشفافية والحوكمة.

ويقترح الخبراء تأسيس هيئة وطنية مستقلة لإعادة الإعمار، تعمل بشراكة مع الولايات، وتتمتع بصلاحيات واسعة في التنسيق، وجلب التمويل، والإشراف على المشروعات. كما أن إشراك الجامعات ومراكز البحث في رسم الخطط التنموية ضروري لبناء نموذج متين ومستدام.

ووفق وكالة رويترز في تقرير من 28 مايو 2025، فإن التقديرات الرسمية تشير إلى أن إعادة بناء الخرطوم وحدها قد تصل إلى نحو 300 مليار دولار، في حين أن السودان بأكمله قد يحتاج إلى ما يقارب 1 تريليون دولار.2

الخرطوم: من الكارثة إلى الفرصة

رغم ما في الحرب من مآسٍ، فإنها كشفت عن هشاشة النسيج الحضري للمدينة، وعدم عدالة توزيع الخدمات، والعجز الكبير في أنظمة التخطيط. وقد تكون الكارثة مدخلًا لمراجعة كل شيء. هل يمكن أن نعيد بناء الخرطوم بشكل جديد؟ مدينة خضراء؟ رقمية؟ عادلة في توزيع المدارس والمراكز الصحية؟ تتسع للريف والحضر؟

تجارب دول مثل سراييفو، وكوسوفو، ومدينة كيغالي بعد الإبادة، أظهرت أن الإعمار لا يعني فقط بناء ما تهدم، بل إعادة تصور المدينة والإنسان. المطلوب ليس فقط أن تعود الخرطوم، بل أن تعود أفضل.

تجارب إعادة الإعمار في مدن ما بعد الحرب: كيغالي أنموذجًا

إعادة إعمار كيغالي
كيغالي عاصمة رواندا

تُعد تجارب مدن مثل سراييفو، كوسوفو، وكيغالي بعد الحروب والإبادة الجماعية، نماذج حية ودروسًا علمية ثمينة لفهم كيف يمكن للمجتمعات أن تنهض من تحت الركام وتعيد بناء نفسها، رغم التحديات الهائلة.

وبالنظر إلى تجربة كيغالي كنموذج، فإنه في عام 1994، شهدت رواندا إبادة جماعية أودت بحياة حوالي 800 ألف شخص في غضون 100 يوم فقط، خلفت دمارًا شاملاً للبنية الاجتماعية والاقتصادية، وخرابًا مدمرًا لكيغالي العاصمة.

الدمار والتحديات

  • تدمير هائل للبنية التحتية، المرافق العامة، والمؤسسات الحكومية.
  • انهيار كامل للنظام السياسي والاجتماعي.
  • فقدان الثقة بين مكونات المجتمع بشكل عميق.

عملية إعادة الإعمار

انطلقت رواندا بخطى حثيثة في إعادة الإعمار، بتركيز خاص على:

  • العدالة والمصالحة: محاكم “غاتشاكا” الشعبية لتحقيق المصالحة.
  • التخطيط الحضري: إعادة بناء كيغالي بشكل منظم وحديث، مع تركيز على النظافة، الرقمنة، والمساحات الخضراء.
  • التنمية الاقتصادية: وضع خطط استراتيجية مثل رؤية 2020 و2040 للتحول الاقتصادي.
  • التعليم والصحة: تطوير أنظمة تعليمية وصحية قوية لتعزيز الكفاءة البشرية.

نتائج عملية الإعمار

  • أصبحت رواندا من أسرع الدول نموًا في أفريقيا.
  • عادت كيغالي عاصمة نظيفة ومنظمة، نموذجًا للتحضر الحديث.
  • تحقق استقرار سياسي نسبي رغم بعض التحديات.
  • تعزيز روح الوحدة الوطنية والثقة بين السكان.

تشير هذه التجربة3 إلى أن إعادة الإعمار ليست مجرد إعادة ما تهدم، بل هي فرصة لتصحيح الأخطاء القديمة وبناء مجتمعات أكثر عدلاً واستدامة. ومع وجود إرادة سياسية صادقة، ودعم مجتمعي ودولي منسق، فإن الأمل في النهوض يبقى حاضرًا، حتى في أحلك الظروف.

تحديات مشروع الإعمار في الخرطوم

لكن الطريق ليس معبّدًا. من أبرز التحديات:

  1. غياب الاستقرار السياسي: لا يمكن للإعمار أن يتم في ظل فوضى.
  2. ضعف المؤسسات المحلية: التي لا تملك الخبرة ولا الموارد.
  3. عدم الثقة المجتمعية: الناتج عن سنوات من الفساد والتهميش.
  4. هجرة الكفاءات: التي تركت البلاد هربًا من الحرب.
  5. شح الموارد: إذ يعيش السودان أزمة اقتصادية خانقة.
  6. لذلك، لا بد من إصلاح سياسي شامل يسبق أو يواكب أي خطة إعمار. بدون ذلك، ستنهار أي جهود كما انهارت من قبل.

ما الذي يمكن فعله الآن؟

رغم الصعوبات، فإن هناك خطوات عملية يمكن اتخاذها:

  1. مسح شامل للأضرار، لتحديد أولويات التدخل.
  2. إشراك المجتمعات المحلية في التخطيط.
  3. إطلاق حملات دعم من السودانيين في المهجر.
  4. فتح المجال للمبادرات الشبابية في البناء والمصالحة.
  5. توثيق الأرشيف الحضري والثقافي؛ حمايةً للذاكرة.
  6. التواصل مع شركاء دوليين، بشفافية واستقلالية وطنية.
انظر أيضًا: الصراع في السودان .. التداعيات ومسارات التسوية

خاتمة: الخرطوم.. ميلاد جديد ممكن 

جسر-توتي-الخرطوم
جزيرة توتي بالخرطوم

إن الخرطوم لا تحتاج إلى إعادة بناء هندسية فقط، بل إلى إعادة بناء في الوعي والوجدان. فالمباني يمكن أن تُرمم، لكن ما لم تُرمم الثقة، وتُؤسس قيم العدالة والشفافية، فلن ينجح الإعمار.

الخرطوم قادرة على أن تنهض، لا لأن فيها أطول نهر أو أكبر سوق، بل لأن فيها قلوبًا ما زالت تنبض بالأمل، وعقولًا لم تتوقف عن الحلم. لنجعل من الألم فرصة، ومن الأنقاض بداية، ولنقل جميعًا: نعم، الخرطوم يمكن أن تُبعث من جديد، إذا أردنا نحن أن نكون الجيل الذي يكتب ميلادها الثاني.

هوامش

  1. Sudan, OCHA ↩︎
  2. Sudan war shatters infrastructure, costly rebuild needed ↩︎
  3. RESHAPING URBANIZATION IN RWANDA, Economic and Spatial Trends and Proposals ↩︎

ترتيل إبراهيم

باحثة في التخطيط والتنمية. بكالوريوس علوم الجغرافيا والبيئة جامعة الخرطوم. المزيد »

مقالات ذات صلة

‫2 تعليقات

  1. لعل دول الخليج التي منحت المجرم الاميركي ٤٠٠٠ مليار ان يساهموا بشيء علهم يردون ماء الوجه امام شعوبهم والمسلمين عموما

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى