6 نقاط تُعرّفك أسباب ضعف الحسّ الدعوي لدى الأفراد
ما بالُ الرجلِ يعرف مناهج الصلاح، ويُبِصرُ طائفةٌ من قومه يتهافتون على عَماية، أو يَهيمون في جهالةٍ، ولا تنهض به الهمّة ليعمل على إفاقتهم من سكرتهم، وإراءتِهم معالم فوزهم؟!
بهذه الكلمات الشديدة الوقع على كلّ مُسلم مُهتمّ لأمر أمته -المأسوف على حالها- بدأ شيخنا وإمامنا علّامة المغرب العربي شيخ الزيتونة وجامع الأزهر محمد الخضر حسين –رحمه الله تعالى رحمة واسعة– كلامهُ في وصف أسباب هبوط منحنى الإصلاح والدعوة من قِبَل القائمين عليها سواءً علماء أو جماعات أو أفراد.
ففي هذا المقال سنُحاول أن نختصر لك أيها القارئ الكريم هذه الأسباب، التي ربما تفيد من هو مهتم بالدعوة خاصةً الشباب الذين ينتمون إلى حقل الدعوة والله المستعان.
يُطرِد شيخنا الكريم في وصف أسباب هبوط منحنى الدعوة في عصرنا هذا فيقول: أخذنا نبحث عن هذا التقصير الذي أصاب رجال الدعوة، وأخذنا نُدير النظر في البحث كَرّتين، فرأينا مدار عِلّته الفاقرة على أحد عشر سببًا، سنذكر نحن هنا منهم ستة أسباب نراها تختصّ بالدرجة الأولى بالقائمين على الدعوة أفرادًا؛ منتمين أو غير منتمين إلى جماعات تعمل في حقل الدعوة؛ وهي كالآتي:
1- تثبيط هِمّة الداعية من أقرانه بدعوى استشراء فساد الزمان.
أن يقوم الرجل بالدعوة والإصلاح، فلا يجد ممّن فيهم الكفاية مساعدًا، وربّما أدخلوا في قلبه اليأس، وسدّوا باب الأمل في وجهه، مُتكئين على دعوى فساد الزمان، وعدم إفادة النصيحة عند غلبة الفساد، وهو الخاطر الذي يَسُرُّ أعداء الأدب أن يستقرّ في نفس كُل مؤمن، فيجدوا من خمول أهل العلم وكسلهم؛ ما ينشط بهم إلى أن يُنادوا للخروج على الفضيلة وهم آمنون!
2- استبداد الرؤساء وخوف عوام الدعاة من بطشهم.
إن في الرؤساء مَن تجمح بهم أهواؤهم عن ناحية العدل، ولا يرقبون لفضيلة العفاف عهدًا، فيكيدون لكل مَن شأنُهُ الدعوة والإصلاح؛ لكيلا يتعرّض لسيرتهم، أو يتطاول إلى نقد سياستهم.
هذا الضرب من الاستبداد: يُلقي في النفوس الضعيفة حذرًا بالغًا، ويَقلِبُ العارفين بطُرق الإصلاح إلى حال الغافلين عنه، فتراهم ينظرون إلى الفساد يتقلب في البلاد كأنهم لا يُبصرون.
قد يُعذَر أمثالُ هؤلاء من عوام الدُّعاة أفرادًا –وليس العلماء- في عدم التعرّض لأحوال الرؤساء المُستبدّين، حيث اعتقدوا أن خوضهم فيها يسوقهم إلى عقوبة لا طاقة لهم بها.
ولا عُذرَ لأحد في الصمت عن التذكير جُملةً، إلا إذا بلغ هؤلاء المُستبدّون أن يضعوا عقوبتهم على ظهر كل من ينهى عن منكر، ولو لم يكن له صلة بسياستهم الجائرة، ولعّلك لا تجد في أنباء الدول من يتخبّطه شيطانُ الاستبداد، حتى يسطو على كل من ينطق بالحكمة والموعظة، وواجب العلماء أن يقوموا بالإصلاح والإرشاد في دائرة الإمكان.
3- أن يجد الفرد الداعية في سيرته سيئة فتؤثر في أدائه.
أن يجد الداعية في سيرته سيئة أو سيئات، فتُلقي في نفسه الذلّة والرهبة، ويترك الإرشاد والدعوة؛ حذرًا من أن يلمزه بها الناس حين يقوم بينهم مقام الواعظ الأمين.
والعادة: أنّ من يخرج للناس في ثوب داعية، وقد علقت بسيرته وصمة؛ لم يلبثوا أن يُذَكِّروه بها ويُنشدوه:
يا أيّها الرّجلُ المعلّمُ غيرهُ **** هلَّا لنفسكَ كَان ذا التعليم
فينبغي للعالم أن يكون ذا نفس زكيّة، وساحة نقيّة؛ حتى لا يكون الخلل في سيرته كالشجا يقف له في لهاته، ويمنعه من هداية المسرفين، وعلى أي حال كان: لا يليق به الإحجام عن الإرشاد؛ فإن ما يعرفه له الناس من زلل؛ قد يصرف عنه وجوه العامّة، ويَقعُدُ بهم عن سماع موعظته، أما الخاصّة؛ فربما انتفعوا بدعوته الموصولة بالحجة، أو بيان الحكمة.
4- الشفقة تفيضُ في فؤاد الرجل.
الشفقة تفيض في فؤاد الرجل؟ لعلها تطغى على حُبّه للإصلاح، فتردّه عن أمر الشخص بصالح فيه كُلفة.
والشفقة: كسائر الفضائل التي يخرج بها الإفراط إلى ما لا يُسمّى فضيلة! وقد نهى القرآن عن مثل هذه الشفقة الطاغية؛ فقال تعالى : “الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ ۖ وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ“.
فالحدود والنظم وُضِعت لحفظ المصالح واستيفاء الحقوق، فيجب أن لا يكون للرأفة الداعية إلى الإخلال بشيء من إقامتها: أثرٌ يُرَى.
وأخرج ابن جرير في ” تاريخه” عن سالم: أنّ عمر بن الخطاب –رضي الله عنه- كان إذا صعد المنبر فنهى الناس عن شيء؛ جمع أهله فقال: إني نهيتُ الناس عن كذا وكذا، وإنّ الناس ينظرون إليكم نظر الطير، وأقسم بالله لا أجدُ أحدًا منكم فعله إلا أضعفتُ عليه العقوبة؛ لمكانه منّي!
5- حياء الداعية من دعوة المُستحقّ للدعوة.
أن يكون المستحِقُ لِأن يُوجّه إليه الداعي أمره ونهيه: مثل أبٍ مطاع، أو مُعلّم محترم، أو صديق مُقرّب، فيبلغ به الحياء منه والاحترام لمقامه أن يسكت عن دعوته المثمرة، بنسبته إلى جهالة أو خطيئة.
وفيما قصّه اللهُ علينا من موعظة إبراهيم –عليه السلام– لآزر وتسميته أبًا: ما يُرشدنا إلى أنّ الأبوة لا تمنع من الأمر بمعروف، أو النهي عن منكر، ولكنّ الأبّ يستحق من أدب الخطاب، ولُطف الموعظة أكثر ممّا يستحقُ غيره.
وفي قصة موسى والخضر –عليهما السلام-، واتّباع الأول للثاني بصفة مُتعلّم، ثم إنكاره عليه خرق السفينة وقتل الغلام وإقامة الجدار: عِبرة للمتعلّمين والمعلمين، فللمتعلمين حقّ الإنكار، وعلى المعلمين أن لا يستنكفوا.
6- ترك الدعوة خوفًا من الرياء.
عِلّة نادرة؛ ولا ندري هل بقيَ لها من أثر إلى هذا اليوم؟! وهي: أنه كان في الناس من يبدو له أن يترك بعض أعمال الخير؛ حذرًا من أن يُخالط قصده الرياء والتطلّع للسمعة، فيقلص نور إخلاصه، ويفوته ثواب الله في الآخرة.
وتركُ الدعوة بمثل هذا الوسواس: ورعٌ خادع، وما على العارف بالإصلاح إلا أن يُجاهد نفسه، ويأخذها بأدب الإخلاص ما استطاع. ومخافة الرياء تجاه فائدة الدعوة إلى صالحٍ: لاغية.
تبقى لنا خمسة أسباب أخرى، ولكنها تخصّ القائمين على الدعوة علماءً وجماعات تعمل في حقل الدعوة، سنذكرهم في مقال قادم إن شاء الله.
المصادر
كتاب الدعوة إلى الإصلاح للعلامة الحسن الخضر.