السيادة الجماعية أم الهيمنة المقنّعة؟ قراءة في مستقبل الشرق الأوسط

يشهد الشرق الأوسط تحولات جذرية تتجاوز الصراعات التقليدية وتعيد تشكيل خريطة النفوذ الإقليمي. في خضم هذه التحولات، ظهرت نظرية “السيادة الجماعية”، التي تفترض أن المنطقة تتجه نحو نظام جديد تتشارك فيه القوى الكبرى -مثل السعودية، الإمارات، تركيا، إيران، ومصر- في إدارة شؤون المنطقة، بترتيب يشمل دعمًا من روسيا والصين، ويمتص إسرائيل ضمن هذه المنظومة ككيان تابع لا مهيمن. 

لكن، هل هذه النظرية واقعية؟ وما الذي يدعمها؟ وما العوائق التي قد تحول دون تحققها؟ والأهم: كيف يمكن لأمتنا الإسلامية أن تستفيد من هذه التحولات بدلاً من أن تبقى مجرد متلقٍ للقرارات التي تُصنع خلف الكواليس؟

النظرية وأسسها: هل الشرق الأوسط يتجه نحو نظام جديد؟

خريطة الدول العربية

يستند مؤيدو فكرة “السيادة الجماعية” إلى عدة مؤشرات، منها:

  • تقارب الخصوم الإقليميين: شهدنا خلال السنوات الأخيرة تحولات غير متوقعة، كالتقارب السعودي-الإيراني برعاية الصين، وتحسن العلاقات بين تركيا ومصر، مما يشير إلى رغبة في تقليل الصراعات والانخراط في شراكات استراتيجية.
  • تراجع النفوذ الأمريكي: سياسة الانسحاب التدريجي للولايات المتحدة من المنطقة، والتركيز على صراعها مع الصين وروسيا، سمح لقوى إقليمية بإعادة ترتيب أولوياتها وبناء تحالفات أكثر استقلالية.
  • تنامي الدور الروسي والصيني: سواء عبر “البريكس”1 أو مبادرات الحزام والطريق2، هناك محاولات واضحة لخلق نموذج اقتصادي-أمني جديد يُنهي عقودًا من الهيمنة الغربية المطلقة.
  • التعاون الأمني والاقتصادي المتزايد: مشاريع ضخمة مثل الممر الاقتصادي الذي يربط الهند بالشرق الأوسط وأوروبا، تعزز من فكرة تقاسم الأدوار بين القوى الإقليمية لضمان الاستقرار.
  • محاولات إسرائيل لإعادة التموضع: توسع إسرائيل في الجولان، وتعزيز نفوذها بين بعض الأقليات السورية، يوحي بأنها تدرك أنها على وشك خسارة دورها كحليف استراتيجي مهيمن للغرب في المنطقة، وتحاول فرض وقائع جديدة قبل أن تُجبر على التكيف مع النظام الجديد.

العوائق والتحديات: لماذا قد لا تتحقق هذه النظرية؟

لكن، على الرغم من هذه المؤشرات، هناك عقبات قد تعيق تحقق هذا النموذج:

  • التنافس الجيوسياسي بين القوى الإقليمية: رغم المصالح المشتركة، فإن النزاعات العميقة بين إيران والسعودية، وتركيا ومصر، لم تُحل بشكل جذري، وما زالت المصالح تتصادم في ملفات مثل سوريا واليمن وليبيا.
  • غياب مشروع موحد: لا يوجد حتى الآن إطار واضح يمكن أن يُترجم هذا التعاون إلى كيان منظم شبيه بالاتحاد الأوروبي، أو حتى بتحالف فضفاض مثل “بريكس”.
  • استمرار النفوذ الغربي: رغم تراجع الولايات المتحدة، إلا أنها لا تزال تمتلك أوراقًا قوية عبر قواعدها العسكرية، وعبر نفوذها الاقتصادي والدبلوماسي الذي يمكن أن يستخدم؛ لإفشال أي محاولة لإعادة ترتيب الإقليم خارج منظومتها.
  • الموقف الإسرائيلي: فكرة تحول إسرائيل من قوة مهيمنة إلى دولة تابعة يصعب تصورها حاليًا، لأنها ستقاوم بشدة أي نظام يجردها من نفوذها الاستراتيجي.
  • الهشاشة الداخلية للدول الإقليمية: معظم القوى الكبرى في الشرق الأوسط تواجه تحديات داخلية، سواء اقتصادية أو سياسية، تجعلها غير قادرة على لعب دور القائد الإقليمي المستدام.

كيف تستفيد الأمة من هذه التحولات؟

طوفان الأقصى وإدراك اللحظة الفارقة

سواء تحقق نموذج “السيادة الجماعية” أو ظل مجرد نظرية، فإن الأهم هو كيف يمكن للأمة الإسلامية أن تستفيد من هذه التغيرات بدلاً من أن تظل متلقية للقرارات. هناك عدة نقاط يجب التركيز عليها:

  • بناء الوعي الاستراتيجي: لا يمكن للأمة أن تتعامل مع هذه التحولات دون إدراك عميق للواقع الجيوسياسي، وهذا يتطلب تعزيز الدراسات والأبحاث التي تركز على تحليل القوة والنفوذ في المنطقة.
  • تعزيز القوة الاقتصادية: بدلاً من انتظار مخرجات التكتلات الإقليمية، يجب على الدول الإسلامية تعزيز التعاون الاقتصادي الحقيقي فيما بينها، وتقليل الاعتماد على القوى الخارجية.
  • دعم مشاريع الاستقلال التكنولوجي: لا يمكن الحديث عن سيادة حقيقية دون امتلاك القدرة على التصنيع، والتكنولوجيا، واستقلال القرار الاقتصادي.
  • تفكيك الخطاب الاستسلامي: فكرة أن الأمة لا تملك دورًا في تشكيل مستقبلها يجب أن تُرفض؛ فالتاريخ يُثبت أن الفاعلين الحقيقيين هم من يصنعون التغيير، وليس من يكتفون برد الفعل.
  • عدم السقوط في فخ الاختيارات الصفرية: بدلاً من النظر إلى التحولات وكأنها إما “فشل كامل” أو “انتصار كامل”، يجب البحث عن فرص جزئية يمكن استغلالها لصالح الأمة، بغض النظر عن هوية اللاعبين على الساحة.

السيناريوهات المحتملة وأصلحها للأمة

نحن أمام عدة سيناريوهات محتملة:

  • إذا تحقق نموذج “السيادة الجماعية”، فإن الأمة بحاجة إلى الانخراط فيه بذكاء، لضمان عدم تحول هذا النموذج إلى مجرد “إمبريالية إقليمية جديدة”.
  • إذا فشل هذا النموذج واستمرت الهيمنة الغربية، فإن البديل هو بناء تحالفات إسلامية أكثر استقلالًا، تعزز السيادة الحقيقية بعيدًا عن الاستقطاب الدولي.
  • إذا نجحت إسرائيل في فرض نفوذها عبر التخريب الداخلي لدول المنطقة، فإن التصدي لهذا المخطط يجب أن يكون أولوية قصوى، لأنه يمثل إعادة إنتاج لمشروع الهيمنة الصهيونية بأدوات جديدة.

الخاتمة: صناعة المستقبل بدلاً من انتظاره

الأمة الإسلامية

سواء كنا أمام “شرق أوسط جديد” أو مجرد إعادة ترتيب للنفوذ، فإن السؤال الأهم هو: هل سنكون جزءًا من صناعة المستقبل أم مجرد متلقين لما يُفرض علينا؟ التغيرات الكبرى ليست قدَرًا محتومًا، بل هي نتاج تفاعلات القوى المختلفة، ومن يملك الوعي، والإرادة، والقدرة على الفعل، هو من يحدد الاتجاه النهائي.

قد يكون أمامنا فرصة ذهبية لإعادة تشكيل موقع أمتنا في هذا النظام العالمي، لكن ذلك لن يحدث دون تخطيط، وعمل، ورؤية واضحة لما نريد تحقيقه، بعيدًا عن الشعارات والانفعالات العابرة. فالذين يصنعون التاريخ ليسوا أولئك الذين يراقبون الأحداث، بل الذين يستثمرونها ليُعيدوا رسم المشهد وفق ما يخدم مصالحهم.

هامش

  1. مجموعة البريكس هي منظمة دولية تضم عشر دول هي البرازيل وروسيا والهند والصين وجنوب أفريقيا ومصر وإثيوبيا وإيران والإمارات العربية المتحدة وإندونيسيا. ↩︎
  2. هي مشروع استراتيجي أطلقه الرئيس الصيني شي جين بينغ عام 2013، يهدف إلى تعزيز الربط التجاري والاقتصادي العالمي من خلال إنشاء شبكة من البنى التحتية والممرات البرية والبحرية تربط الصين بآسيا، وأفريقيا، وأوروبا. ↩︎

علي جاد المولى

كاتب مصري ومهندس نظم مقيم في تونس، حاصل على بكالوريوس الهندسة من جامعة الأزهر، وشهادة… المزيد »

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى