حكام المسلمين ولعبة الكلمات المتقاطعة عن القدس والخطوط

غريب حال الحكام المتحكمين في المسلمين، والأغرب حال السَّمَّاعين لهم من المسلمين!

يقول أحد الحكام -وهو أردوغان-:” القدس خط أحمر.”، ويردد معه حكام آخرون جمعهم في قمة استثنائية سمَّوها زورًا مؤتمر “إسلامي”؛ سنعترف بفلسطين دولة على حدود 26 صفر 1387هـ (4 يونيو 1967م) وعاصمتها القدس الشرقية]، ويعود الحاكم الأول -أردوغان- ليؤكد أنه:” سيفتح سفارةً لبلده في القدس الشرقية، عاصمة فلسطين”.

استغربتُ لمَّا صفَّق كثير من الناس لعبارات حكامهم هذه الغير مفيدة، وتطايَرُوها بالتهليل والتبشير، وجعلوها وَسْمًا يتداولونه. فأول ما يتعلمه الطفل في الروض هو أن يتحدث بجمل مفيدة، فكيف يتحدث حكامٌ بجمل غير مفيدة ثم يصفق لها جمهورهم؟

انتظرت وانتظرت لعل الحكام يتمموا عباراتهم التي أطلقوها؛ لتصبح جملًا مفيدة يفهمها كل من لم تنحرف فطرته. انتظرت ليبينوا كيف سيعاقبوا -مثلًا- من تخطى خَطَّهم الأحمر، أو كيف سيجعلوا من فلسطين دولة بحق على أرض الواقع. لكن لم يصدر منهم شيء، فقُلت لعلها من جديد لعبة الكلمات المتقاطعة التي تعَوَّد الحكام إطلاقها منذ عقود؛ ليشغلوا بها الناس ويُسَلُّونهم بها، فدأبت أحل لغز كلماتهم المتقاطعة…

الكلمات المفقودة بين عبارة [القدس خط أحمر]

فـ”الخط الأحمر” ليس عبارة مشاعرية تُطلق في الخُطب، وليس عبارة يطلقها كل من هب ودب، ولا وَسْمًا يُطلق في وسائل التواصل الاجتماعي، وليس خطًّا يُرسم بقلم أحمر على الورق، ولكن الخط الأحمر ترسمه الدبابات والطائرات والصواريخ وصفوف الجنود من الرجال الشجعان المدججين بالسلاح؛ لتحيط كل هذه القوة بالهدف الذي لا يجوز للعدو الاقتراب منه، وتطرد من اقتحمه أو يحاول اقتحامه.

فالخط الأحمر هو الذي سطره مثلًا جيش محمد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حين غزى “خيبر”، وقضى عليها؛ بسبب دسائسهم وتحريض الأحزاب ضد المسلمين، وإثارة بني قُرَيظة على الغدر والخيانة بالعهد الذي كان بينهم وبين الرسول، واتصالهم بالمنافقين في المدينة، وبسبب تآمرهم لاغتيال الرسول – صلى الله عليه وسلم -.

الخط الأحمر هو الذي سطره الرسول وجيشه على قلاع بني قينقاع؛ حين تعدى يهودي منهم على امرأة مسلمة وكشف عورتها، فحاصرهم الرسول -صلى الله عليه وسلم-، وأجلاهم عن المدينة.

الخط الأحمر هو الذي سطرته مثلًا بريطانيا حول جزر الفوكلاند سنة 1402هـ (1982م) التي تبعد عنها بآلاف الكيلومترات، وكانت تتمتع بحُكمِ ذاتي تحت تاج ملكة بريطانيا؛ حين اجتاحتها الأرجنتين عسكريًا لتحررها وتسترجعها، فحرّكت بريطانيا أسطولها البحري والجوي، وهزمت الجيش الأرجنتيني شر هزيمة، وطردته، واسترجعت الجزر تحت سيادتها.

الخط الأحمر هو الذي سطره مثلًا الجيش الإسباني سنة 1423هـ (2002م) حول جزيرة ليلى (جزيرة تورة) التي تقع في مضيق جبل طارق؛ حين أنزل المغرب بضعة جنود على شواطئ الجزيرة المتنازع عليها، فتحرك الجيش الإسباني وحاصر الجزيرة بَرًّا وجوًا، وألقى القبض على الجنود المغاربة، وأكد سيادته على الجزيرة.

فـ”الخط الأحمر” ليس لَوْنًا يُرسم بقلم أحمر أو بمُحَمّرات الشفاه، ولا عبارة تنطقها الشفاه، ولا شعارات تُرفع على اللافتات، ولا وُسوم تنتشر على وسائل التواصل الاجتماعي…، ولكن “الأحمر” كناية عن الدم، و”الخط” كناية عن القوة والسلاح والجيش؛ كناية عن حد السيف.

فقد صدق أبو تمام الطائي حين رد على المرجفين الذين حذروا الخليفة العباسي، المعتصم بالله، من غزو عمورية سنة 223هـ (838م)، أحد أهم معاقل الدولة البيزنطية وأشدها حصانة، وأكد -أي أبو تمام- في أبياته الشعرية الخالدة على أن الحرب وحدها هي سبيل المجد، وفرض الأمر الواقع:

السَّيْفُ أَصْدَقُ إِنْبَاءً مِنَ الكُتُبِ     في حدهِ الحدُّ بينَ الجدِّ واللَّعبِ
بيضُ الصَفائِحِ لا سودُ الصَحائِفِ     في مُتونِهِـنَّ جَـلاءُ الشَـكِّ وَالرِيَـبِ

(بيضُ الصَفائِحِ: كناية عن السيوف، وسودُ الصَحائِفِ: كناية عن كلام المنجمين).

الكلمات المفقودة بين ألفاظ عبارة [الاعتراف بفلسطين دولة]

فكما هو شأن [الخط الأحمر]، كذلك هو شأن إعلان قيام دولة؛ فالدول لا تنشأ على الورق، ولا بالإعلان بالعبارات عن قيامها، ولكن الدول تنشأ ويُعلن عنها حين تتوفر فيها مقومات الدولة، والتي من أهمها توفرها على قوة مسلحة ضاربة، تصد بها أعدائها من الدول، وسيادتها التامة على أراضيها، واستقلالها التام في سياساتها الداخلية والخارجية، واتخاذها كل قراراتها حسب ما تقتضيه مصالحها الذاتية، وليس حسب إملاءات ورغبات دول أخرى.

فكيف تكون فلسطين دولة وشعبها -بما فيهم ما تسمى الحكومة الفلسطينية والرئيس والوزراء- لا يستطيعون التحرك، والسفر إلا بإذن “إسرائيل”؟ كيف تكون دولة ولا يحق لها امتلاك حتى مطار أو ميناء تتحكم هي في من يدخل ويخرج منهما؟

كيف تكون فلسطين دولة، والجيش “الإسرائيلي” يدخلها متى شاء، ويلقي القبض على من شاء من أبنائها، حتى أفراد حكومة حماس والبرلمانيين ألقت عليهم إسرائيل القبض وزجت بهم في سجونها.

(هذا مع التأكيد على أن الهدف الشرعي ليس إقامة دويلة فلسطينية وطنية كسابقاتها من الدويلات الوظيفية؛ التي أنشأها الغرب على أنقاض الخلافة العثمانية، ولكن الهدف هو إعادة فلسطين لحضن خِلَافَةٍ على منهاج النبوة، خِلَافَة جامعة لجميع المسلمين في أمة ودولة واحدة، ففلسطين لن تحرر إلا بعد أن يقيم المسلمون خلافتهم الراشدة).

اقرأ أيضًا: ماذا تريدون من القدس أيها المسلمون؟!

الكلمات المفقودة بين ألفاظ أردوغان أنه [سيفتح سفارةً لبلده في القدس الشرقية، عاصمة فلسطين]

فكما هو شأن [الخط الأحمر]، وشأن [الاعتراف بفلسطين دولة]، كذلك هو شأن [إعلان القدس عاصمة لفلسطين]، سواءً القدس الشرقية أو الغربية، أو كلها غير مجزأة، فإعلان مدينةٍ عاصمةً لا يكون على الورق ولا بالشِّفاه، ولكن إعلان مدينة عاصمة لدولة يستوجب أولًا إيجاد الدولة بالشروط والمقومات التي سبق ذكر أهمها، ويستوجب أن تكون المدينة التي يُراد اتخاذها عاصمة تحت سلطان الدولة وهيمنتها.

فلم أرى حماقة ودَجَلًا مثل إعلانِ شخصٍ مدينةً (أو نصف مدينة)، ليس له سلطان عليها، عاصمة لدولة ليست موجودة أصلًا، ولا سلطان له على الأرض المزعوم قيام الدولة عليها!

فكيف يريد السيد (أردوغان) فتح سفارته في القدس الشرقية؟ هل يريد نقل مُعدات السفارة في سفينة “مرمرة ثانية”، يقتحم بها القدس ويهزم الجيش الإسرائيلي ويبني سفارته بالقوة على أرض القدس؟

إذا كانت “مرمرة الأولى” التي لم تكن تنقل إلا مساعدات إنسانية الى غزة، أوقفها الجيش الإسرائيلي وهي في المياه الدولية، وأعدم عشرة أتراك عليها، ولم يستطع (أردوغان) الرد عليها، فكيف يمكن لأردوغان إقامة سفارة له في القدس الشرقية التي هي تحت هيمنة وحكم إسرائيل؟

(يجب هنا التأكيد على أن القدس إن كان لها أن تكون عاصمة، فهي عاصمة الأمة وعاصمة الخلافة الراشدة القادمة، وليست عاصمة دويلة فلسطين على حدود سايكس بيكو. فما فلسطين إلا جزء من ولاية الخلافة الراشدة القادمة بإذن الله، جزء من ولاية الشام).

كانت هذه حلول الكلمات المتقاطعة؛ التي تحدث بها حكام البلدان الإسلامية، وإلى اللقاء مع كلمات متقاطعة جديدة، فما أكثرها!

فاروق الدويس

مسلم مُتابع للأحداث في البلدان الإسلامية خاصة، يحاول المساهمة في معركة الأمة المصيرية بأبحاث ومقالات… More »

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى