القضية الفلسطينية في أزهى أزمنة التجزئة

رأينا في المقال السابق “حال الصهيونية زمن الخلافة والسلطان عبد الحميد الثاني المُفترى عليه“، أن دولة الخلافة في أضعف حالاتها تمكنت من “الحد من (الهجرة اليهودية) والحفاظ على عروبة فلسطين” كما تصرح الدكتورة فدوى نصيرات بنفسها (ص95)

فماذا فعلت دولة التجزئة في أزهى أيامها؟

كان توقيع اتفاقيات الهدنة بعد حرب النكبة اعترافاً عربياً ضمنياً بالكيان الصهيوني [1]، ثم طالب مندوبو الدول العربية للمرة الأولى بتنفيذ قرار التقسيم ووقعوا بذلك ميثاقاً مع لجنة التوفيق التابعة للأمم المتحدة في سنة 1949 [2]. أما سياسة الثورة المصرية فتم التصريح عنها في إجابات بعض قيادات مجلس الثورة على تساؤلات رجال السفارتين البريطانية والأمريكية عن نياتهم تجاه الكيان الصهيوني، فكان الرد دائماً أن الأولوية المطلقة للقضايا الداخلية كالجلاء والاستقلال والتنمية “أما قضية فلسطين فليست على أجندة مجلس قيادة الثورة الآن” [3]. وكما يقول الدكتور رءوف عباس المتخصص في تاريخ مصر:

لم يكن الدخول في حرب ضد إسرائيل يوماً ما على جدول أعمال عبد الناصر، بل صرح ذات مرة في خطاب علني أنه ليس مستعداً في الدخول في حرب ضد إسرائيل إذا سعت لجرنا إليها [4].

شعارات رنانة دون خطط عملية

ويضيف إنه رغم غياب الخطة العربية لتحرير فلسطين، ظل التحرير شعاراً تردده الأنظمة العربية دون أن تعنيه، بما في ذلك مصر، ورغم أن ثورة يوليو من تداعيات النكبة 1948، فإنها لم تعمل على تحرير فلسطين. ورغم أنها رفضت الصلح مع الصهاينة، فإنها كانت ترى أن تحقيق التحرير واجباً عربياً جماعياً. ومن هنا نشأت دبلوماسية مؤتمرات القمة العربية التي كانت سلبية تماماً، وكان الخط السياسي المصري والعربي هو المطالبة بتطبيق قرارات الأمم المتحدة بالتقسيم والعودة أو التعويض [5].

ما بعد النكسة

nakba_2_1433519476

وبعد تورط مصر في فخ النكسة حدث تحول جوهري بمجرد القبول بالقرار 242، إذ أصبح الخط السياسي هو التركيز على تحرير الوطن (سيناء) وإنهاء حالة الحرب مع الصهاينة مع محاولة التوصل إلى تسوية مناسبة لحقوق شعب فلسطين في إطار تسوية شاملة إن أمكن ذلك [6]، ثم توافق جميع الزعماء العرب التقدميين والرجعيين منذ سنة 1982 في قمة فاس على مشروعي الأمير فهد والرئيس بورقيبة القائمين على التسليم بالشرعية الدولية التي تمنح أكثر من ثلاثة أرباع فلسطين (78%) للصهاينة في ظل حدود آمنة ومعترف بها، ودخل الرجعي والتقدمي في مفاوضات السلام منذ مؤتمر مدريد (1991) ومنذ ذلك الوقت أصبح التعبير عن السلام بصفته خياراً استراتيجياً من لوازم السياسة العربية (1996) ومازالت المبادرة العربية (2002) هي الخيار العربي الوحيد لدى الثوري والتقليدي.

الموقف العراقي

وعلينا أن نذكر في هذا السياق أن موقف العراق نفسه كان أصغر كثيراً مما حملته إياه الجماهير العربية، فبعد التهديد الشهير الذي أطلقه الرئيس صدام حسين في الأول من إبريل/نيسان/ أفريل 1990 مقسماً بحرق نصف إسرائيل لو اعتدت على العراق، جهد رحمه الله في توضيح موقفه للولايات المتحدة بوساطة سعودية وأكد أنه لا ينوي مهاجمة الكيان الصهيوني وأن تصريحه كان يتحدث عن الدفاع عن النفس فقط وأن ما يهمه هو عدم تعرض العراق لهجوم إسرائيلي. ثم أكد الرئيس لوفد الكونغرس الأمريكي الذي التقاه في الموصل بعد ما يقارب الأسبوعين نفس المضمون وأنه يسعى للأمن والسلام في العالم وفي المنطقة، وأن على أي حكيم يتولى حكم إسرائيل أن يحقق السلام الآن وليس بعد عشر سنوات. وأوضح وزير الخارجية الراحل طارق عزيز للوفد أن المشكلة هي في عدم وجود غورباتشوف إسرائيلي، أي شخصية تصالحية. وفي لقاء الرئيس مع السفيرة الأمريكية يوم 25 يوليو/ تموز/ جويلية أكد لها أن العراق “لا يهدد أحداً” ولا يقبل التهديد من أحد [7].

طموحات عالية من دول التجزئة انتهت بالتطبيع

عبد الحميد

ما حدث بعد ذلك يدل على تعنت الغرب ورفضه لغة السلام المتكافئ أكثر مما يدل على ثورية أنظمتنا وتطرفها المزعوم، وليس الهدف من سرد هذه الحوادث هو التخوين بل التأكيد على أن التجزئة لا تناسب طموحات أمتنا مهما خلصت نوايا القائمين عليها والمتولين أمورها. ونغض النظر عن سياسة الاسترضاء بل التحالف التي انتهجتها أخيراً دول التجزئة تجاه الصهاينة وضد فلسطين، وعن التطبيع الذي وافقت عليه تركيا بثمن أبخس مما طالب به السادات ومن تبعه في أزمنتهم، فإن الدلالة واضحة منذ البداية: أن دولة التجزئة في المحصلة لم تتمكن على طول تاريخها مما أنجزته دولة الخلافة في أسوأ أيامها حين حدت من الهجرة اليهودية وحافظت على عروبة فلسطين باعتراف أشد منتقديها تطرفاً، أليس هناك إذن سبب وجيه للأثر الذي تركه حكم السلطان عبد الحميد في ذاكرة شعوب الدولة العثمانية عامة وفلسطين خاصة وأقرت الدكتورة بوجوده (ص 49)؟

مدى صدق النقد الموجه للسلطان عبد الحميد

بعد اطلاعنا على موقف السلطان عبد الحميد الذي استحق النقد القاسي من وجهة نظر مخالفيه رغم صلابته، وموقف دولة التجزئة التي تم تبجيلها باسم التقدم والحداثة بل والإسلام أيضاً رغم تخاذلها، من حقنا التساؤل عن مدى عدالة تلك التقويمات؟ وهو جور يتضح من الرغبة الجامحة في إدانة السلطان إلى درجة التناقض في الأحكام التي أصدرتها الدكتورة نصيرات عليه، وهو ما يلقي بظلال من الشك على مجمل فكرتها العامة:

لا يمكن القول إن عبد الحميد الثاني لم يكن يتوقع أن موافقته على بيع أراض محدودة في فلسطين لليهود، تكون بداية لتهويد فلسطين، فإن مثل هذا التفسير يبعد من السلطان صفات السياسي الحصيف المحنك بعيد النظر، وقد أجمع جمهرة من المؤرخين على أنه كان على حظ موفور من هذه السجايا

هذا ما قالته حضرة الدكتورة في ص 94، ولكنها عادت في ص 232 لتنقض حكمها هي بالقول:

وتجيب الدراسة (أي كتابها) عن سؤال: هل كان النشاط الصهيوني بعلمه (أي بعلم السلطان) أم لا؟ وما لا يدع مجالاً للشك ” نعم بعلمه “، ولكن انعكاسات الأمر جاءت بشكل سلبي على الوضع في فلسطين وبصورة لم يتوقعها السلطان نفسه ” (!)

فأي القولين نعتمد ونصدق؟ وهل من المعقول أن القولين المتناقضين بنيا على أدلة علمية؟ وهل بنيت بقية أحكام الكتاب بنفس التسرع؟ ألا نلاحظ أن الجامع بين القولين المتناقضين هو الرغبة الجامحة في إدانة السلطان: فهو يعلم عندما نريد إدانة نواياه المستورة، وهو لا يعلم عندما نريد إدانة نتائج أفعاله غير القابلة للتصور، أي أن المهم هو الإدانة مهما كان السبب ومهما كان الدليل، أليس من الواجب أن نقارب تاريخنا بحرص أكبر قبل القيام بتشريحه بهذه القسوة غير العلمية؟

النتيجة

تؤكد حوادث القرن الفائت أن سقف التوقعات من دولة التجزئة كان أعلى بكثير من إمكاناتها المتواضعة في موضوع القضية الفلسطينية. وهو كذلك في كل التحديات التي طرحت نفسها على أمتنا منذ إلغاء الخلافة التي كانت رمز وحدتنا، كالوحدة والتحرير والتنمية والعلاقات الخارجية، وأن هذا السقف ظل يهبط باستمرار منذ توقعنا التحرير والعودة قبل نكسة 1967 إلى أن أصبحت توقعاتنا هي الحصول على كيس اسمنت وكيس طحين، لنقبل اليوم مزهوين “بالانتصار” ما رفضنا أفضل منه بالأمس بصفته انكساراً. وهذا ليس دليلاً على غياب الحكمة بالأمس بقدر ما هو دليل على بؤس الوضع الذي سادت فيه التجزئة التي قادتنا من هزيمة إلى أشد منها، مع أن لنا خيارات أفضل منها بشهادة التاريخ الواقع.

الوحدة في أسوأ حالاتها والتجزئة في أزهى عصورها

maxresdefault

وفي نفس الوقت كانت الوحدة في أسوأ حالاتها أفضل من التجزئة في أزهى عصورها كما تشهد حوادث القضية الفلسطينية أيضاً. ولن تتغير أحوالنا قبل تغيير الثوب المرقع تغييراً كاملاً. ولست هنا بصدد تحميل أحد فوق طاقته، ففي النهاية هذا هو منطق التجزئة وما يقدر عليه في ظل الإمكانات المتفرقة المتواضعة والالتزامات الدولية الكابحة وهيمنة الدول الكبيرة المعادية. المهم هو أن تعي جماهير الأمة بإمكاناتها العملاقة هذه الحقيقة فتنهض بمسئولياتها على قدر طاقاتها هي لا طاقة العاجزين من حكامها، وتخرج من خيارات الهزيمة التي تعرض عليها وتعرف أنها ليست مجبرة على الاختيار بين النكسة والنكبة وأن أمامها ما هو أفضل من ذلك بكثير، وأن نجاتها لن تتحقق بأي رقعة من رقع التجزئة الحالية.


الهوامش:

[1]-رءوف عباس، صفحات من تاريخ الوطن، دار الكتب والوثائق القومية، القاهرة، 2011، ص 251.

[2]-دكتور حسن صبري الخولي، سياسة الاستعمار والصهيونية تجاه فلسطين في النصف الأول من القرن العشرين، دار المعارف بمصر، 1973، ج 1 ص 800.

-رءوف عباس ، ص 332.

[3]-رءوف عباس، ص 328.

[4]-نفس المرجع ، ص 348.

[5]-نفس المرجع ، ص 251 و 340-341.

[6]-نفس المرجع ، ص 251.

[7]- Majid Khadduri & Edmund Ghareeb, War in the Gulf, 1990-1991: The Iraq-Kuwait Conflict and Its Implications, Oxford University Press, 1997, pp. 100-111.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى