أمتنا بين ثراء النظرية وضعف التطبيق
كنت أبحث عن موضوع تربوي وتطبيقاته في ضوء السنة النبوية، فوجدت عددًا لا بأس به من المصادر والأوراق البحثية التي تناولت الموضوع وأصّلت له بشواهد من السيرة المطهرة. فخطر ببالي حينئذ كيف يمكن تحويل هذه الثراء المعرفي إلى مشروعات عمل متميزة، ثم تذكرت حين كنت أتصفح يومًا بعض مواقع الأبحاث والدراسات القرآنية وكيف أثار في نفسي الإعجاب والتقدير ذلك العدد الكبير من الدراسات في قضايا معرفية وتأسيسية، تربوية ونفسية، والمستمدة من مصدري الوحي، القرآن والسنة، حينها عدت إلى أرض الواقع لأسأل نفسي، عن هذا الوعي المعرفي المتراكم وهذه الكنوز التربوية التي تنطلق من أساس متين، ما بالها تبقى حبيسة أوراقها ولا تتحول إلى حياة نراها على الأرض كما يحدث عند أمم الأرض الأخرى.
إن أكثر ما نحتاج إليه في مرحلتنا هذه هو الفكر، الفكر الأصيل المتوازن، فلدينا فكر متجمد توقف عند مرحلة ما ويرفض مغادرتها، ويصر على أن ما كان مناسبًا له سيناسب من سيأتي بعده، ولدينا فكر تابع يحرص على اقتباس ما وصل إليه من غيرنا من دراسات ورؤى تنتمي إلى عالمه ثم يأتي ليبحث عن شواهدها من مصادرنا ليضع بصمة باهتة تزين ما اقتبسه لا ما أنتجه. أما المفكرون والباحثون الذين يقدرون لهذه الأمة قدرها ويريدون أن يعيدوها إلى دورها ورسالتها التي اختصها الله بها، فقد كان نتاجهم أصيلًا مبدعًا يدرك حاجات الواقع في إطار من ثوابت الأمة، ونستطيع أن نستخرج منه من المناهج والتطبيقات ما تنصلح به كثير من المجالات.
لكن الفكر وحده ليس كافيًا لصناعة تغيير عملي ينقل الأمة من حال إلى حال، فالأفكار تحتاج إلى وسط تترعرع فيه وتغدو واقعًا معاشًا، فما الذي يقف حائلًا بين استخراج تلك الأفكار الأصيلة من حبسها في الأوراق وتحويلها لرؤى واضحة ورسالة تعلن عن نفسها وتتغير بها العقول والأفهام؟
أسباب غياب التطبيق
تأملت فيما كان سببًا لغياب التطبيق لما تزخر به مكتبتنا البحثية بعيدًا عن الأسباب التي ليست بأيدينا فوجدت أبرزها يتلخص في الآتي:
قلة القادة المؤثرين: فإن كل فكرة وكل نظرية تهفو لأن تجد لها من يقيم بها حياة ويؤسس بها منهجًا تطبيقيًا، لكن من يقيم لها تلك الحياة غير أفراد عاملين لا يهابون التجربة ولا يأنفون من الخوض في الدروب الوعرة التي تكتنفها. وأعني بالقادة أولئك الرجال أصحاب الهمم الذين يحملون الأمة في صدورهم، فلا ينطقون ولا يفكرون إلا بما ينفع المجموع، ولأجيال ستأتي بعدهم وترى بذلهم وجهدهم قائمًا ينتفعون به ويعلون به.
ضعف روح المثابرة: كم رأينا من مشروعات وكم بدأنا نحن وغيرنا في بناء، ثم لم نلبث حتى استثقلنا تكاليفه وأرهقنا بمتطلباته من الجهد والطاقة والمادة المبذولة دون ثمرة ما تزال في رحم الغيب، فتركنا الدرجات الأولى تراكم التراب وتنوح على زميلاتها التي لم تر النور، ثم ولينا وجوهنا شطر فكرة أخرى تلوح لنا في الأفق وقد تلقى مصير سابقتها أو تنجو منه.
فالزهد في استكمال البناء حتى يقوى ويشتد والاستسلام سريعًا للمشتتات والمعيقات من الداخل أو الخارج إحدى آفات غياب التطبيق الفعلي لأفكار ونظريات ودراسات تكاد تبكي من طول حبسها دون الاستفادة منها.
قلة التعاون: أما ذلك فكم هدم أفكارًا كانت ما تزال بذرة تجاهد كي تنبت لها جذرًا في الأرض، فكثير من الأفكار بينهما رحم واحدة يمكن أن تشد بحبل وثيق فتنتج عملًا واحدًا قويًا متينًا، لكن الشقاق والرغبة في السبق والتنافس من أجل الاسم والصورة يوهن الروابط ويصدعها ونرى بسبب بذلك ضعفًا يكتنف الأعمال الفردية التي كانت تحتاج سندًا لها من آخرين تتكامل بهم التجربة أو دعمًا من عقول تتفق في الرؤية وتضيف إبداعًا في الوسائل والأدوات.
غياب الأولويات: يحتاج أي مشروع أو برنامج ليخرج إلى نور الحياة إلى مُؤْنة مادية ومعنوية. ولا يتم ذلك إلا بشعور طاغ بأهمية هذا البذل ورغبة تامة في رؤيته بناء مرتفعًا للسماء، فتكون له الأولوية عما سواه. فإذا غلبت هموم الحياة العادية، واقتصرت النظرة على عمر الإنسان القصير، لم يتوفر القلب المتوقد والذهن المنشغل بالأمر، وهذا سبيل ضياع الفكرة وإجهاض فرص ظهورها للحياة.
ولا يمنع تلك الآفات أن تكون هناك ثمة مشاريع نفعية وبرامج تربوية وأروقة تعليمية وغيرها من قد نجت وارتفع سوقها لتظلل الرائحين والغادين، منها تلك البرامج العلمية الموجهة للناشئة والشباب التي رأينا سوقها الممتد في السنوات الأخيرة والتي تعاون فيها عدد من العاملين الصادقين الذين يقدمون علمهم وجهدهم احتسابًا لله ونفعًا للأمة. لكن ما نرجوه أوسع من ذلك وأعم فالطاقات متوفرة، والأفكار مبسوطة هنا وهناك وليس إلا العمل وبذل الجهد والمثابرة حتى تبدأ البراعم الصغيرة في الإنبات، وإن الثغور كثيرة ومتشعبة ولا يكاد يُدرك خطرها ولا من أيها نصاب، فكلها أبواب تلج منه السهام والضربات.
فكيف يمكن تجاوز تلك العقبات حتى تزهو الأرض بباسقات تلوح للناظرين من بعيد وتبهج أنظارهم فيقبلوا متلهفين على ما لدى الأمة من خير وهدى؟
معالم على طريق التطبيق
هذه بعض أفكار قد تسهم في إنارة الطريق للإفادة مما لدينا من علم وفكر:
تحديد الأولى بالبحث والتأصيل: لاريب أن الأجدى للباحث والمفكر المسلم أن ينطلق في بحثه ودراسته من بيئته وواقعه، وألا يخضع لإغراء الاستزادة من الموضوعات التي لن تضيف جديدًا أو تحدث فارقًا عمليًا في مجتمعه. فإنه متى راعى ذلك فإن توافق ما اهتدى إليه مع حاجة مجتمعه وبيئته إليه مما ييسر سرعة تحويل أفكاره إلى مشاريع ناهضة تصلح فسادًا أو تزيل جهلًا أو تقدم وعيًا أو تنشئ نظامًا ضابطًا له سوابقه وأصوله الشرعية التي تهاون بها أو نسيها الناس.
نشر الوعي الكامل بالفكرة: فليس بالضرورة أن يكون صاحب البحث الفكري أو التأصيل الشرعي قادرًا على وضع رؤاه موضع التنفيذ، بل قد يكون الأقدر على ذلك من ليس له طاقة على البحث والتأصيل، بل ذلك في الغالب ما يحدث حيث يكون الأكثر قربًا من الواقع وقدرة على تنفيذ ما تنضح به عقول الباحثين من فكر أصيل هم المشتبكون من هذا الواقع، المدركون لاحتياجاته وآفاته وأولوياته. فإذا نشر الباحث فكرته وعرضها على وسائط متعددة، كان بالإمكان أن يجد من المهتمين العاملين من يقول أنا لها ويشرع من فوره في إنباتها في تربتها الصالحة.
جمع الأفكار المتشابهة معًا: فإن كثيرًا من الأبحاث والمناهج التي اجتهد أصحابها في استخراجها من النبع نقية صافية قد تقع تحت موضوع أو مجال واحد، يسد هذا خلل ذلك فتتكامل الرؤية ويصبح تنفيذها واستخراج البرامج العملية منها أيسر وأوقع، وهذا ثغر قد يهتدي لسده من يملك تلك الرؤية الأفقية التي تجمع الشبيه إلى شبيهه وترد الفرع إلى الأصل، حفظًا للجهود أن تتفرق في أعمال متشابهة تشتت المتابعين وتعوقهم عن تركيز الدعم أو الإفادة من مشروع متكامل يسع الجميع.
إحياء التطوع في البناء والتأسيس كما في الفكر والتأصيل: فما أكثر الكلام في منتدياتنا وأروقتنا الثقافية، على الرغم من أن عددًا لا بأس به مما يُطرح كقضايا للنقاش أو البحث أو الدراسة -مما تكرر فيه القول وصار من المعلوم بالضرورة- فتح المجالات والمنصات للإفادة بالقول ولعرض الدراسات مما أغرى بالإيغال في ذلك الأمر، وأنسى بالتالي حق هذا القول من العمل والظهور.
لذلك فإن تحويل تلك الأفكار والدراسات الموثقة إلى ما تنصلح به أحوالنا مما يجب أن تُوجه إليه المنصات والمواقع البحثية، وقد تصل لذلك عبر دعم التطوع العملي وإذكاء التنافس المحمود فيه بمسابقات أو فعاليات محفزة، فذلك ولا شك باب يمكن أن يلج منه ضعيفو الهمة وقليلو الدافعية، أو المنشغلون ومن هم في حاجة إلى دَفعة أولية.
التحفيز بنشر تجارب الأفكار والتجارب البناءة: فإن الخير يعدي، وإن رؤية برنامج ناجح أو مدرسة تربوية أو منهج بناء فكري متأصل أو غير ذلك من مجالات الإنجاز المعتبرة، مما يجذب أنظار أصحاب الرؤى ويجدد نشاطهم ويغريهم ببذل الجهد ليروا غراس أفكارهم متاحًا قريب المنال. ولا بأس أن تطرح خطوات التنفيذ أو تصاغ الخطط والمقترحات وتُقدم لمن لا يحسن تفكيك فكرته أو مشروعه الفكري ويكون ذلك مما يؤجر فيه الجميع.
ختامًا
إن ما يسرج نور الأمل في القلب وما يوجعه في الوقت ذاته أن تراثنا زاخر وحاضرنا ثري ووفير، وإنك لتجد في قسم واحد من مجالات التربية مثلًا أو علوم القرآن أو فهم النفس وإصلاح الأمة وغيرها ما لا يحصى من الأبحاث والتأصيلات والتطبيقات المناسبة لها في عصرنا، وما بقي إلا أيد متوحدة تؤثر نفع أمتها على المصلحة الفردية والوقتية، وتقبل بتقليل أوقات راحتها وإنفاق الكثير من علمها وجهدها لأجل بث الحياة في تلك التطبيقات وإبرازها في مجالاتها كمشاريع أو مناهج وبرامج رائدة.
بارك الله مسعاك ونفع بك الأمة