اختيارات المحرر

يا أيها الإنسان الحديث، أيها الإنسان الشيء.. ما أتعسك!

في مؤلفه البديع “العاقل: تاريخ مختصر للنوع البشري”، الذي يسرد فيه يوفال نوح هاراري بأسلوب فريد تاريخ نشوء وتطور الإنسان عبر آلاف السنين وصولًا إلى عصرنا الحالي، يتوصل الكاتب في نهاية الكتاب إلى خاتمة صغيرة لكنها كبيرة في الدلالة والمغزى، وهي باختصار تساؤلٌ طرحه بعد أن وقف على ما حققه الإنسان بعد أن تمكن عبر هذا التراكم التاريخي الهائل من إحكام سيطرته نوعًا ما على محيطه، وزيادة الإنتاج الغذائي، وبناء المدن الحديثة، وخلق شبكات تجارة واسعة. والسؤال هو: هل تمكن هذا الإنسان بعد كل ذلك الجهد من تقليل كمية المعاناة في العالم؟ 

كان الجواب للأسف هو: لا. فعلى الرغم من الأشياء المدهشة التي استطاع البشر إنجازها، إلا أنهم لا يزالون غير متأكدين من أهدافهم، ولا يزالون غير راضين عن أنفسهم أكثر من أي وقتٍ قد مضى. فلماذا إذن حُكم على الإنسان، برغم كل النجاح الحضاري الذي أحرزه، بهذا الفشل الوجودي؟!

 الوعد الخلاصي الكاذب للنهضة العلمية

الواقع هو أنّ النهضة العلمية التي تحققت في العصر الحديث قد أدت إلى انتشار حالةٍ من التبشير، تفيد بأنّ التراكم المعرفي العلمي والتقدم التكنولوجي والتنظيم التكنوقراطي الدقيق سيجعل الإنسان قادرًا على التحكم في ذاته وفي واقعه تمامًا، وأن يتوصل إلى حلول لمشاكله كافة. ومما زاد في انتعاش هذه الرؤية الخلاصية، التي تكشَّف زيفها فيما بعد، سيطرة النظام الرأسمالي ذي الفلسفة المادية كإيديولوجيا حاكمةٍ للعالم.

 قلب الأولوية: من الإنسان إلى المادة

وتتمثل أخطر سمات هذه الإيديولوجيا في ترسيخ رؤية متمركزة حول الطبيعة/المادة، بدلًا عن الرؤية المتمركزة حول الإنسان باعتباره كائنًا مركبًا متعدد الأبعاد، صاحب وعيٍّ تاريخيٍّ ومنظوماتٍ قيمية، لا يمكنه العيش دون هدف أو غاية؛ يعيش كفردٍ في العالم الطبيعي لكنه متميز عن بقيته ومتجاوزٌ له. في حين أن الرؤية الأولى ترد الإنسان إلى طبيعةٍ ذات حتميةٍ أحادية البعد لا غائية؛ حيث لا يشغل فيها الإنسان أي مكانةٍ خاصة.  

تحتم هذه الرؤية قانوناً طبيعياً واحداً يسري على كل الكائنات؛ ومن نتائجها: إنسان لا يتحرك سوى في إطار المرجعية المادية، كائن خاضع لحتميات السوق، وذو بعد واحد ينتج ويستهلك، ويدخل في علاقات تعاقدية مجردة، لا في علاقات تراحمية مركبة.

تشيؤ الإنسان وفقدان الذات

تشيؤ الإنسان وفقدان الذات

إننا، والحالة هاته، نصبح أمام مواطن حديث مُدَجَّن إلى درجة من التشيؤ بلغ معها قمة التجريد عبر فقدان الذات والاستسلام أمام عالم الأشياء. إنه “الإنسان الشيء”، الذي يُسكت أي مشاعر إنسانية وأخلاقية، ويركز جُلّ اهتمامه لا على المضمون الأخلاقي لفعل ما، وإنما على كيفية الأداء وما يعتقد أنه سيراكمه من منفعة مادية ولذة، دون أن يعي أنه ضحية عملية إغواء وإيهام بأنّ ما يرغب فيه ويركض خلفه هو تجلٍّ لحريته وقرارٌ حرٌّ نابعٌ من داخله، بينما هو في الحقيقة سلوك نابع عن عملية تدجين وتوجيه لخدمة النظام وتنفيذ أغراضه.

آليات التوجيه: من القمع الخارجي إلى الاستبطان الداخلي

مع تصاعد نفوذ مؤسسات وأنظمة الدولة، زادت مقدرتها على توجيه الأفراد وإرشادهم. فإن كانت المؤسسات “البرانية” (المخابرات والشرطة) تقوم بتوجيه الفرد بغلظة من الخارج، فإن المؤسسات “الجوانية” (التعليم والإعلام) تقوم بترشيده من الداخل بشكل لا يشعر هو به، حتى يصل به الأمر إلى تَمثُّل، ثم استبطان رؤية الدولة. 

ينظر الفرد حينها إلى نفسه باعتباره جزءًا من آلة كبرى؛ فتصبح مهمته هي التكيف البراغماتي مع دورانها. إنها أعلى درجات التجريد التي تجعل القيمة الأخلاقية شيئًا مستبعداً؛ فالمسؤولية هنا تصير “فنية تكنوقراطية” وليست مسؤولية أخلاقية.

 الاستعمار وتجريد البشرية جمعاء

لقد انطلقت عملية تفكيك الإنسان إلى عناصره المادية لاستخدامها كوسيلة أداتية على أكمل وجه مع انطلاق التجربة الاستعمارية الغربية بشقيها الاستيطاني والإمبريالي، حيث تم تحويل العالم بأسره -من خلال نظام عالميٍّ جديدٍ- إلى مادة استعمالية في خدمة دول الغرب. والمفارقة العجيبة هي أنّ هذه المقاربة الإمبريالية الشاملة لم تفرِّق في نهاية الأمر بين شعوب آسيا وإفريقيا، بل وحتى شعوب العالم الغربي نفسه؛ فالجميع قد أضحى “مادةً بشريةً” بمقياس واحد، سقفه ماديٌّ ودوافعه ماديةٌ وأهدافه ماديةٌ كذلك. 

 الاستعمار وتجريد البشرية

وفي المحصلة، ينتج عن كل ذلك أفراد مجبرين على أن يشغلوا أماكن محددة ومقررة، وأن يقوموا بأدوار مرسومة لهم مسبقًا في بيئة آلية همها الأكبر هو الفعالية الاقتصادية، لكن على حساب الحرية الفردية، وبما يحوّل المجتمع إلى قفص حديدي يعيش داخله إنسان استهلاكيٌّ تعيسٌ مُجرَّدٌ من المعنى، يحدد أهدافه كل يوم ويغير قِيَمه بعد أدنى إشعار يأتيه من وسائل الاستلاب والتوجيه الرسمية.

طريق الخلاص: استعادة الطبيعة البشرية المركبة

الحقيقة هي أنه لن يتم التحرر والخلاص من هذا المأزق الوجودي سوى باسترجاع مفهوم الطبيعة البشرية ككيانٍ مركبٍ لا يمكن أن يردَّ إلى النظام الطبيعي/المادي ولا أن يُسوَّى مع الأشياء المادية. حينها فقط سيتم استرجاع القيم الإنسانية والأخلاقية، بما يعيد الاعتبار لحِسِّ الإنسان الخُلقي وحِسه الجمالي وقلقه وتساؤله عن الغايات؛ وهي كلها أحاسيس لا يمكن بحال تفسيرها على أساس مادي يختزل الإنسان في بعد وحيد دون سواه من باقي الأبعاد.

إن استعادة مفهوم الطبيعة البشرية يبدأ من إدراك أن الإنسان ليس محض صدفة مادية، بل هو كائن مستخلَف، يحمل أمانة القيم التي استمدها من مصدر متعالٍ عن المادة. فالحل ليس في الهروب من الطبيعة، بل في العودة إلى الفطرة التي توازن بين احتياجات الجسد الطيني وأشواق الروح، وهو ما يحرر الإنسان من قيد “التشيؤ” ليعيده إلى مقام “التكريم الإلهي”.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى