ليس صحابيا…!
علَّقتْ بهذه الكلمة طلبا ألا تكون الكلمات الموجهة للصغار واليافعين وحلقات العلم -التي تستهدف جذبهم للمسجد وإقبالهم عليه- متعلقة بالصحابة الكرام.
صدمتني الكلمة حينها، كنت أتعجب أي دور يكون للمسجد إذا لم يؤسس تلك الرابطة القوية بين الجيل الأول المعلِّم وبين صغارنا الذين ينشؤون على قدوات خارقة متوهمة… ثم تفهمت ما عنت وتصورت؛ فإن كونها أما ومربية تساهم في تعليم الصغار أحيانا جعلها تستشعر بُعد ما بين الطائفتين، أيّ رابط سيربط أولئك الصغار المتفتحين للحياة وبهجتها بقومٍ ولى زمانهم؟ أي شعور سيجذبهم للجلوس والاستماع والحديث عن قوم لا يجدون بينهم صلة في الزمان ولا المكان…؟
هل كان الصحابة حقا تاريخا مضى؟
ربما نظرت صاحبتنا إلى الواقع، وربما أعذرها لأنها لم تتوفر لها الصورة الواضحة لما يجب أن تكون عليه الأجيال المؤمنة، فكثيرا ما يغيب عن أذهان أهل زماننا وتصوراتهم صورة النماذج التي تقدم أرواحها لله طوعا واختيارا، ويكون سلوكهم وتعاملهم في الحياة متَّسِقا مع ما في نفوسهم، متسما بطهارة النفس وعلو المبدأ وإيثار الآخرة.
وذلك لأنه قد غلب على وعيهم -مما اعتاد الناس رؤيته في مشاهد الحياة ومما قرره الإعلام وما صدره لهم بوسائله المتنوعة- أن الأصل غلبة النفس الجشعة المتكالبة أو المشتهية الطالبة، أو المندسة التي تبطن غير ما تظهر. ونحن هنا لا نعني صورة النقاء الخالص والمثالية التي يظنها البعض فينأى عنها مفضلا واقعية مبتذلة، إنما نعني الأصول التي نبني عليها وترتفع من فوقها الأركان.
فإن الإنسان جُبِلَ على التطلع إلى مثلٍ أعلى، إلى صور بشرية نصحت نفسها ونصحت لغيرها فكانت علامات فارقة، وإنه كذلك ليستوحش من خلو الطريق ممن يشبهه أو يكون له عونا يأنس به ويتذكر به ويراجع معه مسلكه وهديه. ولذلك جاء القرآن من أول سورة مبينا أن لسلوك طريقه معالم واضحة، فهو طريق المهتدين، طريق من جعلوا الحق الذي أنزله الله منهجا يُتعبد به ويظهر أثره بين الناس. وفي ثنايا الكتاب جاء ذكر أصناف المهتدين، وجاء الثناء على صحبة النبي صلى الله عليه وسلم يرفع قدرهم ويببن مكانتهم، ليس لتكون سيرتهم ومواقفهم مجرد قصص تروى وحكايات بطولية غابرة، بل ليكونوا أهل الاقتداء، فهم رواد مدرسة النبي الذين نقلوا علمه وهديه وسنته وأقاموا برسالته بناء صلبا للإنسان وحضارة ترتفع به، لا حضارة تقضي عليه.
فهل مازلنا نحتاج لهم؟
وإن كان الزمان غير الزمان والأرض قد ابتلت بمن أفسد فيها وقلب موازينها، فإن ذلك أدعى وأحرى بأن تكون سير أولئك المهتدين، أولئك الذين سعدت بهم الأرض زمانا لما أضفت عليه من القيم والمعاني الإحيائية، أول ما يتلقى أبناؤنا وينغرس في نفوسهم الصغيرة المحبة للحق والخير، ليتعرفوا على ملامح الإنسان الذي يتهذب بالوحي كيف يكون، ليتعلموا كيف يأخذون من الهدي النبوي ما يصلحون به هذا الخرق ويسدون به هذا الخلل وذاك القطع، ليعرفوا أن في هذا العالَم من استقام حتى لقي ربه راضيا مَرْضِيا.
وإننا نشهد كيف يتعلق الصغار بل واليافعون الكبار بأساطير وقصص مختلقة حينا، وبنماذج نبغت ظاهريا وأخذت بأسباب القوة في مجال بعينه فأحدثت فيه فرقا حينا آخر. وهذا التفوق والنبوغ المادي الظاهر إن كان حرصا على ما ينفعها أوصلها إلى ما تريد، وإما أنَّ صدقها مع نفسها جعلها تكتشف بعض أسرار الكون وعلومه، أو أن طلبها بيقين لأمر من أمور الدنيا كالمال والشرف والقوة قد جعلها تحرز أعلى ما فيه فتكسبه وتُعرف به.
وإن كان أولئك فيهم بعض الخير الظاهر لأخذهم أسباب الوصول لبغيتهم، إلا أن الغالب على فتية اليوم هو الاغترار بالنماذج التي أخلَّت بالصدق والشرف، فما تطلب إلا إشباعا سريعا للنزوات والغرائز.
وإن النظر لهذا الأمر على أنه لا يعدو أن يكون ترويحا مباحا وتعلقا وقتيا ليعكس وعيا غائبا عما تصنعه الصورة المتكررة والرمز المعظم في ذهن الصغير والكبير من أثر، حتى إنها تجعل في ذهنه تصورا للنجاح والقوة وعيش الحياة ونعيم النفس وراحتها وأفكارها منطلقا من هذه الصورة المختلقة أو المصنوعة أو المعلولة، ثم تروح تقيم ذلك في عالمها على الأرض فلا تظفر بشيء! وإن لقيَت ما أرادت ففيه من النقص والغفلة واضطراب النفس ما يجعلها أسيفة مغبونة، فلا هي حصّلت ما ينفعها غدا ولا نالها من الطمأنينة والسرور ما ترتاح به.
فما قيمة جيل الصحابة ولم كان الأولى بالاقتداء؟
أما هذا الجيل الذي رباه نبي الإسلام صلى الله عليه وسلم، والذي حمل الرسالة وجعلها تصل أقاصي الشرق والغرب، لهو صورة لما يصنعه الإسلام في أبنائه إذا كان هو وحده المرَدَّ والمرجع، إذا كان الإيمان به قد استوى عوده حتى صار عقيدة لا تقتلعها شدائد الابتلاء ولا زخارف الحضارات وأباطيل الفلسفات والعقائد مهما علت وراج سوقها.
هذا الجيل قد نمَّاه الإسلام ورباه نبيه فأثمر حقلا ممتدا من الأشجار الباسقة، وإن الأجيال التي تتابعت من بعدُ لتأخذ عودا أو أعوادا من دوحة الإيمان فتزهر أفرادا هنا وهناك يعرف من يخبرهم أنهم نبْتُ الإسلام وأهله.
لقد انتقل دور الصحابة بعد وفاة نبي الإسلام إلى إبراز النموذج العملي الذي يحتاجه كل مسلم جاء بعدهم في الفهم والعمل واختيار الأقرب للنهج النبوي، ولقد حرص كل منهم ألا يثلم الإسلام من طرفه، ففي زمن الفتنة كان الثبات، وفي زمن البذل كان العطاء، وفي زمن الدعوة والتعليم كانوا الأشياخ الأثبات.
عرف الصحابة مطلوب ربهم منهم، وانطلق كل منهم يحققه بما منحه الله من قدرات وطاقات، لم يكن فيهم من أخذ طرفا فاشتط فيه أو بعد به، بل حفظوا الإسلام بميزان دقيق تعلموه من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهم الشهود على الأمة بعد نبيهم، ما فهموه وساروا عليه هو الأصل فيما استجد بعد غياب النبي صلى الله عليه وسلم، وبهم تُخط الحدود وتوضع العلامات فيتضح المشكل ويتبين صواب الحكم من خطئه. وليس المجال هنا للحديث عن فضائلهم وقدرهم وإمامتهم، وإنما نشير بإجمال إلى أثرهم في بناء شخصية الجيل الذي يعرف ربه وحدوده وهويته الخاصة.
لكن كيف نقدم تلك السير المضيئة ونجعلها صورا حية يتطلع لها الأبناء؟
لا بأس بداية أن تُقدم سير صحابتنا الأجلاء تاريخا وقصصا تشعل الحماس وتُعّرف الأبناء بأنهم أحفاد قوم أعزَّهم الإسلام فكانوا قمما وأبطالا مشوا على الأرض، لم تخترعهم قريحة مؤلف أو ترسمهم ريشة فنان، فإن من دعائم الهوية الانتساب إلى تاريخ عريق، وأنى كتاريخ المسلمين في العزة والأخلاق!
ثم على المربي والمعلم أن يكون ذا وعي وعمق يستلهم مواضع العبر والارتباط بواقع الأمة أو البيئة الخاصة، ويقدم من المواقف والسيَر ما يصل الصغار بتلك الثلة المباركة وما يجعلهم يجدون الشبَه والقرب. ومن خلال تلك النماذج البشرية الذين كانوا يوما كغيرهم غافلين عن معاني الحياة، غارقين في شهوات النفس، بعيدة عن التخلق بصور العدل والتراحم وغيرها من قيم الإسلام، يتعرف الصغار على عمل الإسلام في النفس السوية، كيف يصلحها ويغيّرها ويجعل منها النموذج الصالح الذي يُقتدى به.
تُخبر السير المباركة الأبناء أن هناك من أحب الله حبا خالط قلبَه فجاد بنفسه له، وأن ذلك ليس شأن الأنبياء وحدهم، وأن هناك من أحب النبي فوق حبه لنفسه كذلك فذاق حلاوة الإيمان، وأن الوصول إلى هذه المرتبة ممكن إذا فهم المسلم معاني الإيمان وتعلمها وعمل بها.
سير أعلامنا من الصحابة ومن تبعهم تجعل أبناءنا يرون أن هناك بشرا أدخلوا دين الله في البلاد والأمم حتى كان الغالب على الأرض في بعض الأزمان، وأن ذلك لا يختص بداعية أو شيخ متفرغ.
تجعلهم يرون مجالات العمل لدينهم والعطاء لأمتهم متعددة، متكاملة ومنوعة، فكما كان الصحابة أفرادا يحملون الأمة، يقوم كل منهم بعمل يمتد أثره ليشمل الأمة ليس في زمنه فحسب، بل إلى أن تقوم الساعة، فكذلك أجيال اليوم لو عمل كل منهم فيما يحسن وفي نفع نفسه وأمته بما تحتاجه لكان الأثر عظيما وفارقا.
والقيم والروابط بيننا وبين سادتنا الصحابة لا تنقضي، فقد كانوا الجيل الذي تظهر فيه آثار هذا الدين في النفس، وكيف تتحول به النفوس، فهم محل النظر ودليل العظمة وسرها والتي نبعت أصلا وفرعا من هذا الدين ونبيه صلى الله عليه وسلم.
لذلك فإن أبناءنا في بقاع الأرض، في الشرق وفي الغرب لهم أشد ما يكونون في حاجة إلى تمثل ذلك الجيل الذي نصر الله به الدين، وجعلهم أعوانا لنبيه صلى الله عليه وسلم وعلامة فارقة على صدقه وربانية منهجه وشريعته؛ بما أقاموه في أنفسهم من معالم الدين وما أصلحوا به الأرض من فهم وتطبيق.