العُصبة وأثرها في التغيير
كانت عصبية قريش عصبية قبلية؛ محور اجتماعها حول “القبيلة” والانتساب إليها، ولما جاء الإسلام كرسالة ربانية عالمية، اعتبر هذه العصبية عصبية جاهلية، تُخرج “حمية جاهلية”، وأراد الإسلام بناء عُصبة جديدة، ليست قائمة على الانتساب للقبلية، ولا الانتساب للقوم، ولا للغة، ولا لأرض.
فكل هذه الأشياء خارجة عن “اختيار” الإنسان؛ فالإنسان لا يختار قبيلته، ولا نسبه، ولا قومه، ولا لغته، ولا جنسه، ولا أرضه.
الفرق بين العصبية الجاهلية، والعصبة الإسلامية
أراد الإسلام تأسيس “عُصبة” جديدة، قائمة على “الحرية”؛ حرية الاختيار، والقدرة على التغيير، والسمو الإنساني، مهما كان الإنسان، ومهما كان جنسه أو قومه أو لغته أو أرضه! أراد الإسلام تأسيس “عصبة” على أساس الانتساب للرسالة الإسلامية.
ومن هنا كان ميلاد الأمة المسلمة؛ ميلاد قائم على أساس الانتساب لهذا الدين، والإيمان بهذه الرسالة، أو حتى الدخول تحت مظلتها، وهذا ما جعل بلال الحبشي مؤذن الرسول -صلى الله عليه وسلم-، وسلمان الفارسي من آل البيت؛ تكريمًا له، وكذلك حال كل إنسان انتسب لهذا الدين.
في العصبية الجاهلية: تكون هناك “حمية الجاهلية”، والانتصار والقتال ليس لأجل الحق، إنما لأجل العصبية، والدوران مع هذه العصبية لا مع الحق، والزهو والفخر هو لهذه العصبية وإن كان صاحبها فاسقًا مجرمًا.
أما العصبة -أو إن صح التعبير- العصبية الإسلامية: فإنما هي للحق، وللحق وحده، والانتصار والجهاد لأجل الحق، لا لأجل العصبية، والدوران مع الحق وحده، والشهادة بالحق وللحق وحده، والسمو فيها فقط للقائم بالحق، الشاهد بالعدل، والاعتصام فيها بحبل الله، وطريقها هو صراط الله المستقيم؛ وهذا هو سر جاذبية وعظمة هذا الدين.
تغلغل الجاهلية بين المسلمين
وبعد ميلاد الأمة المسلمة على هذا النحو، بدأت تعود إليها آثار الجاهلية مرة ثانية -مع بداية الملك العضوض- عندما بدأت تدخل عصبيات غير عصبية الانتماء للأمة المسلمة؛ فكانت عصبية “الأسرة الحاكمة”، وعصبية الملوك، ثم بعد سقوط الملك العضوض جاءت عصبيات أخرى كعصبية الانتماء للقوم والأرض.
وبعد بيان الفرق بين العصبيات، من ناحية القيمة والأخلاق والمبدأ، علينا أن ننظر إلى أثر هذه العصبية في بناء الدول وقيامها، بغض النظر على قيمتها الأخلاقية؛ فمن يلاحظ سنن قيام الدول، يجد أنها تقوم على “عصبية ما” أو “اجتماع ما”، سواء أكان سيادة أسرة، أو لغة، أو جنس، أو قوم، أو فكر… إلخ.
وتكون هذه العصبية هي محور الاستقطاب، ومحطة تجميع الطاقات، وأداة التوجيه، والقوة الضاربة للتدافع والصراع.
وفي سنن انهيار الدول، نجد أن هناك عصبية تنهار، وتحل محلها عصبية أخرى… فمثلًا: سقطت “العصبية الأموية” لتحل محلها “العصبية العباسية” -وإن كان كلاهما في إطار الملك العضوض-.
كيف يجب أن نسير للوصول إلى التحرير
وإذا نحن نفكر في عودة “الحكم الرشيد” وتحرير بلادنا من الطغيان والهيمنة والاستبداد، فلا بد أن نبحث عن “عصبية” راشدة وحقة؛ وأصح عصبية واجتماع هو الاجتماع على الانتساب للأمة المسلمة، والإيمان بهذه الرسالة، والاعتصام بحبل الله سبحانه وتعالى.
ولكن -وللأسف الشديد- هذا الاجتماع الآن لا يعطي نفس الزخم، والقوة، والحيوية، والحركة التي كان عليها يوم ميلاد الأمة المسلمة أول مرة؛ نتيجة عملية التجريف الفكري والنفسي للمسلمين، ونتيجة الزعم بأن الإسلام مجرد عبادة وشعيرة، لا شأن لها بواقع الحياة، ونتيجة عمليات الهجوم الثقافي العلماني على الرسالة الإسلامية؛ لتفريغها من مضمونها، ومن أهدافها.
ولا بد للبحث عن صيغة لعصبية حقة، تعطي زخمًا، وقوة، وطاقة تستطيع أن تصل إلى معادلة التغيير، فالمسلم الفرد يستطيع أن يغير ما بنفسه بغض النظر عن أي اجتماع أو عصبية، ولكنه لا يستطيع التغيير على مستوى القوم، أو المجتمع، أو الدولة لو ظل وحيدًا بلا عصبة جامعة له، ومُوظِفة لطاقاته.
فعلى سبيل المثال: عصبية الدولة المصرية قائمة على “العصبة العسكرية” والانتساب لها، وهي العمود الفقري للدولة، وإذا أردنا تغيير هذه الدولة لا بد من وجود عصبية مقابلة لها تستطيع أن تحل محلها، وتستطيع أن تتغلب عليها، وتستطيع أن تجمع أفرادها، لتستفيد من طاقاتهم، وإسهاماتهم في “معركة التغيير”.
وقد كانت “عصبية الإخوان” ومن خلفها التيار الإسلامي تستطيع أن تصلح لهذا المواجهة، لكنها تحولت إلى “حمية جاهلية” وتعصب وغلو من جانبها القيمي والأخلاقي، وتحولت إلى “محرقة” للطاقات والشباب من جانب آخر لأنها تحللت من كل مظاهر القوة! فكانت مواجهة عبثية، تتخبط في التيه البعيد.
وأرى أنه لا بد من البحث عن صيغة جامعة لعصبية حقة، تكون لها مبادئ عامة جاذبة لأكبر عدد من المسلمين، ولنا في عصبية الشيعة التي استطاعت أن تقوم بـ “الثورة الإيرانية” درسًا وعبرة!
الأمل يقبع فيكم أنتم
وأرى في المخلصين من أبناء التيار الإسلامي، والذين سلِمت صدورهم من الغل، والحسد، والغلو، والتباغض، والشحناء… مادة عظيمة لعصبية جامعة، وتيار عام. ولنجاح بناء هذه العصبية الحقة لا بد من التحرر من سجن الذات، والشيخ، والجماعة، والتخلص من حب الزعامة والظهور، وفتنة الشرف والرياسة، وفتنة العلو والاستبداد…، والنظر بعين التضحية، والخدمة لهذا الدين، وتحرير هذه الأمة..
وهناك من يُأمّر نفسه بجهده وجهاده، وفكره وكفاحه، وإخلاصه وتجرده، ورشده وعقله دون انتظار جزاء أو شكور من أحد سوى رضى الله، وابتغاء وجهه الكريم، وأمثال هؤلاء هم القادة الذين يجب أن يُدفع بهم إلى زمام القيادة.
وإذا نجحنا في الاجتماع -بإذن الله-، فقد أخذنا أول خطوة على طريق التغيير، وإذا فشلنا -لا قدر الله- فنحن بحاجة إلى معالجة أمراضنا الداخلية أولاً؛ لأن الفشل يأتي منها.
ولقد عمل الأعداء على تدمير كل مظاهر العصبية، وكل صور الاجتماع… وجعل الإنسان سجين ذاته، وهمه فردي فقط، وإن كان همه لأمته؛ فتأثيره في نطاق محدود محكوم!
ولا بد لخلق صورة لعصبية حقة بأي شكل من الأشكال لتكون هي بداية لطريق التغيير… على صراط الله المستقيم.