الهجرة إلى الحبشة.. الغاية والعائد على الدعوة في حينها

مرت الدعوة الإسلامية بالعديد من المراحل التي ثُبتت فيها أسسها ودعاماتها، إلا أن بعضها كان فترة ابتلاء وأذى لهم. وهذا لأن قريش حاربت هذا الدين بكل الأشكال، وقد تجرَّع المسلمون مرارة العذاب والإهانة من قريش طيلة فترة وجودهم في مكة. لكن الله تعالى سرعان ما فرج عن رسوله والمؤمنين معه، إذ أوحى إليه بالهجرة إلى الحبشة. وغيرت هذه الهجرة مسار الدعوة الإسلامية كثيرًا، حيث استُخلصت منها العديد من المعاني والعبر.

إذن سنتناول بإذن الله موضوع الهجرة إلى الحبشة وأسبابها ونتائجها، ثم سنتطرق للحديث عن الفرق بين واقع هجرة المسلمين اليوم وبين الحبشة قديمًا.

ما معنى كلمة الحبشة

اسم الحبشة هو اسم أطلق على الأرض التي تواجدت فيها أمة الأحباش، وهذه الأخيرة هي هضبة مرتفعة غرب اليمن والبحر يفصل بينهما، وكانت دولتهم تسمى أثيوبيا ولها عاصمة باسم أديس أبابا وهي إلى وقتنا هذا ما زالت بنفس الاسم. وقد كانت دولة نصرانية إلى أن هاجر المسلمون إليها فانتشر الإسلام فيها انتشارًا سريعًا، وأسلم كل من فيها عدا فئة قليلة تواجدت في أديس أبابا بقيت متمسكة بالدين المسيحي.

أسباب الهجرة إلى الحبشة

لم يأت حدث الهجرة إلى الحبشة سدىً، فقد كانت هناك عدة عوامل وراء ذلك، ومن أبرزها:

تعذيب كفار قريش للمسلمين

لا يخفى أن قريشًا مارست جميع أنواع التعذيب على المسلمين عندما اكتشفوا أنهم اعتنقوا الإسلام في محاولة يائسة منهم لردهم عن الإسلام. وقد صبر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم صبرًا عظيمًا جراء المعاناة التي كانوا يتجرعونها، إلى أن أذن الله تعالى لهم بالهجرة إلى الحبشة والخلاص من العذاب والمعاناة.

نصرة دين الإسلام

لقد كان تبليغ الدين الإسلامي ونصرته هو المقصد الأول عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، حيث إن حمايته من أوجه الكفر والضلال كان الهدف الأسمى لديهم. وكان من نصرة الله تعالى لدينه الحنيف أن رزق المؤمنين الصبر والسلوان على العذاب تقويةً لدينهم إلى أن فرج الله عنهم كربهم وأزال الضر عنهم. إضافة إلى ذلك فإن الله تعالى أراد أن يهدي أهل الحبشة وينقذهم من ظلمات الجهل والكفر بإيصال رسالة محمد صلى الله عليه وسلم إليهم.

تغيير مسار الدعوة الإسلامية

عندما انتقلت دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم من الدعوة سرا إلى الجهر بها أمام الملأ، بدأت العقبات تظهر أمام رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين لنشر دين الإسلام. وقد جاء حدث الهجرة إلى الحبشة بمثابة تحول في مسار الدعوة إلى الإسلام، بحيث انتشر الإسلام في الحبشة وذاع صيته بين البلدان المجاورة وكانت تلك بداية المجد الإسلامي.

تحري الأمن والسلم

كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يشفق على أصحابه عندما يرى من التعذيب والفتنة التي كانوا يتعرضون لها، وكان يزداد حزنه أكثر لعدم قدرته على مساعدتهم بأي شيء سوى أمرهم بالصبر واحتساب الأجر عند الله. لهذا نزل الوحي من الله تعالى أن يأذن لهم الرسول عليه الصلاة والسلام بالهجرة إلى مكان آمن وسالم من الظلم والعدوان لينجوا بدينهم ويعيشوا غانمين آمنين.

لماذا اختار الرسول صلى الله عليه وسلم الحبشة؟

قد يتبادر إلى أذهانكم هذا السؤال، لماذا الحبشة بالضبط؟ لماذا لم يختر رسول الله صلى الله عليه وسلم الشام أو الفرس أو الروم؟ هنا سنتعرف على الأسباب التي دفعت الرسول صلى الله عليه وسلم إلى اختيار الحبشة:

عدل ملك الحبشة

جاء في الحديث الذي أخرجه البيهقي في سننه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال مخاطبًا أصحابه: “إنَّ بِأرْضِ الْحَبَشَةِ مَلِكاً لا يُظْلَمُ عِنْدَهُ أحَدٌ، فَالْحَقُوا بِبِلَادِهِ حَتَّى يَجْعَلَ اللهُ لَكُمْ فَرَجاً وَمَخْرَجاً مِمَّا أنْتُمْ فِيهِ”. وتبين لنا عبارة “لا يظلم عنده أحد” أن النجاشي كان يعرف بإقامة العدل وكان لا يسيء ولا يظلم أي امرئ ينزل عنده ضيفًا. لهذا كان في الهجرة إلى الحبشة حكمة بالغة من الله تعالى إذ أوحى لرسوله بأن يأذن للمسلمين بالهجرة إلى النجاشي.

نصرانية الملك النجاشي

قال الله تعالى: {لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِّلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا ۖ وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُم مَّوَدَّةً لِّلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَىٰ ۚ ذَٰلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ} [المائدة: 82]. وهذه الآية نزلت في النجاشي وتعامله اللين مع الصحابة المهاجرين، بحيث إنه استقبلهم وأكرم ضيافتهم مقارنة بالمشركين الذين عذبوهم وحاولوا ردهم عن دين الحق.

نشر الإسلام في أرض أخرى

عندما جهر الرسول عليه الصلاة والسلام بالدعوة إلى الإسلام، نهض كفار قريش وتصدوا له وآذوه أشد أذية وعذبوا أصحابه. ولما رأى الرسول عليه الصلاة والسلام أن قريشًا لم ولن تقبل دين الإسلام، جاء الأمر الإلهي لإعطاء الإذن للمسلمين بالهجرة إلى الحبشة للحفاظ على هذا الدين ونشره بين الناس.

عدد الهجرات إلى الحبشة

جاءت الهجرة إلى الحبشة مقسمة إلى هجرتين مختلفتي الزمن، وسيأتي بيان كل منهما في الفقرة الموالية.

الهجرة الأولى

جاءت الهجرة الأولى في شهر رجب بعد مرور 5 سنوات على البعثة النبوية، وبلغ عدد المهاجرين 12 رجلًا و 4 نساء منهم ابنة رسول الله صلى الله عليه وسلم رقية مع زوجها عثمان. ولم يكن هؤلاء المهاجرون من المستضعفين، وإنما كانوا من أشرف القبائل وأشهرها في قريش. فقد كان معهم جعفر بن أبي طالب والزبير بن العوام وعثمان بن عفان وعبد الرحمن بن عوف ومصعب بن عمير. وقد تسللوا ليلًا واستأجروا سفينة عند ميناء الشعيبة وغادروا قبل أن تدركهم قريش.

وقد كانت حكمة بالغة أن أرسل الرسول صلى الله عليه وسلم أشراف القبيلة للهجرة إلى الحبشة لملاقاة النجاشي، وهذا حتى لا يعتقد أنهم مجرد عبيد هربوا من أسيادهم طمعًا في الحرية. وأيضًا لعدم قدرة المشركين على إيذائهم كونهم أبناء أشراف القبيلة.

وعندما وصلوا إلى الحبشة أكرم النجاشي ضيافتهم واستقبلهم أحسن استقبال، فقد روي عن سلمة أنها قالت: “لما نزلنا أرض الحبشة جاورنا بها خير جار النجاشي أمِنَّا على ديننا وعبدنا الله تعالى لا نؤذى ولا نسمع شيئا نكرهه”. لكن لم يمكث المهاجرون طويلًا في الحبشة، ففي شوال من نفس العام سمعوا أن كبار قريش كلهم اعتنقوا الإسلام وأقاموا هدنة مع المسلمين. وعادوا في طريقهم إلى مكة، لكن عندما شارفوا على الوصول اكتشفوا أنها كانت مجرد إشاعة وأن قريشًا أصبحوا أشد قسوة عليهم.

وحقيقة تلك الإشاعة أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يقرأ سورة النجم عند الحرم، وعندما وصل آية {فاسجدوا لله واعبدوا} لم يتمالك كبار قريش أنفسهم فسجدوا. لكن كبرهم دفعهم لأن يكذبوا ويقولوا أنهم سمعوا رسول الله يذكر آلهتهم فسجدوا.

الهجرة الثانية

عندما استقر المهاجرون السابقون في الحبشة وعاشوا بأمان هناك، فكر العديد من المسلمين الموجودين بمكة باللحاق بهم إلى الحبشة للعيش هناك. وقد أذن لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك، إلا أن الأمر صار أصعب من ذي قبل لأن قريشًا اكتشفت ذلك وقررت أن تحول بينهم وبين الهجرة بأي طريقة ممكنة.

لكن مع ذلك، استطاع المسلمون الفرار من كيد قريش ووصلوا إلى الحبشة، وقد كانوا أكثر من أعداد المهاجرين الأولين بحيث بلغ عددهم 83 رجلا و19 امرأة. واستقبلهم النجاشي خير استقبال ليعيشوا في أمن وأمان ويعبدوا الله بحرية وطمأنينة.

موقف قريش من الهجرة إلى الحبشة

لم يكن موقف قريش تجاه الهجرة إلى الحبشة موقفًا جيدًا، فعندما سمعوا بهجرة المسلمين إلى الحبشة سرعان ما أرسلوا رجلين منهم وهما عمرو بن العاص وعبد الله بن أبي ربيعة. وذلك حتى يخبروا النجاشي أن هؤلاء الذين جاؤوا إليك هم هاربون صابئون عن دينهم كي يردهم إلى قريش. فجاؤوا مع كمية كبيرة من الهدايا للنجاشي وأساقفته لاستلطافه لينفذ لهم طلبهم، لكنهم فشلوا في ذلك بسبب إقناع جعفر بن أبي طالب للنجاشي بصدق دين الإسلام.

نتائج الهجرة إلى الحبشة

أسفرت الهجرة إلى الحبشة عن العديد من النتائج التي سيرد ذكرها كما يلي:

الأمن والأمان على المسلمين في الحبشة

من أهم النتائج التي حققتها الهجرة إلى الحبشة هي توفير الأمن والأمان للمسلمين في الحبشة، إذ إن النجاشي منحهم حصانة وحماية ضد كيد قريش مما جعلهم يعيشون في أمان وسلام.

حرية ممارسة الشعائر الدينية

فور منح النجاشي الإذن لهم بالمكوث في الحبشة، اكتسب المهاجرون حرية ممارسة شعائرهم الدينية الإسلامية بعيدًا عن كل أشكال التعصب. كما أنهم تعايشوا مع النصرانيين وبدؤوا بنشر الإسلام بالحوار والكلمة الطيبة بين الناس.

انتشار الإسلام

نتج عن الهجرة زحف الإسلام إلى أرض الحبشة، وبعد ذلك انتشر الإسلام بسرعة بين قبائلهم ليهُمَّ جميع أطراف البلاد ما عدا فئة من النصارى الذين بقوا محافظين على دينهم.

غضب قريش ونيتهم قتل الرسول صلى الله عليه وسلم

أدى فشل قريش في استرجاع المهاجرين من الحبشة إلى تغيير خططهم، وبدأوا يفكرون في قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم للحد من هذا الدين. وهكذا توالت المكائد والخدع للإيقاع برسول الله عليه الصلاة والسلام، إلا أنها باءت جميعها بالفشل.

التمهيد للهجرة الكبرى إلى المدينة

المسجد النبوي بالمدينة المنورة

لم تكن الهجرة إلى الحبشة سوى تمهيد للحدث الأكبر الذي رسخ الإسلام وجعله شامخًا، ألا وهو الهجرة إلى المدينة المنورة. فقد كان من حكمته سبحانه وتعالى أن وفق المسلمين للهجرة إلى الحبشة ومكَّنَهم من اكتساب هذه التجربة لإعادة تكرارها في حدث الهجرة الكبرى إلى المدينة.

الفرق بين واقع هجرة المسلمين الآن وبين الحبشة قديمًا

شتان بين الهجرة إلى الحبشة والهجرة في يومنا هذا، ففي زمن النبي صلى الله عليه وسلم كان نشر الدعوة هو الهم الوحيد لدى كل المسلمين. أما واقع الهجرة اليوم فإن الأغلبية الساحقة أصبحت تهاجر لأغراض دنيوية إلى بلدان أجنبية يغمرها الكفر والضلال. وصار حيز التفكير في نشر الإسلام وتبليغ الدعوة ضيقًا للغاية، فما أكثر الملهيات الآن وما أكثر أعداء الإسلام الذين يسخرون كل طاقاتهم لمحاربة هذا الدين.

لكن مع وجود بعض الفئات الصالحة التي لا زالت تفكر بنهج الدعوة الإسلامية، فإن خيار الهجرة لا زال مطروحًا. فقد أخرج النسائي والإمام أحمد عن عبد الله بن السعدي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “لا تنقطع الهجرة ما قوتل العدو”.

بناء على ما نشهده على أرض الواقع، أصبح المهاجرون الآن يتوافدون على بلاد الكفر كثيرًا كل حسب ظروفه ونيته، لكن الشرع حدد شروطًا وضوابط لا بد أن تتوافر في المسلم في حال أراد المكوث في بلاد الكفر.

يقول أشرف الخلق عليه الصلاة والسلام في حديث أخرجه أبو داوود والترمذي وصححه الألباني: “أنَا بَريٌ مِنْ كُلِّ مُسْلِمٍ يُقِيمُ بَيْنَ أظْهُرِ الْمُشْرِكِينَ”، وهذا إن دل على شيء فهو يدل على تحريم المكوث بين الكفار. لكن هذا يشمل الخائفين بدينهم، فقد قال حافظ ابن حجر أن هذا الحديث محمول على من لم يأمن على دينه.

أما من كان ثابتًا بدينه وقادرًا على إقامة شعائره فيجوز له البقاء، بل وله أجر الجهاد في سبيل الله لقوله تعالى: “وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ” [فصلت: 33]. فما دام المسلم الداعية مستوفيًا لضوابط المكوث في بلاد الكفر، فإن من واجبه الدعوة إلى الله بالتي هي أحسن.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى