اختيارات المحرر

شركات التمويل متناهي الصغر: تساهيل ظاهرها الرحمة وباطنها الهدم

في أحد الأيام ادّعى أحد النصّابين قدرته على توظيف الأموال بمعدلات ربح شهرية خيالية تصل إلى 60 بالمائة في العام الواحد فتكالبت الكثير من نساء القرية لبيع حُلِيّهن أو التصرف في الأموال التي يرسلها أزواجهن إليهن كوديعة للزمن ممن يعملون خارج البلاد، فسلّمن تلك الأموال لهذا الشخص من وراء أزواجهن واستمتعن لفترة قليلة بالعائد الوهمي من وراء ذلك، وأصبح الجميع على يوم أسود هرب فيه هذا الشخص بعد جمع عشرات الملايين من القرية ثم ما لبث أن مات منتحرًا بـ”حبة الغلة”1 تاركًا وراءه مئات النساء في ورطة ما لبثت شركات الإقراض والتمويل أن تلقفتها وفتحت لهن خزائنها لقروض سريعة يمكن لهن من خلالها إعادة شراء الذهب المباع أو المبالغ التي كان يرسلها أزواجهن كحل سريع. لكن سرعان ما تكشفت الكارثة الأكبر حيث خرجن من مشكلة ليقعن في مشكلة أكبر لم تنج غالبهن منها: فوقعت عشرات حالات الطلاق، وسجن البعض، وانتحر البعض، وتم تسوية حالات أخريات بجهود أهل الخير. 

تعاني مجتمعاتنا العربية من مشكلات لا حصر لها نتيجة حالة التجريف الحضاري والنحر الاجتماعي الذي تقوم به مؤسسات قوارض الأعداء؛ ممن ينتمون للأمة بأجسادهم وللأعداء بقلوبهم وهواهم ومصالحهم، والتي زرعت في مفاصل شبكة علاقاتنا الحافظة لقوى الأمة بمختلف تجلياتها: السياسية والاقتصادية والاجتماعية لتهدمها.  

يحكي هذا المقال جزءًا ضئيلًا أو لنقول ذرة من ذرات التخريب في المجتمع: قصة قرية مصرية وقعت في براثن الفهم الخاطئ للتعامل مع المال فتحولت حياة نسبة غالبة من أبنائها إلى جحيم لا يطاق من الربا والديون والهموم التي خربت أسر كثيرة فيها وما زالت تفعل فعلها الفتاك بضحايا جدد كل لحظة حتى يفيق المجتمع من سباته وغفلته وتقوم مؤسسات المجتمع وأغنياؤه بأدوارهم الحقيقية، ويوضع المال المسلم حيث أراده الله وهي عملية تحتاج رجال يقومون عليها حق القيام من العاملين عليها. 

تاريخ أسود يتم استنساخه 

مجموعة من الفلاحين يقترضون أموالًا من أحد المرابين اليهود
لقطة لمجموعة من الفلاحين يقترضون أموالًا من أحد المرابين اليهود في القاهرة سنة 1868 (الجزيرة)

تعيد مصر في العقد الثالث من القرن الحادي والعشرين ما كانت قد تخلصت منه منذ أكثر من قرن عندما انتشر المرابون الأجانب من اليهود واليونانيين في الريف المصري يغرون كبار الأعيان وصغار الفلاحين لرهن أراضيهم مقابل أموال سهلة أنفقت في الغالب على رغبات ترفيهية أو لسداد ديون تراكمت بسبب الفقر وضنك المعيشة. فاليوم يعود المرابي اليهودي أو اليوناني في صورة جديدة مصرية يقننها القانون ويشجع عليها ضمن ما يسمى بحزمة التنمية وتمكين النساء والمجتمعات الفقيرة للخروج من براثن الفقر متمثلة في مؤسسات التمويل متناهي الصغر.  

تلك الشركات الربوية التي تتخفى تحت مسميات براقة: تنمية المشروعات الصغيرة، تمكين النساء الفقيرات، تمكين الشباب، وغيرها من المسميات الخادعة التي تحمل في طياتها سموما اقتصادية لا علاج منها سوى البتر لأنها تترك إعاقات كبيرة داخل المجتمع والفرد والأسرة المصرية تنعكس آثارها على قيمه وتزعزع عقيدته وتسهل قابليته للاستعمار. 

سجل بياناتك واحنا هنكلمك: حلمك حلمنا 

شركات التمويل متناهي الصغر تعرض خدماتها بكافة صور الإعلان المغري: «بصورة البطاقة احصل على التمويل الذي تحلم به. عشان الرزق يزيد بالجماعة، قدمي على تمويل جماعي أنتي وأصحابك وجيرانك، بتمويل يصل إلى 5 آلاف جنيه لكل سيدة والعدد من 3 إلى 7 سيدات. كلمينا أو سجلي بياناتك هنا واحنا هنكلمك: الرزق يحب الزيادة.. حلمك حملنا وتمويلك عندنا. ميل علينا وقدم على التمويل! تمويل يبدأ من 5 آلاف جنيه لحد 15 مليون جنيه وفترة سداد حتى  48 شهر. قدم على تمويل من اللينك ده: احسب انت عايز تمويل كام وميل علينا!​ أو من الأبلكيشن ده، أو كلمنا على الرقم ده..​ استلم قرضك في نفس اليوم تمويـل مـن غيـر ورق وإجراءات كتيـر‼ متشلش هم الورق والضمانات لـو معاك حاجة مـن دول: بطاقـــة مثبــت بهــا أي وظيفـــة فيزا مشتريات منتظم في السداد أو حاصل على قرض بنكــي. رخصة عربية ملاكـي أو كارنيه نادى أو كارنيه ميديكال. مستنـي ايــه تواصل معنا».

هكذا تعلن شركات التمويل متناهي الصغر كما يطلقون عليها في القانون، من: تساهيل إلى تنمية مرورًا بريفي وكاش وتمكين ووسيلة وبدايتي وثقة ومكسب وإرادة وأرزاق والخير  وباقي الأسماء التي تبطن غير ما تظهر. 

ما أسباب انتشار شركات التمويل؟

استهلاك

وقد أسهم في انتشار هذه الشركات الربوية التدهور الاقتصادي الناتج عن تزايد الاستهلاك عن الإنتاج فحدثت الفجوة بين الدخل والاستهلاك التي تم ردمها عبر القروض، ومع تزايد الضعفاء والسفهاء الذين لا يستطيعون أن يواجهوا تكاليف الحياة لأسباب تخص عدم العدالة داخل المجتمع وفقرَ أو غيابَ ثقافة التدبير للمنزل؛ فتتدهور أحوالهم عبر استغلالهم من شبكات الربا المؤسسية المسماة شركات التمويل متناهي الصغر. 

كما ساهم في ذلك أيضًا انتشار أنماط الاستهلاك والبحث عن الربح السريع، والوهم الذي تملك كثيرين في قدرتهم على استثمار أموال القروض الفاحشة الفائدة وسدادها وتوفر أرباح تخصهم بعد ذلك. 

الطابور الخامس يوقع الفقراء 

وقد استطاعت تلك الشركات أن تجتذب شبابًا وشابات من كل قرية وأغرتهم بمرتبات عالية ومزايا كثيرة مقابل ما لديهم من معارف ومعلومات عن خبايا قراهم وفقراء بلادهم لاجتذابهم لمصيدة القروض سهلة الحصول عليها. ثم كونت تلك الشركات عن طريق هؤلاء خريطة لحالات الفقر والعوز داخل كل قرية.

بل إنها استطاعت من خلال العاملين فيها أن يُكوّنوا شبكة أخرى من المسوقين لتلك القروض من المقترضات بتحويلهن إلى سماسرة قروض أو محترفي تسهيل تلك القروض: فالبعض منهن يعملن على توفير بيانات وعناوين وأرقام هواتف من يعرفن بحاجتهن للقرض لدواعي المعيشة أو المشاكل الطارئة أو تزويج الأبناء وغيرها مقابل مبلغ مالي يحصلن عليه أو تسهيل سدادهن لما عليهن من قروض وعدم مطالبتهن بالطرق العنيفة التي تلجأ إليها تلك الشركات في تحصيل القروض التي تذهب بكرامة المقترض وتفضحه في مجتمع القرية. 

والبعض الآخر احترفن العمل كضامنات للقروض في المجموعات التي تحتاج لذلك مقابل جزء من قيمة القرض وتعهد موظف الشركة بعدم مطالبتهن بسداد القرض. 

مأساة قرية مصرية مع شركات وبنوك التمويل متناهي الصغر 

بدأ الأمر منذ حوالي خمس سنوات عندما جاءت قريبة لنا مع زوجها باكية تشتكي من أزمتها المالية الشديدة وكان مما قالته: أصبحنا مدينيين بمبالغ مالية كبيرة تتجاوز مائتي ألف جنيه، وحلت مواعيد سدادها كلها، وشركات الإقراض تطاردنا وليس لدينا ما نسدد به، وزوجي كما تعلم لا يعمل وأبنائي يرفضون مساعدتنا وأقاربي من الدرجة الأولى عرضوا علينا سداد الدين مقابل رهن بيتنا لمدة عام فإذا لم نسدد لهم تلك المبالغ يأخذوا البيت مقابل أموالهم (وهو مبلغ تافه بالمقارنة بالقيمة الحقيقية للبيت). قلت لها: ما السبب ومن أين أتيت بكل تلك الأموال؟ وكيف منحتك تلك الشركات هذه الأموال دون أي ضمان حقيقي؟ قالت: هذه الشركات تعطي الأموال لأمثالنا دون ضمانة عينية ودون وجود أي مشروعات نستغل بها تلك القروض. كل ما يطلبونه البطاقة الشخصية ومجموعة من النسوة الأُخريات يضمن القرض ببطاقتهن فقط. وكنت أُكوّن مجموعة فآخذ القرض وأُعطي كل واحدة منهن جزءًا منه وآخذ الباقي. فقلت لها: ولماذا أخذتِ كل تلك الأموال؟ وفيم أنفقتها؟ قالت: غالب هذه الديون فوائد على المبلغ الأصلي، والمبالغ الأصلية التي تبقت بعد نصيب الضامنات استخدمتها في تزويج بعض بناتي والإنفاق على معيشتنا اليومية. 

هذه قصة ضمن عشرات القصص التي أسمعها وأعيش تفاصيلها اليومية ومآسيها التي تنتهي بخراب البيت أو الطلاق أو تناول حبة الغلة انتحارًا وتخلصًا من هموم الدين واحتمالات السجن وتبعات الفضيحة المصاحبة لعدم السداد، أو العودة للاقتراض بعد إدمانه أو احترافه من النساء بسبب الفقر من جانب، وبسبب إدمان الاستهلاك من جانب آخر. 

والفقر الناتج عن الاستهلاك وإدمانه هما صنيعة الجهل بالدين والدنيا والأهم غياب مؤسسات التأهيل والتمويل التي تنقذ هؤلاء من الوقوع نار الربا وتبعاته الشنيعة. 

هل يمكن حل المشكلة؟

محمد يونس مؤسس بنك الفقراء في بنجلاديش
محمد يونس مؤسس بنك الفقراء في بنجلاديش

ما زالت هذه الكيانات الربوية تعمل على تفتيت شبكة علاقتنا الاجتماعية وتهلك الكثير من أسرنا وتنتج من الآثار السلبية الفادحة؛ التي ظهرت بعضها وبعضها في سبيلها للظهور. ولا يطلع صباح إلا وتقع عشرات الأسر والأفراد فريسة جديدة لهذه الشركات. 

وما زال البحث عن حلول جذرية لهذه المشكلة غائبًا لم تقم به الحكومة ولا الجمعيات والمؤسسات الأهلية ولا الحركات الإصلاحية ولا أغنياء الأمة حتى الآن، وسنُسأل جميعًا عن هؤلاء الأفراد وتلك الأسر التي تسقط كل يوم آخذة معها الأمة إلى حضيض الفقر والديون وما يجرونه من ويلات على كافة المستويات. 

هذا مع أن المشكلة ليست مستعصية على الحل إن وجدت الإرادة الحقيقية لدى أي طرف من الأطراف السابقة. وما تجربة بنك الفقراء في بنجلاديش2 منا ببعيد، وما تجربة بنك ناصر في مصر3 إن تم تطويرها بشكل جديد بعاجزة عن حل المشكلة، ولو تكاتف بعض أغنياء المجتمع لتم إطلاق مؤسسة حقيقية لتسليف الفقراء دون ربا ولو تم رصد جزء من أموال الصدقات والزكوات لتلك المؤسسة لما احتجنا لتلك الشركات التي تعمل واجهة للاستعمار الاقتصادي -علمت أو لم تعلم- ولأنقذنا ملايين النفوس من ذل الدين وذنب الربا، ولوفرنا لهم حياة طيبة حقيقية يستحقونها. 

هامش

  1. مبيد حشري يستعمل لحفظ الغلال من التسوس، تتكون من مادة فوسفيد الألمنيوم التي يخرج منها غاز الفوسفين عالي السمية والذي لا يتوفر له مضاد أو ترياق. ↩︎
  2. بنك الفقراء هو تجربة اقتصادية مالية هدفت إلى تغيير النظرة البنكية الجامدة للفقراء باعتبارهم غير مؤهلين لاقتراض الأموال لعدم قدرتهم على ردها لعدم وجود ضمانات لديهم وتدني قدراتهم الاستثمارية. تقوم فكرة البنك على تقديم قروض بدون ضمانات للأسر الفقيرة في المجالات المولدة للدخل والإسكان والتعليم والمشروعات الصغيرة. قدم البنك مليارات الدولارات لملايين الأسر الفقيرة منذ تأسيسه عام 1977 حتى الآن وقد تبنت فكرة البنك العديد من البلدان المختلفة. لمزيد من المعلومات: محمد يونس، عالم بلا فقر.ترجمة ريم عبد الحليم وإنجي حسين، مكتبة الشروق الدولية 2009م. ↩︎
  3. بنك ناصر الاجتماعي هيئة اقتصادية عامة ويهدف البنك إلى تحقيق التكافل الاجتماعي لجميع أبناء المجتمع لتتوافر لهم حياه كريمة من خلال نشاط التكافل الاجتماعي الذي يهدف إلي تحقيق التنمية الاجتماعية للمواطنين، وذلك بتنظيم جمع أموال الزكاة وصرفها في مصارفها الشرعية، ومنح قروض اجتماعية للمواطنين، ومنح إعانات ومساعدات للمستحقين لها، وتمليك وسائل الإنتاج لمستحقي الزكاة طبقًا للائحة التكافل المعتمدة من مجلس إدارة البنك. وقد بدأ نشاطه بافتتاح فرع واحد فقط هو فرع القاهرة فى 25 يوليو 1972 ثم واصل البنك انتشاره حتى وصل عدد فروعه إلى 94 فرع منتشرة فى جميع أنحاء الجمهورية. انظر الموقع الرسمي لبنك ناصر. ↩︎

عماد الدين عويس

باحث في الشؤون الدينية والسياسية، باحث دكتوراه في السياسية العامة، له مؤلفات عديدة من مقالات… المزيد »

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى